تعززت المكتبة المغربية بإصدار جديد ومهم تحت عنوان « الريف زمن الحماية الإسبانية»، وهو في الأصل أطروحة دكتوراه لميمون أزيزا، والتي أشرف عليها المفكر رونيه غاليسون، المعروف في الأوساط الجامعية المغربية بكفاءته ومعرفته بالمغرب، وتمت ترجمتها مرة أولى إلى الإسبانية سنة 2003، قبل أن ترى النور باللغة العربية السنة الماضية، وذلك بدعم من مجلس الجالية بالمغرب ورئيسها إدريس اليزمي، وأشرف على الترجمة كل من محمد حاتمي وجمال حيمر في منشورات ملتقى الطرق2021.
طبعا هذا الكتاب جاء ليسد فراغا في الأعمال المخصصة للاستعمار شمال المغرب من طرف إسبانيا، وهي أعمال جد نادرة مقارنة بغزارة الإنتاج حول المنطقة الوسطى للمغرب، والذي أنتجته الأنثروبولوجيا الكولونيالية الفرنسية حول المغرب. ويقول الباحث حول هذه النقطة، « نظرا لطابعه الهامشي، فإن الاستعمار الإسباني لم يحظ بما يكفي من الاهتمام الأكاديمي، ليس فقط من طرف الباحثين المغاربة، بل كذلك من المهتمين الأجانب بتطور الدولة والمجتمع المغربيين…» ، وهو ما يجعل عددا كبيرا من الباحثين يختزلون الحقبة الاستعمارية للمغرب في الاستعمار الفرنسي، نظرا للطابع الهامشي الفقير الذي كان عليه الاستعمار الإسباني للمنطقة الشمالية.
ويبرز الباحث في هذا الكتاب نوعية وخصوصية الاستعمار الإسباني للمنطقة الشمالية للمغرب، وهو استعمار كانت له أهداف متواضعة مقارنة مع نظيره الفرنسي.
لكن أهمية هذه الأطروحة حول استعمار إسبانيا لشمال المغرب هي أنها بينت «مكامن التحول الطارئ على المجتمع الريفي خلال نصف قرن من الزمن، وسط آليات التطور وما نجم عنها من مضاعفات مست البنيات والعقليات والولاءات …والعلاقة بالدولة المركزية، ثم تمديد كل هذا بالدولة الحامية بعد انسحابها.»
واختار الباحث في هذا الكتاب تتبع التحول الذي عرفه المجتمع الريفي بشمال المغرب وظهور العمل المأجور، وتكون طبقة من المأجورين بالإضافة إلى ظاهرة الهجرة نحو الجزائر وكيف ساهم الاحتلال الإسباني للمنطقة في تكون بروليتاريا كانت مجبرة على البحث عن موارد إضافية تغطي بها على فقر موارد المنطقة. وهذا الاختيار للباحث بدأ بالعنوان» الريف زمن الحماية الإسبانية، 1912-1956 الاستعمار الهامشي «، وهي أطروحة حاولت رصد حالة التهميش التي تسبب فيها هذا الاستعمار الفقير والتحولات الاجتماعية التي أحدثها بالمنطقة، وظهور العمل المأجور للتعويض عن تفكك البنيات الاقتصادية المحلية.
بالإضافة إلى جانب التحولات الاجتماعية التي تسبب فيها الاستعمار الإسباني للمجتمع الريفي ببروز العمل المأجور والبروليتاريا بالمنطقة وظاهرة الهجرة خارج المنطقة خاصة في اتجاه وهران التي كانت تحت السيطرة الفرنسية، فإن الكاتب ميمون أزيزا قام أيضا في هذا العمل بتقييم لدور الاستعمار الإسباني في المنطقة، « إنجازات الحماية الإسبانية التي تمت تحت يافطة «الحداثة والعصرنة»، وإن اتسمت في أغلبها بضعف الوتيرة وقلة التمويل مما جعلها نسبية إلى أقصى الدرجات « وأضاف أن التحولات التي طرأت على المجتمع الريفي لم تكن لصالح السكان بل أساسا من أجل إرضاء مصالح المستثمرين الأجانب. لكن رغم ذلك فإن السكان استفادوا من بنيات الطرقات التي تم إحداثها وكذلك من حملات التلقيح بالإضافة إلى إحداث إدارة مغربية مرتبطة بإدارة الحماية.
ويرى الباحث أن جزءا من التهميش الذي عاشه الريف بعد الاستقلال المغرب، يرجع إلى الإرث الكولونيالي، «فعند حصول المغرب على استقلاله، كانت المنطقة على رأس الجهات الكبرى الأكثر فقرا والأقل تجهيزا.»
ومن أجل تتبع التحولات التي تسبب فيها التواجد الاستعماري الإسباني بمنطقة الريف لمدة نصف قرن، فإن الباحث ميمون أزيزا قسم بحثه إلى ثلاثة أقسام:
في القسم الأول من هذا العمل، تم التطرق لمنطقة الريف كمجال اقتصادي وكيان تاريخي واجتماعي وقام بحصر ومعرفة المؤسسات التقليدية بالمجتمع الريفي قبل دخول نظام الحماية الإسبانية كما تم التطرق للبنية الاقتصادية للمنظومة الاستعمارية التي ركزت، حسب الباحث، على الاستغلال الزراعي والصناعي والمناجم والأشغال العمومية، والتي كانت تعمل لوضع بنية تحتية بالمنطقة، وكيف أثر العمل المأجور على البنيات التقليدية للمجتمع الريفي، في حين، تطرق الجزء الثاني من هذا العمل إلى مخلفات الاستعمار الإسباني على المجتمع الريفي، والتفقير الذي تعرضت له المنطقة جراء حرب الريف ودور الإدارة الاستعمارية في تفكيك البنيات الاقتصادية التقليدية التي كانت تعتمد على الأرض.
أما الجزء الثالث لهذا العمل المتميز فقد تطرق للتحولات الكبرى المترتبة عن المواجهة، والتي كانت تارة عنيفة وتارة هادئة، حسب الباحث، بين البنيات الاجتماعية التقليدية الريفية والنظام الاقتصادي الرأسمالي الإسباني في صيغته الاستعمارية، وظهور الهجرة الدائمة إلى خارج المنطقة، وكذلك العمل المأجور الذي يعتبر أكبر تحول بالمجتمع الريفي.
الباحث في هذه الدراسة القيمة التي أغنت المكتبة حول تاريخ المغرب بهذا العمل الجديد خاصة حول المنطقة الشمالية التي عانت من التهميش حتى في مجال البحث الأكاديمي، تتبع ظاهرة العمل المأجور الذي كان أحد آثار التواجد الاستعماري بالمنطقة، وبروز ظاهرة الهجرة نحو الجزائر تحت الاحتلال الفرنسي قبل أن تصبح ظاهرة دائمة تمس المنطقة وتنتشر إلى باقي البلدان الأوربية، بالإضافة إلى رصد خصوصية الاستعمار الإسباني بالمنطقة الذي كان يغلب عليه الطابع العسكري، بل إن الانقلاب على الجمهورية الذي انطلق من شمال المغرب وتزعمه فرانكو كان مكونا من ضباط عملوا بالمغرب، لهذا فاستعمار المنطقة الشمالية للمغرب كانت له انعكاسات على إسبانيا نفسها التي لم تكن لها إمكانيات قوة استعمارية من أجل تحقيق أهدافها.