كلما تقدمت في السن وفي النضج الثقافي والمعرفي، ازددت اقتناعا بأن كثيرا من الأشياء والمسائل، والقضايا مما وصلنا، ومما نعيشه ونعايشه، ومما لا يزال مدفونا في الأضابير والمخطوطات، ومتواريا في الخزائن الخشبية المختومة أو الحديدية الموصدة، ومنسيا مبعدا في متاحف أوروبا وغير أوروبا، يحتاج إلى فحص وتمحيص مجددين، ومعاودة قراءة فاعلة ومسؤولة لا منفعلة وراضية. ويحتاج إلى إعمال المباضع والمناهج، وطرق العلوم المستحدثة، وأدوات الحفر والقلب والتنقيب الناجعة والمجربة من أجل الوقوف على حقائق تلك القضايا والمسائل والموضوعات، وتصفيتها من الشوائب، ومما علق بها من الترهات والخزعبلات والخرافات، ونزوات بعض المؤرخين والنساخين، والوراقين، والكَتَبَة عند الطلب، ووفق الأوامر والنواهي.
ذلك أن ما نردده ونتداوله من أفكار وشواهد، وأحداث ووقائع وتواريخ، كاذب في أكثر وجوهه وخلاصاته، لأن مقدماته ومنطلقاته منتحلة و«مفبركة»، ومختلقة اختلاقا، ومبيتة، رامت، ضمن ظروف واشتراطات وسياقات، و«معاذير»، إعلاء من رغبت في إعلائه، وطمر ذكر من تقصدت طمره وإعدامه.
والأدْهى والأَمَرُّ، أن ذلك «المصنوع» المصطنع و«المخدوم»، يلج مطمئنا، وقد ولج من زمان، المقررات والبرامج والمناهج الدراسية. ورحنا نلقن الناشئة أفكارا وقضايا رجراجة، خاطئة، ومنبتة عن تربة الواقع، شاذة بحكم القياس والمنطق والتجربة، والعقل المتسائل الخلاق. يستوي في ذلك ما ارتبط بالدين والتفاسير والأحاديث، وتاريخ السلاطين، والفلسفة الإسلامية، وما اتصل بمدونة الأدب والشعر، والأمجاد «الموهومة والمتوهمة»، والبطولات المنفوخ فيها، والمصورة تصويرا تضخيميابالونيا، تنفجر بمجرد لمس قشة هشة من تبن، فما بالك بإبرة.
فلا نحن وظفنا، بعد استيعاب وتمكن، التراث الرشديوالخلدوني، والعقلاني العربي بعامة، والنهضوي الليبيرالي التنويري لا في ما يشبه المزج والعجن والخلط، بل بما يبرز معرفتنا و» عبقريتنا» في مقايسة ضعفنا بقوة فكرهم، وعلاج أدواء تأخرنا، وأعطاب قراءاتنا بسبر أبعاد معرفتهم وثقافتهم، وما يثوي عميقا متلألئا متوهجا من روح استشرافية عابرة ومتوثبة دوما تنتظر من يقبض عليها لينفخ بها أرواحا قلقة هي أرواحنا، وعقولا محطمة هي عقولنا. وليرمم بها ثقوبا غائرة في سور وجداننا الفردي والجمعي، وفي إسفنج ضمائرنا المعذبة. ولا نحن أخذنا بقوة كتاب فولتير وروسو، ومونتيسكيو، وكوندورسي، وديكارت، وسبينوزا،وكانط،وديدرو، وغيرهم.
لقد وضع طه حسين اليد على أصل الداء، وعلى أسباب أخرى مسؤولة عن ركودنا وجمودنا، وأبلى البلاء العلمي الديكارتي المطلوب في واقع عربي إسلامي متأخر يتغيا النهوض و«الصحوة»، فكان جزاؤه عرمرم من الشتائم والسباب، والتكفير والتفسيق، واتهامه بموالاة الصهيونية العالمية، وخدمة «أجندة» صليبية خارجية. ثم انسحب هذا الموقف العدواني المندفع الأهوج على كوكبة مضيئة من مفكري وأدباء النهضة الإسلاميين، والعرب المسيحيين بشكل أخص. وما عَتَمَ أن تراجعت بدايات التنوير، وتقدمتالكلامولوجياالنكوصية، والهيجان الغوغائي مستقويا بالأنظمة العسكرية الحاكمة، وبالأنظمة الدينية الوهابية حيث رأت في الهجمة الشرسة، تأبيدا لحكمها، وتأييدا إلهيا لها من قِبَل من ندبوا أنفسهم ناطقين بلسان السماء، ما جعلها تحكم القبضة، بوساطة، قضاة/فقهاء مأجورين، على أعناق ذلك «الفكر الكافر»، وتزج ببعض منتجيه في غيابات السجون، وبالبعض الآخر بالأحكام الرعناء، وبالتخويف والترهيب إن هم عادوا إلى حمل أقلامهم وإعمالها في نبش الخرافة المندسة، والجيف العفنة والمتحللة.
إن تأليب الرأي العام من لدن فقهاء الظلام على المفكرين الأحرار، ومبدعي وحراس قيم الحق والخير والجمال، بفرية الهرطقة والزندقة والإلحاد، وبدعوى استهداف الكتاب والسنة والجماعة، هو ما أخرنا من حيث إنه جعل الأقلام المتوهجة ترفع، وجعل المحابر التي يأتلق حبرها ويضوع روحا وريحانا، تجف وتنشف، وتستحيل ذرات غبار.
فالأمر لا يعود، في تقديري، إلى انسحاب المثقفين المتنورين تلقائيا مما طوقوا به أنفسهم، وفي مقدمته: الصدع بلسان الحق، والنقد الباني الخلاق، وخلخلة الثوابت والمسكوكات، وإنما إلى خوفهم من جبروت الطواغيت الباطشين بالرأي الحر، وأصحاب الرأي الحر حتى رُمُوا ـ جورا وظلما ـ بالجبن والموالاة، وابتداع المبررات. إذ قلة منهم من استمرتدائسة متحدية تنين الخوف،ورافعة لواء الحرية، حرية التفكير والتعبير والضمير بما هي حقوق كونية إنسانية، لا يحق لأحد، مهما أوتي من سلطان، وفي أي موقع كان، أن يصادرها أو يجهز عليها، وعلى حاملها المؤمن بها، والمجتهد في تصريفها وبلورتها في ما يقول، ويكتب، ويفكر، ويدعو، ويحرض. قلاع المناوئين لهؤلاء، المغفلين والمستغفلين لعامة الناس، وأوسع الطبقات الجماهيرية المغبونة، ستتصدع يوما، بل وتنهار، إنْ لم تكن إرهاصات ذلك قد بدأت تتلامح وتومض في أفق منظور يحجبه ضباب كثيف يتبدد شيئا فشيئا بفضل شمس المعرفة الوهاجة التي لا تَنِي تشرق وإن غربت. فالدوران حتمي، والتحول مفروغ منه. والنمور الورقية تتقصف، وقلاع الماضي لا بد أن تتهاوى مهما صمدت في وجه العاصفة والتيار، وأنهار التاريخ المتدفقة الجارفة.
ولئن كانت الأوضاع الاجتماعية والثقافية والتعليمية، تكذب تفاؤلنا، وواقع الناس يعاكس تصورنا، ومنظورنا في واقع العزوف العام عن الكتاب والثقافة والسياسة، واستفحال ظاهرة التسطيح والتبسيط المخل، والضحالة في مباشرة الرقميات، والتخلف الموقوت عن مواكبة واحتضان الذكاء الاصطناعي المهول، وعدم انخراطنا في مجتمع المعرفة، ومنطق العصر الإبدالي، فإن معركة النهوض بالتربية والتعليم، ومَوْقَعَتها في معمعان وقلب الحراك العلمي والتكنولوجي المتسارع، وعولمة محتوياته ومضامينه من دون التفريط في لغته وعبقرية أبنائه، وخصوصياته الثقافية المركبة الدينامية والجدلية، من شأنها (أي المعركة والتي هي ثقافية وحضارية في الآن ذاته)، أن تخرجنا رويدا رويدا، من تأخرنا، وتلحقنا بالمجتمعات المتقدمة المتمدنة الفائرة، أندادا مساهمين ومشاركين في موكب الحضارة الكونية الذي يتقدم بشمسين على يمينه ويساره. وما ذلك بعزيز علينا إذا حضر العزم والهمة، إذ الهمة درَّاكَة بتعبير فقهي متنور.
إشــــــــارة:
(نمور من ورق): عبارة مثقلة بالمعاني والدلالات التاريخية. وهي عبارة شهيرة أطلقها الزعيم ماوتسيتونغ، واصفا بها: الأمبريالية الأمريكية تحديدا، والسائرين في ركابها. لكن اتضح، فيما بعد، بأنها نمر حقيقي شرس وهصور.