إضاءات حول المشهد السياسي الموريتاني

محمد بنمبارك (*)    

تعاقب على حكم موريتانيا منذ استقلالها نوفمبر 1960، تسعة حكام كان نصيب المدنيين منهم 2: الزعيم الراحل مختار ولد داده (1960/1978) وسيدي محمد ولد الشيخ عبد الله المنتخب ديموقراطيا والمُطاح به انقلابا (2007/2008) أما البقية (7) فَجُلُّهم من المؤسسة العسكرية، التي ظلت على الدوام متحكمة في دواليب الدولة.

حقبة الجنرال محمد ولد عبد العزيز:

وصل إلى الحكم عام 2008 عن طريق انقلاب أطاح بالرئيس المنتخب ولد الشيخ عبد الله، ظلت البلاد بعدها رهينة أزمات سياسية متتالية على مدى عشر سنوات (2008/2019)، بسبب ما ترتب عن هذا الانقلاب من معارضة قوية قادتها قوى سياسية: ديمقراطية وإسلامية ووسطية ومستقلة وجمهور عريض بالشار ع.

جاء اتفاق “دكار” التوافقي 4/6/2009 لوضع حد نسبي للمواجهة بين المعارضة وزعيم الانقلاب، بإجراء انتخابات رئاسية 7/2009 فاز بها ولد عبد العزيز، إلا أن هذه الانتخابات كانت نواة أزمات متجددة، بعدما رفضت المعارضة الاعتراف بنتائجها وظلت تطعن في شرعية حكمه إلى نهاية فترة ولايته.

عاشت موريتانيا فترات من التوتر والصراعات بين النظام والمعارضة، تعذر فيها على الجميع وضع حد لهذه الأزمة سواء بالتراضي أو الهزيمة أو النصر، فلا مطالب المعارضة برحيل الرئيس نجحت ولا احتجاجات بإسقاط النظام وجدت صداها، ولا مسالك الحوار والتفاوض للإصلاح وتقاسم السلطة جاءت بنتيجة، فظلت الكفة متأرجحة بين المعارضة التي تعزز نفوذها بدخول تيارات حقوقية سياسية للدفاع عن شريحتي الحراطين والزنوج على الخط، وبين نظام ولد عبد العزيز الذي ظل متماسكا قويا مستندا إلى دعم المؤسسة العسكرية والأجهزة الأمنية وسلطة المال، واستخدام ورقة المناصب العليا المدنية والعسكرية.

حقبة الرئيس محمد ولد الشيخ الغزواني:

بعد وصوله إلى سدة الحكم ستنحى الحياة السياسية بالبلاد منحى آخر في اتجاه الاستقرار والتهدئة ومسلسل التوافقات والحوارات. وتكاد تجمع آراء السياسيين والمراقبين وفئات من الشارع الموريتاني، على أن فترة حكمه الأولى (2019/2024) تميزت بالابتعاد عن أجواء الأزمات والصراع والتوتر التي كانت طاغية في عهد سلفه. سعى فيها إلى إحداث تغيير جدري باعتماد نمط جديد في الحكم لتجاوز حالة الانسداد واللاشرعية.
قام الرئيس ولد الغزواني بعدة مبادرات في الاتجاهات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والامنية لإعادة ترتيب الأوضاع بالبلاد وإخراج المؤسسات الدستورية من وضعية عدم الشرعية، والعمل على وضع أسس ديمقراطية بالتنسيق مع الأحزاب السياسية من مختلف المشارب سعيا لتحقيق الاجماع السياسي على مشروعه تحت شعار التغيير والإصلاح والدمقرطة.
في هذا السياق تم تقليص عدد الاحزاب السياسية إلى 25 حزبا، بعد حل 76 حزبا، تطبيقا لقانون الاحزاب 2012 المعدل 2018، بهدف إعادة ترتيب المشهد السياسي ووضع حد للفوضى الحزبية. وبغاية القطيعة مع نظام الرئيس السابق، بادر ولد الغزواني منتصف 2022 إلى اعتماد اسم وشعار جديدين للحزب الحاكم، فتحول حزب “الاتحاد من أجل الجمهورية” المُؤَسَّس 2009، إلى “حزب الإنصاف”.
وكان أهم ما ميز العهدة الأولى للرئيس ولد الغزواني، التوصل إلى اتفاق سياسي بين الحكومة والمعارضة 9/2022 بعد سلسلة من الحوارات، يقضي بضمان مشاركة أحزاب المعارضة في تحضير وتنظيم الانتخابات مع تعديلات على نظام الاقتراع. هذا الاتفاق مهد الطريق لخلق أجواء التصالح بين الدولة والمعارضة وبقية الأحزاب، والتحضير للانتخابات في ظرف اتسم بالتوافق الوطني والخروج من دوامة اليأس وانعدام الثقة، بعد عُشَرِية التطاحن والصراع السياسي. ــــــــ ضجة نتائج الانتخابات التشريعية 2023:
لم تأت نتائج الانتخابات العامة/ مايو 2023 بجديد، فكرست فوز الحزب الحاكم “الانصاف” بأغلبية مُريحة (107 من 176 مقعدا نيابيا)، واكتساح أغلب المجالس الجهوية (15) والمجالس البلدية (238)، فيما خرجت أحزاب المعارضة التقليدية، الديمقراطية والتقدمية اليسارية، التي قادت العمل السياسي منذ إعلان الديمقراطية التعددية 1991، وخاضت حوارات الاتفاق السياسي مع الحكومة واعتادت التواجد بالبرلمان، خرجت خاوية الوفاض 0 مقعد، باستثناء التجمع الوطني للإصلاح والتنمية (تيار إسلامي، 11 مقعدا). فيما توزعت 58 مقعدا بين أحزاب وسط وصغرى.
لم تجر الرياح بما تشتهيه السفن، فالنتائج جاءت مخيبة لآمال أحزاب المعارضة، لم يجد معها قادتها من بُد سوى الطعن في نتائجها والمطالبة بإلغائها، مشككين في نزاهتها وصحتها، معتبرين أن بنود الاتفاق السياسي بين المعارضة والموالاة والحكومة لم تطبق، وأن العملية الانتخابية عادت بالبلاد إلى الوراء، بالشكل الذي حرم الشعب الموريتاني من التعبير عن إرادته.
ــــــــ قراءة في نتائج الانتخابات:
المتتبع لمسلسل الانتخابات التشريعية والجهوية والبلدية، في محطاتها الثلاثة الأخيرة، 2013، 2018، 2023، سيلاحظ أنها متطابقة من حيث الاقبال والمشاركة والنتائج والانعكاسات والردود، حيث يعيد المشهد الانتخابي نفسه دون تغيير يذكر.
فقد ظل الحزب الحاكم “الاتحاد من أجل الجمهورية” في استحقاقي 2013 و2018 يهيمن على البرلمان وبقية المجالس، وهي النتيجة التي كرستها انتخابات 2023 مع حزب “الانصاف” بديل “الاتحاد “، فيما تقهقرت أحزاب المعارضة التقليدية. وبذلك تكون الأحزاب التي تخوض معارك الحوار الوطني وتقود المفاوضات مع النظام لتحسين شروط وظروف الانتخابات وتحصين صناديق الاقتراع من التلاعب، هي مَن تخسر رهانها، بل إنها تسجل تراجعا وتدنيا مثير للقلق. وهو التحول الذي يربك قراءة المشهد السياسي ونتائجه.
لم تكتف أحزاب المعارضة بالاحتجاج السياسي والإعلامي على الانتخابات، بل تقدمت بعشرات الطعون الانتخابية، غير أن المجلس الدستوري رفض 36 طعنا، وقرر إجراء تحقيق مركزي لاقتراع واحد، فيما ذهبت المحكمة العليا إلى إصدار قرار بإعادة الانتخابات في دائرتين بلديتين فقط. هذه الاحكام تفيد بعدم وجود خروقات أو تزوير وما شابه ذلك وإلى سلامة العملية الانتخابية. لذلك يظل الجزم بما ذهبت إليه المعارضة من اتهامات بالتزوير أَمْر مُعَلق. اللهم الضجة السياسية والاعلامية التي أثارتها والتي تجاوزت الحدود وذهب صداها بعيدا.

عوامل القوة والضعف بين الفاعلين السياسيين:

1ــــ المعارضة: تضم 6 أحزاب مرجعياتها الايديولوجية مختلفة بين ديمقراطية علمانية وإسلامية ويسارية تقدمية وقومية ناصرية وبعثية واجتماعية حقوقية عرقية، منذ انقلاب 2008 ظلت المعارضة حاضرة في المشهد السياسي كطرف رئيسي في المواجهة مع النظام، تارة ثورية وأخرى تفاوضية بحثا عن توافقات لضرورات انتخابية تتخبط فيها بين المقاطعة والمشاركة، مما أربك خطها السياسي. فالطريقان معا لا يستويان وفشلا في النهاية، فلا إسقاط نظام ولا إصلاح حقيقي، ولا مكانة قوية داخل المشهد السياسي.
عجزت المعارضة في أكثر من مناسبة عن الاتفاق على التقدم بمرشح واحد للرئاسيات مما أضعف حظوظها. تعاني أيضا من انسحاب بعض قياداتها وشتاتهم، كما تواجه صعوبات في تطورها بعد انهيار معظم الايديولوجيات، التي تبنتها، وانحسارها الفكري والشعبي عربيا وعالميا، كما تصطدم بتراجع الإقبال والانتماء بسبب المتغيرات التي تفرضها المحطات السياسية والمصالح. مما يضعها أمام صعوبات النهوض بأدوارها المنتظرة وبلوغ هدفها الأسمى في الوصول إلى السلطة، ثورة أو انتخابا. باتت المعارضة مطالبة بدل الارْتِكان إلى لازمة الطعن الانتخابي، القيام بتحليل عناصر قوتها وضعفها، وأدوات اشتغالها وتأثيرها لتحقيق أهدافها وطموحاتها، والتفاعلات والتوازنات فيما بينها وما بين منافسيها في الساحة السياسية.
2 ـــــــــــ الحزب الحاكم “الانصاف”: يتمتع بشعبية كبيرة وله مناصروه بمختلف مناطق البلاد، خطه السياسي واضح، وأدوات اشتغاله وأساليب استقطابه ثابتة، تعتمد على القبائل وحضور المال، والتحالف مع شخصيات سياسية وازنة ورجال أعمال وأبناء عشائر بأموالهم ومكانتهم ونفوذهم وانتشارهم، هذا فضلا عن مشاركة عناصر الجيش وقوات الامن في الانتخابات مما يمنح الحزب الحاكم امتيازا متقدما مقارنة مع بقية الاحزاب المنافسة. لذلك ظل الحزب الحاكم على الدوام مُهَيْمن على الساحة السياسية، يتعزز بتحالف مع أحزاب صغرى من الوسط تخدم أجندته السياسية(الموالاة).
3 ـــــ أحزاب بخلفية حقوقية سياسية مدافعة عن شريحتي الحراطين والزنوج، تمكنت من اتخاذ خطوات تدريجية تصاعدية لفرض مكانتها السياسية بحكم وزنها الاجتماعي والديموغرافي، للدفاع عن حقوقها المدنية السياسية والاقتصادية والاجتماعية. مما أهلها الحضور في الانتخابات الرئاسية والتشريعية. وباتت رقما هاما في المشهد السياسي.
4 ـــــ أحزاب صغرى تتوزع بين الموالاة والمعارضة، سجلت حضورا لافتا في الانتخابات الأخيرة 2023، بعد حصولها على مقاعد نيابية تعزز مكانتها كقوى سياسية جديدة.

الرهان الانتخابي بدل الانقلابي:

لن يكون من المبالغة القول بأن الانتخابات عامة بموريتانيا أصبحت تكتسب مع الوقت مصداقية، وباتت في الظرف الراهن تشكل العمود الفقري للوضعية السياسية بالبلاد، بل يمكن اعتبارها كأداة ديمقراطية للتغيير والتناوب على كرسي الحكم، وعلى تسيير شؤون البلاد، حكوميا، تشريعيا، جهويا ومحليا، وهي قناعة باتت راسخة لدى الموريتانيين، لاسيما الطبقة السياسية، يعكسه التوجه نحو طي صفحة الانقلابات والشعارات الثورية، واستشراف المسارات المستقبلية التي ترسمها نتائج الانتخابات.
أكبر التحديات المطروحة أمام موريتانيا تكمُن في بلورة سبل للتحكم في الدينامية التي تؤسس وتدير الانتخابات القادمة، وتعرض باكورة نهجها وأدائها الديمقراطي المنصف والنزيه، لتجاوز حالة تكرار سيناريو التظلمات والطعون والازمات التي تعقب كل عملية انتخابية. ويظل نجاح التجربة الديمقراطية الناشئة في موريتانيا رهينا بوجود مؤسسات دستورية قوية محصنة، إلى جانب حضور مميز لمعارضة متماسكة منسجمة قادرة على تحقيق التوازن في اللعبة السياسية.
وستظل 2028/2029 محطة حاسمة مفصلية لمستقبل موريتانيا، وفق ما ستتضمنه الاستحقاقات الانتخابية على كافة المستويات، في مقدمتها الرئاسية بعد استكمال الرئيس الحالي مدته الدستورية في الحكم. فهل ستعيد بلاد شنقيط شريط الاحداث بصورته المزعجة وإنتاج أزمات جديدة، أم أنها مقبلة على تعزيز نهجها الديمقراطي بتكاتف جهود كافة الفاعلين السياسيين، يكون فيه الوطن/الدولة فوق أي اعتبار.
إغراءات التطلع نحو مرحلة سياسية واعدة، تقابلها إكراهات بالغة الأهمية، تتعلق بالتحديات السياسية والامنية الاقليمية، التي تفرض نفسها كضيف ثقيل على موريتانيا. وعلاقة ذلك بالوضع بمنطقة الساحل والصحراء كامتداد طبيعي للمجال الاستراتيجي للأمن القومي الحيوي لموريتانيا، وتشابك المصالح الاقتصادية وتعقيدات العلاقات السياسية مع دول المنطقة، التي قد تنزعج بعضها من مشروع البناء الديمقراطي الحداثي الموريتاني ولا تنظر إليه بعين الرضى، في الوقت الذي لازالت شعوبها تعاني من الاستلاب السياسي والديمقراطي.

الكاتب : محمد بنمبارك (*)     - بتاريخ : 22/07/2024

التعليقات مغلقة.