خدوج سلاسي .. التحولات المجتمعية بين أزمة القيم و منطق الصيرورة

يلاحظ المهتم السوسيولوجي أن تعدد وتجدد الوسائط الثقافية واضطرارية التعامل مع مراجع مختلفة، عوامل لعبت دورا أساسيا على مستوى التفرد والتشخصن

التحولات الاجتماعية والقيمية تغيرات مركبة، متداخلة، لا ذاتية ولا شخصية، تتوارى فيها الذات المفردة الفاعلة والواعية

يعيش مغربنا اليوم مجموعة من التحولات المتفاوتة العمق والمتباينة في الأثر على المستويات السياسية والحقوقية والاجتماعية والقيمية، لدرجة أصبحت معها هذه التحولات واقعا وضعيا موضوعيا قابلا للمقاربة والقياس لو توفرت معه وله الشروط العلمية والمعرفية والمقتضيات الرصدية والإجرائية التي يشي بها التقدم الحاصل اليوم في مجال العلوم الإنسانية عموما وفي مجالي السوسيولوجيا والأنثروبولوجيا تحديدا.
ولعل المواكب لهذه التحولات بكل تجلياتها في المغرب الحديث على الأقل منذ التسعينيات يقف على تسارع وتائر التغير والتطور التي حدثت في مجتمعنا، سواء على المستوى الديمقراطي والحقوقي والبناء المؤسساتي، أو على المستوى الاقتصادي والتنموي وما رافق ذلك من تطورات في البنيات التحتية، أو على مستوى التحولات المجتمعية الثقافية والقيمية.
وقد يلح عليه سؤال الدهشة والانبهار حينا، وقد يتملكه الميل إلى الرفض والمقاومة حينا آخر.
ويعود هذا الموقف المرتبك المزدوج في تقديري إلى طبيعة التحولات الاجتماعية ذاتها.
فالتحولات الاجتماعية والقيمية تغيرات مركبة، متداخلة، لا ذاتية ولا شخصية، تتوارى فيها الذات المفردة الفاعلة والواعية، وهو الأمر الذي يحيل على تحديد الظاهرة الاجتماعية في بعديها التشييئي والموضوعي عند «دوركايم» عندما كان بصدد القطع مع التفسيرات الغيبية وإرساء دعائم المدرسة العلمية الوضعية في مجال السوسيولوجيا .
وتجدر الإشارة في هذا السياق إلى أن العناصر المركبة المتداخلة في التحولات المجتمعية تشتغل بوتائر متفاوتة، فوتيرة التحول الاقتصادي تعمل وفق متوالية هندسية (…,1,2,4,16) أي بسرعة أكبر من وتيرة التحول الثقافي والقيمي المعياري الذي يسير طبق متوالية حسابية (…1,2,3,4)، ولعل هذا ما يفسر عدم التساوق بين التغيرات الاقتصادية ذات الطابع الكمي والتغيرات الثقافية والقيمية ذات الطابع الرمزي على الرغم من العلاقة القائمة بينهما في تناول مارس لمفهوم البنيتين الفوقية والتحتية .
إن أبرز التحولات المؤسسة لمجتمعنا اليوم، وذات التأثير الفعلي في التغيرات الاجتماعية الخارجة عن الإرادات الواعية والقصدية، تعود عند المهتمين برصد مسارات التحول والتطور المجتمعيين إلى ثلاث مؤشرات أساسية، منذ السبعينيات، ظهرت آثارها جلية في العقود الثلاثة الأخيرة :
– الانتقال الديموغرافي، حيث انتقل المغرب من قرابة خمسة ملايين في بداية القرن العشرين، إلى 20 مليون في نهاية القرن، وبعد تجاوز الذروة ظل بلدنا في تصاعد مستمر ومستقر، ليعرف تراجعا نسبيا في العقود الثلاثة الماضية، وترجع المندوبية السامية للتخطيط تراجع النمو الديموغرافي إلى عوامل متداخلة، أهمها الانخفاض الملحوظ في معدلات الخصوبة، حيث تم الانتقال من 7,2 في حدود السبعينيات إلى 2,1 حسب إحصاء 2014. واليوم يشهد المغرب تحولا تدريجيا من شكل الهرم إلى المنطاد، من اتساع القاعدة إلى اتساع الوسط.
– مؤشر الإقلاع الثقافي الناتج أساسا عن تعميم التعليم، وانخفاض درجات الأمية والأدوار التي لعبتها المدرسة العمومية الوطنية في إنتاج الكفاءات والنخب، وكذا تنامي إصدارات الكتب المغربية… إلخ.
– ارتفاع مؤشر التمدن؛ أي تراجع كتلة الساكنة القروية لصالح الإقامة في المدن، وهو مؤشر في تقديري يستحق أن تكون له مقاربة منفردة، فهو لم يحظ بعد بالدراسة والتحليل المطلوبين خصوصا على المستويات السوسيولوجية المجالية في أفق الجواب على إشكال أساسي: هل انتقلنا فعلا في العشريات الأخيرة إلى المدن الدامجة المستوعبة لحركات الهجرة؟ هل وفرنا من خلال رؤية استراتيجية لسياسات عمومية متوالية عوامل الاستقرار الضامنة لحياة متوازنة ومتكاملة في الأوساط القروية على مستوى توطين الاستثمارات الملائمة لمحيطها، وتمتيع الساكنة القروية بمختلف مرافق الخدمة العمومية؟ فهل يتعلق الأمر نتيجة هذه التحولات بتمدن القرى أم بقرينة المدن؟
ثم إن الانتقال الديموغرافي، ليس مجرد تغير في الأرقام تكشف عنه عمليات الإحصاء الوطنية، إذ له تداعيات اجتماعية واقتصادية وتأثير على المنظومات الثقافية والقيمية.
– لا يمكن اليوم أن نتجاهل التغيرات القوية في بنية الأسرة المغربية وانتقالها التدريجي من الأسرة الواسعة الممتدة القائمة في عمقها على قيم الجماعة والقبيلة إلى ما يسمى بالأسرة النووية الناشئة وفق قيم فردانية جديدة، بل ظهر في المجتمع المغربي ما يسمى بـ»الأسر أحادية الوالدية «mono parental»، وخصوصا أسر تقودها وتعولها بشكل حصري نساء وذلك نتيجة إكراهات اجتماعية جديدة ودخول المرأة إلى الدورة الاقتصادية الحديثة من بوابة القطاعين المهيكل وغير المهيكل بشكل خاص.
من بين التداعيات الملحوظة للتحولات المجتمعية الكبرى أيضا، ارتفاع معدل سن الزواج (27 سنة تقريبا بالنسبة للفتيات) وانخفاض معدلات الخصوبة بشكل تدريجي منذ أواسط السبعينيات لينتقل من 7,25 إلى قرابة2,1 حاليا قبيل الإحصاء الوطني لـ 2024، وكذا ارتفاع الأمل في الحياة نتيجة تطورات المنظومة الصحية، ونظم العيش (74,8) في العشريات الثلاث الأخيرة.
ونتيجة التحولات في بنية الأسرة تنامى الاستثمار المادي والعاطفي تدريجيا في الأطفال، فانتشار الاحتفال بأعياد ميلاد الأطفال ليس في تقديري صدفة ولا تقليدا لثقافة غربية حديثة دخيلة، فلقد تم الانتقال من مركزية الأبوين في الأسرة النووية ذاتها إلى مركزية الطفل، وأصبح الاستثمار المادي في دراسة الأطفال ومستقبلهم المهني على رأس أولويات الأبوين، خصوصا في الطبقات المتوسطة، الأمر الذي له آثار متوسطة وبعيدة المدى على مستوى صناعة النخب المستقبلية، فتكون مفهوم الفرد على حساب مفهوم الجماعة ليظهر تدريجيا مفهوم الفردانية كقيمة جديدة لم تعتدها المنظومة القيمية القديمة.
– ومع تقلص ملحوظ في أدوار المؤسسات التقليدية للتنشئة الاجتماعية -الأسرة أساسا- انخرط الشباب في معارك لتأكيد الفردانية والاستقلالية وأخذ المسافة من البنيات الفكرية والقيمية العتيقة، وأصبحنا أمام ظاهرة التعدد والتشظي القيمي والمعياري، وأمام ازدواجية جديدة تحاول الإمساك بطرفي القديم والجديد. فعلى الرغم من الثبات في المعايير العقدية والفكرية المشتركة، فتح المجال أمام التنوع والاختلاف، وأمام شرعية جديدة، شرعية التعايش بين المختلفات المنتمية إلى أزمنة متباينة (على مستوى الأفكار والقيم والذوق وأنماط الأكل واللباس والأثاث والسكن … إلخ).
– لقد أدت التحولات المجتمعية المركبة والمتداخلة إلى تغيرات مست المكتسب الثقافي الجيلي أو ما يسمى بالرأسمال الثقافي لكل من الأب (أو الأم أحيانا) والابن، ففي العقود الثلاثة الأخيرة -وبقدر وارد من المجازفة- حدث تقارب نسبي بين الرأسمال الثقافي لكل منهما، بل أصبح أحيانا المكتسب الثقافي الجيلي للابن (أو الابنة) أكثر ارتفاعا مع تملكه الأفضل لوسائل التكنولوجيا الحديثة، بكل ما يرافق ذلك من إحساس بالندية وصراع على المرجعيات الثقافية.
وفي هذا السياق يلاحظ المهتم السوسيولوجي أن تعدد وتجدد الوسائط الثقافية واضطرارية التعامل مع مراجع مختلفة، عوامل لعبت دورا أساسيا على مستوى التفرد والتشخصن نظرا لاختيارات الذات المفردة التي لم تعد بالضرورة تنتج سلوكياتها وتمثلاتها وأشكال تفكيرها وعيشها من النمط العام والمشترك. لذا نجدنا اليوم وبعد تحولات مجتمعية هامة تحت طائلة صراع الأجيال لأننا لم نفلح بعد في تحقيق الانتقال الجيلي المطلوب على غرار باقي الانتقالات (الانتقال الديمقراطي، الانتقال الديمغرافي، الانتقال الرقمي، الانتقال الطاقي….الخ).
إنه سياق مجتمعي يعاد فيه اليوم طرح سؤال المنظومة القيمية: ففي ظل أهم التحولات المذكورة قد يحدث نوع من الخلخلة في منظومة القيم، التي يراد لها في تصور «ستاتيكي» متجاوز، أن تكون ثابتة ومطلقة باعتبارها منظومة لا تاريخية ضدا عن كل عوامل التحول والتغيير، الشيء الذي أدى إلى الانسياق نحو التفكير التبسيطي القاضي بانهيار القيم وانحلال المجتمع، فتنامى الهلع المجتمعي رافعا عنوان انهيار القيم، هلع شبيه بما رافق انهيار اليقين في الرياضيات في القرن التاسع عشر إثر ظهور هندسة جديدة .

فهل نحن فعلا أمام أزمة القيم، أم أزمة معرفة ناتجة عن سوء فهم للتحولات المجتمعية وتداعياتها الثقافية والقيمية؟

بفعل التحولات المجتمعية، وبالبطء المعهود في التغيرات الثقافية والمعيارية، يحدث نوع من التدافع داخل منظومة القيم، كمنظومة غير ثابتة وغير منغلقة بشكل مطلق، تستقر فيها قيم، وتخرج منها قيم، وتدخلها قيم جديدة في إطار دينامية جدلية بطيئة ومتطورة. فقد بينت وقائع وأحداث عرفها المجتمع المغربي كحادثة الطفل ريان، وأحداث الحوز الأليمة مثلا استقرار قيمة التضامن المجتمعي والجماعي، كما ظهرت اليوم قيم جديدة في سياق التحولات السياسية والحقوقية والاقتصادية والثقافية، كقيم العدالة والحرية والتسامح والاختلاف والمساواة وقيمة العمل، إنها عناصر جديدة لمنظومة قيم تتشكل تساوقا مع السياقات الجديدة ويفترض أن تبدد جزءا مهما من «هلع الانهيار الأخلاقي والقيمي».
إن المتتبع للتحولات المجتمعية لا يمكن أن يجزم في تقديري بحدوث قطائع سوسيولوجية، قياسا على تلك التي حدثت في تاريخ العلم، وذلك لأن التحولات ذات الطابع الإنساني المركب في مجالات الديمغرافيا والسياسة والديمقراطية والثقافية…إلخ، تقوم على منطق التراكم لأحداث التغيرات الكيفية، التي قد يصعب فهمها واستيعابها وتملكها. لذا قد نجد اليوم أنفسنا تحت وطأة رجة التحول، لوجودنا في موقع حرج وشائك ناتج عن حنين للقديم الذي لا زال بيننا، والذي يشكل جزءا من منظومة أحكامنا أو لا وعينا العام، وكذا ناتج عن» سوء تكيفنا المؤقت» مع الجديد الذي لم نستوعبه ولم نتملكه بعد بشكل كاف وجماعي.
– إنها في تقديري فرضيات مفسرة بشكل أولي لبعض المفارقات التي نعيشها اليوم في المجتمع المغربي نتيجة التحولات الكبرى الاجتماعية والثقافية والقيمية في بلادنا .

 

* عضو المكتب السياسي للاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية
 نائبة برلمانية


الكاتب : خدوج سلاسي *

  

بتاريخ : 29/07/2024