الإرادة السياسية للدولة احتضنت تطلعات المحامين وشملتها بالتأطير الدستوري و المؤسساتي

لا أحد يجادل اليوم، كون الحركة التقدمية و الديمقراطية ببلادنا ، و من أهم روافدها الأساسية الحركة الاتحادية عبر مسارات تأسيسها و نشأتها و توهجها و انكساراتها، احتضنت خيرة الأطر
و الكفاءات و الفعاليات من شتى مشارب العلوم و التخصصات، و من مختلف المهن من محامين و إعلاميين و أطباء و مهندسين و رجال و نساء التعليم … ساهموا جميعا منذ فجر الاستقلال في بناء المغرب الحديث سواء من خلال مؤسسات الدولة و تقويتها و تحديثها ، أو من خلال النضال من داخل إطاراتها السياسية و النقابية و المدنية، و القيام بالمهام التمثيلية في الهيئات المنتخبة من برلمان و مجالس ترابية، و هيئات مهنية و إطارات إقليمية و دولية.
و في هذا السياق لا بد أن نسجل بمداد الفخر و الاعتزاز الدور الرائد الذي لعبه المحامون المغاربة عموما عبر هيئاتهم و منظماتهم و قطاعاتهم الحزبية، و بواسطة جمعية هيئات المحامين بالمغرب، و غيرها من الإطارات المهنية، في انخراطهم الواضح و نصرتهم للقضايا العادلة وطنيا و دوليا، و انحيازهم لنضال القوى الوطنية و الديمقراطية من أجل إرساء دعائم دولة الحق و القانون و المؤسسات، و استماتتهم في الذود عن مبادئ و قيم حقوق الانسان و الحريات الفردية و الجماعية.
إن هذا الانخراط الواعي المبكر للسادة المحامين أنتج قامات مهنية و نضالية قدمت في سبيل قناعاتها تضحيات جسام توزعت بين الاغتيال مثل الشهيد عمر بنجلون، و الاضطرار للاغتراب مثل الفقيد النقيب عبد الرحمان اليوسفي، و تحمل محن الاعتقال و السجن مثل القائد الاشتراكي الكبير عبد الرحيم بوعبيد ، و الأستاذ محمد اليازغي و غيرهم كثير…
إن استمرار المحاماة كقوة مجتمعية ضاربة، تدافع عن الحق و تذود عن الحريات، و تنتصر لقيم العدل و الإنصاف، و تؤمن بالطابع الكوني لرسالة المحامي القائمة على صيانة الكرامة الانسانية، يبقى نابعا من الإيمان بأن المحاماة رسالة إنسانية نبيلة تستمد سموها من رفع المظالم و إحقاق الحق و مشاركة القضاء في بلوغ هذه الغايات و المقاصد العليا.
و خلاصة القول في هذا الاستهلال هو أن تضحيات الأجيال المتعاقبة من نساء و رجال المحاماة كان لها الأثر الكبير في ما تحقق من مكتسبات ديمقراطية و حقوقية، و في استقلال السلطة القضائية،
وتبوء المحاماة في المجتمع الحديث مكانة متميزة في تحقيق العدل و الدفاع عن دولة الحق و القانون
والانتصار للطابع الكوني لرسالة الدفاع.
وفي هذا السياق تشكلت الإرادة السياسية الواضحة للدولة التي احتضنت هذه المكتسبات و التطلعات و شملتها بالتأطير الدستوري و المؤسساتي اللازم.
إن العهد الجديد تميز في بداياته الأولى بنص الرسالة الملكية السامية التي وجهها جلالة الملك إلى المشاركين في أشغال الدورة الثانية (دورة القدس) للمكتب الدائم لاتحاد المحامين العرب التي انعقدت بالدار البيضاء بتاريخ 20 نونبر 2000، تضمنت رسائل واضحة بخصوص مكانة المحاماة ضمن المشهد العام لمنظومة العدالة ببلادنا، و التي جعل منها (أي المحاماة) شريكا للمؤسسة القضائية في إقامة العدل.
إذ جاء في رسالة جلالة الملك ما يلي: « …من منطلق اعتزازنا بالانتماء لأسرة الحق و القانون و من مبدأ ما نوليه من تقدير خاص لهيئة المحامين الذين يتقاسمون و أسرة القضاء أمانة إقامة العدل الذي جعلناه أساس مشروعنا المجتمعي الديمقراطي الحداثي و مبتغاه..» انتهى كلام جلالة الملك.
إن الإرادة الملكية الواضحة لإغناء و تحديث الإطار القانوني المنظم لمهنة المحاماة لتواكب المستجدات و ترقى إلى مستوى مواجهة التحديات و تحقيق التكامل و الانسجام مع التطور الذي تعرفه المهنة عالميا، على أساس التوفيق بين الخصوصية الوطنية و القيم الكونية، رؤية عبر عنها جلالة الملك في أكثر من مناسبة، و من أهمها المؤتمر 49 للاتحاد الدولي للمحامين المنعقد بفاس بتاريخ 13/08/2005 حيث خص جلالة الملك المؤتمر برسالته الســـــــــامية، كان من أقوى فقراتها ما يلــي: « فالمملكة المغربية حريصة على أن تظل رسالة الدفاع حاضرة بمصداقيتها، في قلب الممارسة المؤسسية، التي تنهض بها السلطة القضائية باعتبارها الضامن الفعلي لمساواة المواطنين أمام القانون و سيادته، و استقرار المجتمع ، و الثقة في المعاملات ، و تحفيز التنمية و الاستثمار، و من ثم جعلنا في مقدمة ركائز مشروعنا الديمقراطي، الارتقاء بالعمل القضائي، و تأهيله باستمرار، مهيبين بوزارة العدل، و جمعية هيئات المحامين بالمغرب، أن تنسج فيما بينها علاقات شراكة و تعاون ثابتة ، في إطار المسؤولية و التعبئة، من أجل تحديث المنظومة القانونية، و تأهيل كل الفاعلين في الحقل القضائي مع الانفتاح على التجارب المثمرة، و الاستشراف للغد الأفضل…».
و في إطار التزام المغرب بمنظومة حقوق الإنسان جاء في رسالة جلالة الملك «…حرصا منا على ترسيخ و توسيع ما حققه المغرب من منجزات ديمقراطية و مكتسبات دستورية، مبنية على تفعيل ما التزم به من تشبت بحقوق الإنسان، كما هو متعارف عليه عالميا، فقد عملنا على الانخراط في الاوفاق الدولية، و رفع التحفظات بشأن بعضها، التي صارت غير ذات موضوع مع ما اعتمدناه من تشريعات متقدمة في كل المجالات، مستكملين بذلك اندماج بلادنا التام في المنظومة الحقوقية العالمية، كما فتحنا أوراشا كبرى، كرست السمو بالمنظومة القانونية للمملكة، بما يصون الحريات، و يوسع مجالها، سواء من خلال إقرار مدونات جديدة و متقدمة للانتخــابات و الشغل، علاوة على مشروع قانون الأحـــــــزاب
السياسية الهادف إلى تأهيلها ، للنهوض بدورها كاملا كواقعة أساسية للمشاركة الديمقراطية، و تكوين النخب المؤهلة للتدبير الجيد للشأن العام، أو على وجه الخصوص بإعادة النظر في قانون المسطرة الجنائية، معززا بذلك مقومات المحاكمة العادلة ، آخذا بالضمانات التي تحقق المساواة، كما تم تعديل قانون الصحافة و الحريات العامة ، بما يعطي لحريات التعبير مدلولها الحقيقي الملتزم …» انتهى كلام جلالة الملك.
إن هذه الرؤية المتبصرة لجلالة الملك في بناء و تحديث مؤسسات الدولة و صيانة الحقوق و الحريات تميزت بدينامية حقوقية متوالية و متماسكة الحلقات، بحيث أقدم منذ اعتلائه العرش على مبادرة شجاعة تمثلت في إحداث هيئة الإنصاف و المصالحة، مستهدفة الطي النهائي و المنصف لماضي الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان، و هي تجربة أثبتت للعالم أن المغرب بلد لم يتهرب من ماضيه، و لم يبقى سجينا له، بل انخرط في استراتيجية تحويله إلى مصدر قوة و دينامية لبناء مجتمع ديمقراطي و حداثي، و بفضل ما تم توفيره من أسباب التجرد و الاستقلال ، و آليات و وسائل التحري، و استجلاء الحقيقة، و جبر الضرر، و بفعل التزام مكونات الهيئة، و حنكة و نضالية رجالاتها و رموزها المتشبعين بقيم حقوق الإنسان ، و ممن اكتووا بلهيب سنوات الجمر، سطع نجم هذا الإطار عربيا و إسلاميا و افريقيا، بل عالميا، و أصبح من المنظمات المختصة بالريادة في مجال النهوض بمهام العدالة الانتقالية، و ركيزة أساسية لتحصين الانتقال الديمقراطي، و القطع النهائي مع الماضي الجسيم لخرق حقوق الإنسان، كل ذلك في تناغم و تلازم بين دمقرطة الدولة و المجتمع، و في هذا السياق كان كل الدعم الرسمي من أعلى سلطة في البلاد للمجلس الاستشاري لحقوق الإنسان، ليشتعل بكل استقلالية للنهوض بحماية الحريات و ترسيخ المواطنة المسؤولة، و في نفس إطار هيكلة الحقل العمومي الحقوقي و مأسسة و ترسيخ الحقوق و الحريات ، تم إنشاء ديوان المظالم باعتباره مؤسسة وسيطة بين المواطنين و الإدارة، لرفع الحيف و إحقاق الحقوق.
إن تفاعل المغرب مع محيطه الاقليمي و الدولي، و تجسيدا لما يتقاسمه مع دول العالم المتقدم من مبادئ تخليق الحياة العامة ، و محاربة الارتشاء و استغلال النفوذ بكل أوجهه و مظاهره، بادر المغرب إلى التوقيع على الاتفاقية الدولية لمحاربة الفساد و انخرط في تفعيل آليات المحاسبة و المراقبة البرلمانية و القضائية و الإدارية، في ظل سمو القانون و سيادته
إن مظاهر التحديث و المأسسة التي ميزت العهد الجديد طالت كذلك الانتصار لحقوق النساء و الاتجاه لتحقيق المساواة مع الرجال في الحقوق و الواجبات و ضمان التوازن و التماسك و الاستقرار الأسري، من خلال مدونة للأسرة كانت رائدة في زمانها، استطاعت مقتضياتها أن توازن بين الحفــاظ على الهوية
الوطنية و بين الانفتاح على العصر من خلال إنصاف المرأة و رعاية الطفل و المحافظة على تماسك الأسرة، كل ذلك جاء بعد مخاض عسير و مواجهات فكرية و ايديولوجية و ثقافية شرسة، قسمت بلادنا إلى معسكر محافظ تمظهر من خلال مسيرة الدار البيضاء، و آخر منفتح حداثي و ديمقراطي احتضنته مسيرة الرباط، هذه المواجهة انتهت بتحكيم ملكي رصين.
إن مدلول المساواة بين الجنسين في العهد الجديد، زاد عمقا و فساحة لما قرر جلالة الملك توسيع وعاء منح الجنسية المغربية من خلال الانفتاح على الابناء المنحدرين من أم مغربية ، تجسيدا لصيانة تماسك الأسرة المغربية، و ترسيخا لوعي ابنائها بالمواطنة المسؤولة.
إن ورش ترسيخ الحقوق و الحريات الذي انخرط فيه العهد الجديد من ضمن أوراش أخرى ذات أبعاد اجتماعية و اقتصادية و تنموية، تصب بكل روافدها في اتجاه تحقيق تطلعات المغاربة على كل المستويات، و جسد بالفعل مفهوم الملكية المواطنة المرتبطة بقضاياهم و اهتماماتهم ، و جعل المغرب بلدا متصالحا مع ماضيه و جديرا به، و فاعلا في محيطه الاقليمي و الجهوي و الدولي.
إن أبرز ما طبع العهد الجديد بما تضمنه من رخم حقوقي غير مسبوق هو الزمن السياسي الذي تميز بقيادة المجاهد عبد الرحمان اليوسفي – و هو المحامي، و أول نقيب لهيئة المحامين بطنجة – لسفينة حكومة التناوب التوافقي، و الذي ساهم في فتح صفحة جديدة من الإصلاحات الديمقراطية في بلادنا، بعد العفو العام الذي أصدره الملك الراحل المرحوم الحسن الثاني سنة 1994 و إطلاق سراح المعتقلين السياسيين و عودة المنفيين، و تصفية الأجواء السياسية بصفة عامة.
إنه في خضم هذه المرحلة من التاريخ السياسي للمغرب تميزت الحركة الاتحادية و الديمقراطية، بحضور قوي للسادة المحامون من الناحية الكمية و النوعية، سواء على مستوى قطاعهم الحزبي القوي المنتشر عبر الجهات و الأقاليم، و هيئات المحامين بالمغرب، أو على مستوى التمثيلية البرلمانية حيث كان الفريق البرلماني يعج بخيرة المحامين نذكر على رأسهم الكاتب الأول الأستاذ ادريس لشكر و الذي كان رئيسا للفريق مرتين مسنودا بالعديد من زملائه المحامون كالنقيب ادريس أبو الفضل و الأستاذ عبد الكبير طبيح ، الأستاذ ابراهيم الراشدي و غيرهم من خيرة المحامين الاتحاديين الذين ساهموا من موقعهم كبرلمانيين في تجويد النصوص التشريعية و تنشيط عمل اللجن البرلمانية و تسريع وتيرة مساطر التشريع ، و إضفاء الجدية و المصداقية على عمل المؤسسة التشريعية كما أبدعوا في الدفاع و الترافع على قضايا الوطن الكبرى، و ساهموا في نشر قيم العمل السياسي النبيل و تأطير أجيال جديدة من الكفاءات المهنية و الحزبية.
إن عقد التسعينات من القرن الماضي و الذي عرف مخاضا سياسيا عسيرا تميز بالخطاب الملكي الشهير للمرحوم الملك الحسن الثاني الذي حذر فيه من تعرض البلاد للسكتة القلبية استنادا إلى تقرير البنك العالمي بشأن الأوضاع الاقتصادية و الاجتماعية ببلادنا ليطرح بقوة ضرورة الاصلاح الشامل، في الوقت الذي بدت داخل أحزاب المعارضة تطورات أكثر نضجا في اتجاه قبول المشاركة في الحكم، خصوصا مع تزايد دور نخب شابة جديدة تواقة إلى الانخراط في عملية تدبير الشأن العام، حيث آن الآوان لوضع حد لإنهاك نخب المعارضة الناجم عن البقاء عقودا طويلة خارج رقعة التدبير الحكومي.
إن هذا السياق السياسي العام قاد موضوعيا لتجربة التناوب التوافقي التي اعتبرت في حينها مرحلة تأسيسية تضمنت تدابير هيكلية مهمة لتهييئ أرضية شاملة للحكامة و الإصلاح على جميع المستويات السياسية و الاقتصادية و الاجتماعية.
إن بصمة رجال و نساء المحاماة كانت حاضرة بقوة في هذه المرحلة سواء من موقع الحكومة أو من موقع المؤسسة التشريعية بحيث ساهم المحامون الاتحاديون في ورش مراجعة المنظومة القانونية المغربية الموروثة عن الاستعمار ، و على رأسها قانون الحريات العامة و قانون الصحافة و غيرها من القوانين.
و عموما إن تجربة التناوب التي قادها المحامي و النقيب الأستاذ عبد الرحمان اليوسفي و التي تزامنت مع العهد الجديد، كانت عنوانا للوطنية الصادقة و الاستقامة الاخلاقية و الالتزام السياسي خدمة للصالح العام، كما أنه في ظل حكومة التناوب ، تم الانتقال السلس و الهادئ و الحضاري بين الراحل الملك الحسن الثاني رحمه الله و الملك محمد السادس نصره الله.
إن مكتسبات تجربة حكومة التناوب التوافقي لا زالت آثارها تمتد إلى مغرب اليوم بعد مرور أكثر من عقدين من الزمن على نهايتها، نذكر من بينها إصلاح مدونة التغطية الصحية، مصالحة المغرب مع تاريخه و مع قضيته النسائية، و كذا الاجتهاد و الابداع في إعطاء نفس جديد وافق مغاير في الدفاع عن قضيتنا الوطنية الأولى، و الدفع بالإصلاح إلى أقصى درجات النجاعة و الفعالية على مستوى الحقوق الاقتصادية و الاجتماعية، و المساهمة في إضافة لبنات جديدة لتقوية أسس المجتمع التضامني المتماسك.
يعتبر المحامي في دولة الحق و القانون بمثابة الحارس الأمين لسيادة القانون، و كذا لسير المؤسسات و انضباطها لقوة القانون/ كما هو الأمر بالنسبة لممارسة الحقوق.
أي معاينة يمكن أن نقيمها مع العهد الجديد في هذا الباب؟
ما هي طبيعة العلاقة اليوم بين المحامين و مختلف مكونات الحقــل القضائــــي، على ضوء تكريس الحقوق و الدفاع عن تطبيق القانون في تقديركم من زاويـــة مؤسســــاتية و دستورية؟
لابد من التذكير أولا في هذا السياق و من باب الأمانة و تسييد ثقافة الاعتراف كون المحامين المغاربة عموما، و المحامين الاتحاديين على وجه الخصوص ، و على امتداد تاريخهم الطويل، كانوا دائما في صدارة المنافحين عن مبدأ استقلال السلطة القضائية، و تكريس حقوق الدفاع، و على رأسها الحق في المحاكمة العادلة ، معبرين عن رأيهم بكل جرأة في جميع المناسبات و المنتديات و عن إيمانهم الراسخ و العميق بضرورة تحقيق هذه المطالب كخيار استراتيجي لتكريس دولة الحق و القانون.
إن المحامبن و المحاميات المغاربة سواء كأفراد أو كمجالس هيئات و نقباء ، وعلى غرار اهتمامهم بقضاياهم المهنية الصرفة، كانوا كذلك في طليعة النضال من أجل القضايا الوطنية الكبرى و ثوابت المملكة و الدفاع عن الوحدة الترابية في جميع المنتديات ، و ترسيخ قيم الديمقراطية و بناء دولة الحق و القانون.
لكن اليوم لا أحد يجادل ، بعد هذا الزخم الحقوقي المتراكم على امتداد أكثر من عقدين من الزمن، و الدينامية المتسارعة الفاعلة في حقل الحقوق و الحريات الفردية و الجماعية التي ميزت العهد الجديد، فإن مهنة المحاماة توجد اليوم – بحكم التحولات العميقة التي يعرفها المجتمع المغربي في سائر المجالات، و التطورات السريعة التي تطبع العالم المتقدم، – في مواجهة تحديات كبرى منها الآتي و منها المستقبلي القريب.
و في هذا السياق كذلك نذكر بمضامين الرسالة الملكية الموجهة للمؤتمر 49 للاتحاد الدولي للمحامين، و التي اعتبر من خلالها جلالة الملك « أننا نعيش عالما يتجه نحو النمطية و الانفتاح ، و يتجاوز في مسيرته الحثيثة أي نزعة اقليمية، أو انغلاق على الذات، أو إيثار للخصوصية على الكونية ، بما يعنيه ذلك من أبعاد إيجابية، تتمثل في المزيد من تقنين حقوق الأفراد و توسيعها، و وضع الآليات الكفيلة بحمايتها و تنميتها و تحصينها، من كل تداعيات سلبية، تمس حقوق الإنسان في هويته و حرمته، أو في حريته و ملكيته، أو تعكس انفلات التكنولوجيا المتطورة من المسؤولية الأخلاقية، و هو ما يستوجب التفكير في إرساء دعائم عدالة فعالة، تواكب هذا التطور، و تصون حقوق الأفراد و الجماعات، و خاصة في الدول النامية، و لا شك في أن هذه العدالة تمثل بالنسبة لكم فضاءا جديدا للقيام برسالتكم النبيلة، و بقدر ما أصبح لمهنة المحاماة من طابع عالمي، فإنها تواجه ضرورة توحيد القيم السلوكية المثلى، و اعتماد التكوين المستمر، و الاستجابة لمتطلبات مواكبة العالم الرقمي، و التوفيق بين وجوب احترام الحريات، و صيانة النظام العام، في ظل سيادة القانون و سلطة القضاء دون أن ننسى أنها قبل كل شيء ، مهنة إنسانية مثالية تقتضي إلى جانب الفقه القانوني، النزاهة في العمل ، من أجل مساعدة القضاء الذي يعتبر المحامون جزءا من أسرته الكبيرة الموقرة، و شريكا أساسيا له في تحمل مسؤولية إحقاق الحقوق و رفع المظالم ، على أسس العدل و الإنصاف و سيادة القانون، و نشر الثقة و الاستقرار اللازمين لتأمين الحياة الاجتماعية، و تحفيز الاستثمار، و النهوض بالتنمية الاجتماعية».
إن هذه الرهانات المؤسسة على توجه عبر عنه جلالة الملك في عدة مناسبات ، تعبر عن تعاظم المكانة المحورية و المتميزة للمحاماة في إطار مجتمع ديمقراطي حداثي يلعب فيه المحامي دور محوري في تحقيق العدل و الدفاع عن دولة الحق و القانون ، لكن في نفس الآن و أمام هذه المكانة المتحدث عنها تطفو على السطح الإكراهات و التحديات المهنية الداخلية و الخارجية و التي لا شك أنها تخل و لا تشجع المحامي في القيام بدوره الأساسي في الدفاع و إنارة الطريق أمام القضاء لتحقيق العدالة المنشودة.
إن الحماية القانونية المطلوب توفيرها لعموم المتقاضين، في أفق تحقيق الأمن القضائي، مرتبطة بجوهر عمل المحامي و رسالته في آن واحد ، و أن الحماية المذكورة تبقى منقوصة دون إعمال مبدأ المحاكمة العادلة الذي يعتبر من بين الضمانات الدستورية التي تصدرت دستور 2011 ، و أن المخاطب بإعمالها ليس القضاء لوحده بل أيضا نساء و رجال المحاماة و غيرها من المهن القضائية المرتبطة، و إن كان القضاء يبقى المعني الأول باعتباره المنتج للأحكام القضائية.
و في هذا السياق لابد من الإشارة إلى أن بلادنا توفرت لديها الإرادة السياسية الواضحة للسير قدما في تحقيق مبدأ المحاكمة العادلة في جميع مناحيها و تمظهراتها، و نذكر في هذا المنحى أن جلالة الملك بصفته رئيسا للدولة بمقتضى الفصل 41 من الدستور خصص خطابا بكامله بمناسبة ذكرى ثورة الملك و الشعب في 20 غشت 2009، لملامسة إشكالية إصلاح منظومة العدالة، إذ وصف هذا الإصلاح بكونه جزء من الجهاد الأكبر الذي أعلنه جلالة الملك المغفور له محمد الخامس مباشرة بعد عودته من المنفى، إذ جاء في خطاب جلالة الملك ما يلي:
« لقد كان في طليعة أهداف ثورة الملك و الشعب ، استرجاع استقلال المغرب، و بناء دولة المؤسسات القوية بسيادة القانون و عدالة القضاء، و مواصلة للجهاد الأكبر لتحقيق هذا الهدف الاسمى، فقد ارتأينا أن نخصص خطابنا، المخلد لذكراها السادسة و الخمسين، لإطلاق الاصلاح الشامل و العميق للقضاء، تعزيزا لأوراش التحديث المؤسسي و التنموي الذي نقوده».
كما أن خطاب جلالة الملك بمناسبة حديثه عن الاصلاح الشامل لمنظومة العدالة، كان توجيهيا للسلطة التنفيذية للسهر على سن قوانين تؤسس للمحاكمة العادلة و بوجوب احترامها.
إن الإرادة السياسية الساطعة لجلالة الملك في هذا الاتجاه كانت أكثر جلاءا مع صدور دستور 2011 و هي رسالة واضحة لكل المترددين.
إذ نصت الوثيقة الدستورية الجديدة تخلي جلالة الملك عن اختصاص تعيين القضاة لفائدة المجلس الأعلى للسلطة القضائية ، و احتفظ فقط بحق الموافقة على ذلك التعيين، كما تنازل على حقه في عزل القضاة لفائدة نفس المجلس.
و في نفس الوثيقة الدستورية تنازل جلالة الملك أيضا على حقه في تعيين رئيس الحكومة بعيدا عن نتائج الانتخابات كما كان العمل به من قبل، و أصبح تعيين رئيس الحكومة من الحزب الذي يتصدر الانتخابات التشريعية.
إن الإرادة السياسية للدولة في الذهاب بعيدا في إعمال و تطبيق شروط المحاكمة العادلة دون تردد أصبح جليا، مع تأسيس هيئة الانصاف و المصالحة التي كلفها جلالة الملك بإنصاف ضحايا سنوات الجمر و الرصاص التي عاشتها بلادنا ، بحيث وقفت الهيئة التي ضمن لها جلالة الملك كل الاستقلالية في العمل و ترتيب الآثار و تحميل المسؤوليات، إذ وقفت على مسؤولية الدولة و القضاء معا على ما وقع في تلك المرحلة، و عين جلالة الملك على رأس الهيئة المرحوم المناضل ادريس بنزكري الذي يعد أحد ضحايا الفترة الصعبة التي تم طي صفحتها.
هذه التجربة التي تصالح المغرب من خلالها مع ماضيه بكل شجاعة و مسؤولية عجزت العديد من الدول بأن تجعلها نموذجا و خريطة طريق لمعالجة ماضيها و انجاز المصالحة مع ضحايا حقوق الانسان و ذويهم…
إن ما يؤكد قناعة جلالة الملك بإلزامية ضمان المحاكمة العادلة ، هو الإرادة السياسية المعلن عنها في الرسالة الملكية الموجهة للمؤتمر الدولي الأول حول استقلال السلطة القضائية الذي عقد بمراكش في أبريل 2018 و التي من بين ما ورد فيها ما يلي:
«… بغض النظر عما حققه المغرب من إنجازات في بناء الاطار المؤسساتي لمنظومة العدالة ، فإنه يبقى منشغلا، مثل كل المجتمعات التي تولي أهمية قصوى للموضوع، بالرهانات و التحديات التي تواجه القضاء عبر العالم.
و يأتي في مقدمة هذه التحديات، ضمان تفعيل استقلال السلطة القضائية في الممارسة و التطبيق، باعتبار أن مبدأ الاستقلال لم يشرع لفائدة القضاة، و إنما لصالح المتقاضين، و إنه إذ يرتب حقا للمتقاضين، فكونه يلقي واجبا على عاتق القاضي.
فهو حق للمتقاضين في أن يحكم القاضي بكل استقلال و تجرد و حياد، و أن يجعل من القانون وحده مرجعا لقراراته، و مما يمليه عليه ضميره سندا لاقتناعاته.
و هو واجب على القاضي، الذي عليه أن يتقيد بالاستقلال و النزاهة ، و البعد عن أي تأثر أو إغواء يعرضه للمساءلة التأديبية أو الجنائية.
كما أن تعزيز الثقة في القضاء، باعتباره الحصن المنيع لدولة القانون، و الرافعة الأساسية للتنمية، يشكل تحديا آخر يجب رفعه بتطوير العدالة و تحسين آدائها، لمواكبة التحولات الاقتصادية و الاجتماعية التي تشهدها مختلف المجتمعات».
و خلاصة القول أن مضمون الرسالة الملكية تجاوز البعد النظري القانوني العام و المجرد، بخصوص إعمال شروط المحاكمة العادلة ، بل انخرط في تفاصيل التنفيذ و التنزيل و الأجرأة لهذا المبدأ الكوني على مستوى التطبيق الفعلي على أرض الواقع، إذ تناولت كيفية تعليل الأحكام و كيفية إصدارها، و هو ما يؤكد بما لا يدع مجالا للشك أن هذا الورش يحظى كباقي الأوراش الملكية الأخرى، بكثير عناية وتتبع، وفاءا للتعاقد التاريخي الجديد بين العرش و الشعب المتمثل في الوثيقة الدستورية لسنة 2011، و التزاما بالعهود و الاتفاقات الدولية التي بوأها المغرب مكانة متميزة ضمن تشريعاته الوطنية.
إن استفادة المتقاضين من المحاكمة العادلة وفقا لما ينص عليه الفصل 120 من الدستور و ما يليه عرف عدة تعثرات رغم وضوح الإرادة السياسية لجلالة الملك كما تم التفصيل فيها أعلاه، و التي لم يتم ترجمتها بالسرعة و النجاعة و الفعالية المطلوبة، لدرجة أن التقرير الناتج عن لجنة النمودج التنموي اعتبر في خلاصاته أن وضعية العدالة ببلادنا واحدة من الأسباب الأربعة التي عرقلت المسيرة التنموية ببلادنا و لم تجعلها تسير نحو أهدافها، بحيث وصف التقرير المذكور الوضعية بعدم القدرة على التوقع الذي يحد من المبادرات بسبب الهوة ما بين بعض القوانين التي تتخللها مناطق رمادية، و الواقع الاجتماعي، و قضاء يعاني من انعدام الثقة، إضافة إلى ثقل البيروقراطية و تعثر سبل الانتصاف.
إن نفس تقرير لجنة النموذج التنموي الجديد اعتبر في صفحته 32 ما يلي:
« أن الاعتقاد السائد بكون العدالة غير فعالة يسهم في كبح الطاقات، و على الرغم من الاصلاحات التي تم اطلاقها لضمان استقلالية القضاء و تعزيز فعاليته و الثقة فيه، فإن إحراز النتائج يعرف بعض التأخر: آجال طويلة للبث في الملفات، عدم القدرة على توقع الأحكام، نقص في الكفاءات ، ضعف في الشفافية ، و قصور على مستوى السلوك و الأخلاقيات. إن الممارسات التعسفية ، و إن كانت معزولة، و عدم دقة بعض النصوص القانونية، و تفاوتها مع الواقع و الممارسة، يقوى تصور المواطنين و الفاعلين بخصوص مخاطر عدم الاطمئنان و التعرض للتعسف في منظومة العدالة، و ينظر المواطنون إلى بعض حالات عدم الدقة في الصياغة القانونية على كونها هوامش لتوظيف القانون لأغراض معينة الذي قد يمس ممارسة الحريات العامة و الفردية، مما يجعلها بذلك تحد من حرية تعبير المواطنين و مشاركتهم كفاعلين.
إن الحكومات المتعاقبة ببلادنا منذ دستور 2011 لم تتفاعل بالشكل المطلوب مع الإرادة السياسية الواضحة لجلالة الملك و التي تم ترجمتها في شكل مبادئ دستورية تحصن و تضمن احترام شروط المحاكمة العادلة، و تفسح المجال أمام إصلاح قضائي شامل، كما أن الحكومات المذكورة عطلت آلة التشريع خلال العشرية الفارطة، في الوقت الذي كان ينتظر فيه التفاعل الايجابي و السريع مع الادارة الملكية و مع المقتضيات الجديدة في الدستور، و ذلك من خلال طرح مشروع تعديل قانون المسطرة المدنية و إدخال تعديلات جوهرية على قواعد المسطرة الجنائية، على مسطرة التشريع.
و إذا كان أول امتحان لهذه الحكومة للاطلاع على فلسفتها و تصورها لتنزيل مبادئ و شروط المحاكمة العادلة، هو مشروع قانون المسطرة المدنية الذي سيطرح على مسطرة التشريع، فإن هذا الأخير لا يبدو أنه تضمن جوهر ماهية المحاكمة العادلة كما هي محددة في الدستور و الاتفاقيات الدولية المصادق عليها من المغرب، و أن الأيام و الشهور المقبلة ستكون شاهدة على أن المشروع المذكور يبقى بعيدا عن تحقيق النجاعة القضائية المرجوة في توازن مع الزمن الافتراضي لصدور الأحكام.
و حيث إنه في نفس السياق دائما لابد من الإشارة إلى تهاون الحكومة في تنزيل مقتضى دستوري أقر الحق في التعويض عن الأخطاء القضائية لفائدة المتقاضين بمحاكم المغرب ( الفصل 122 من الدستور )، و أن الأمر كان يقتضي التسريع بمبادرة تشريعية تفصل شروط و أحكام التعويض عن الخطأ القضائي .
و باعتبار الأحكام القضائية منتوجا بشريا يتأسس على قراءة و تأويل و تطبيق المنظومة القانونية بشقيها الجوهري و المسطري قد تتخللها أخطاء تجهز على حقوق المتقاضين، فإن ذلك يبقى من دواعي تنزيل هذا المقتضى الدستوري « الاعتراف بحق الأفراد في الحصول على تعويض عن الأضرار التي لحقتهم من جراء الأخطاء القضائية بمناسبة إصدار الأوامر و الأحكام و القرارات التي تنتجها محاكم المملكة.
إن تنزيل هذا النص الدستوري «المادة 122 من الدستور» و الذي جاء فيه « يحق لكل متضرر من خطأ قضائي الحصول على تعويض تتحمله الدولة « يندرج ضمن الرؤية الملكية التي أطرت إقرار دستور 2011، الذي اعتبره جلالة الملك في خطابه السامي ل 17 يونيو 2011 كونه أكثر من قانون أسمى للمملكة ، و هو الأساس المتين للنموذج الديمقراطي التنموي المغربي المتميز، بل اعتبره تعاقدا تاريخيا جديدا بين العرش و الشعب .
إن تنزيل المقتضى الدستوري المرتبط بتعويض المتقاضين عن الأخطاء القضائية يبقى ضرورة حيوية بعد إقرار و ترسيخ سلطة قضائية مستقلة عن السلطتين التنفيذية و التشريعية تكريسا لاستقلال القضاء، و بعد دسترة تجريم كل تدخل للسلطة أو المال، أو أي شكل من أشكال التأثير في شؤون القضاء.
إن جلالة الملك اعتبر في نفس الخطاب، أن دسترة المملكة لكافة حقوق الإنسان كما هو متعارف عليها عالميا، بكل آليات حمايتها و ضمان ممارستها ، هو ما سيجعل من الدستور المغربي، دستورا لحقوق الإنسان، و ميثاقا لحقوق و واجبات المواطنة.
إن دسترة سمو المواثيق و العهود الدولية المصادق عليها من بلادنا، على التشريعات الوطنية و قوانين المملكة، و تكريس قرينة البراءة، و ضمان شروط المحاكمة العادلة، و تجريم التعذيب و الاعتقال التعسفي، و كل أشكال التمييز و الممارسات المهنية للكرامة الانسانية، و كذا ضمان حرية التعبير و الرأي، و الحق في الولوج إلى المعلومات، كلها مقتضيات تبرر آنية تنزيل الفصل 122 من الدستور في شكل قانون يضمن الحق في التعويض عن الخطأ القضائي ، لجبر الأضرار اللاحقة بالمتقاضين من جراء هذا النوع من الأخطاء.
لقد آن الأوان لإخضاع مرفق القضاء كذلك لمبدأ المساءلة المقرر دستوريا، للخروج من دائرة اللبس و الغموض المحيط بهذا الموضوع ، و إنهاء الجدل الفقهي و القضائي الذي اتسعت دائرته منذ صدور دستور 2011، و أن ذلك لن يتأتى إلا بصدور قانون يحدد مجال إعمال المسؤولية عن الأخطاء القضائية و حالاتها و شروطها و الجهة القضائية المختصة بالبت فيها.
و إنه بالرجوع إلى مهنة المحاماة باعتبارها أحد الركائز الأساسية لمنظومة العدالة، و بالإضافة إلى التحديات الكبرى ذات العلاقة بالتحولات المتسارعة التي يعرفها العالم، و إذا كان دستور 2011 قد أقر استقلال السلطة القضائية، و نظمها بمقتضى قوانين تنظيمية، فإن المحاماة اليوم، إسوة بعديد من الدول التي اعتبرت أن مهنة المحاماة لا تقل شأنا و أهمية باعتبارها مكونا أساسيا من أسرة القضاء، فإنه آن الآوان إلى دسترتها. و إقرار تمثيلية المحامين في المجلس الأعلى للسلطة القضائية من شأنه إشراك المهنة مع القضاء في حسن تدبير العملية القضائية و العدالة بشكل عام، و هما مطلبين نعتبرهما في الاتحاد الاشتراكي مشروعين و عادلين اعتقادا منا أن قوة استقلالية و حصانة القضاء من قوة و حصانة مهنة المحاماة.
إن التحديات التي تواجه جسم المحاماة في القيام بأدوارها تأسيسا على القانون المنظم للمهنة و على أعرافها و تقاليدها، و في أداء رسالتها الإنسانية و الحقوقية، تقتضي من الجميع قراءة موضوعية منفتحة لواقعها من أجل استشراف مستقبلها، و أن الأمر من بين ما يقتضيه الأخذ بعين الاعتبار أبعادها المهنية و الحقوقية و السياسية، إذ أن أدوار المحامي لا تقتصر على الاستشارة و المرافعة و الإجراءات ، بل تتعدى ذلك إلى المساهمة في إرساء دعائم عدالة نزيهة و مستقلة، و ترسيخ دعائم المجتمع الديمقراطي و حماية حقوق الإنسان و الحريات الفردية و الجماعية ، و توفير البيئة السليمة للاستثمار و التنمية الاقتصادية و هو الأمر الذي أكده جلالة الملك في أكثر من مناسبة.
إن آخر إصلاح طال قانون المهنة ترجمه القانون رقم 28.08 المنظم لمهنة المحاماة الذي عالج العديد من الاختلالات، و أعد حلولا لها، من قبل تمنيع استقلالية المهنة و حصانتها ، و توسيع مجال احتكار تمثيلية الأطراف أمام القضاء ، و ودائع المحامي و غيرها من القضايا، و بالتالي فإن واقع الممارسة المهنية اليوم بحكم التحولات التي يعرفها المجتمع المغربي و العالم عموما، و باعتبار الأوراش الكبرى التي يقودها جلالة الملك داخليا و خارجيا، و انفتاح المغرب على العالم سواء على أروبا شمالا و على افريقيا جنوبا و الأمريكيتين على الواجهة الأطلسية، و التي ستجعل المغرب رقم صعبا في المعادلة الاقتصادية على المستوى الاقليمي و الجهوي و الدولي، و باعتبار مهنة المحاماة من أكثر المهن تأثرا بالثورة المعلوماتية و التكنولوجية، فإن المؤتمر الثاني لقطاع المحامين الاتحاديين المنعقد بمراكش يومي 17 و 18 نونبر 2023 تحت شعار « من أجل محاماة بكامل أبعادها المهنية و الحقوقية و السياسية» ترجم الأوضاع الصعبة التي تجتازها المهنة بما يعتريها من هشاشة في بنياتها المؤسساتية و من إجهاز على حقوق مكتسبة تحققت بفعل نضال أجيال متعاقبة من المحاميات و المحامين، و ما تواجهه من تحديات ترهن حاضرها و مستقبلها في التأهيل و التحديث و التخليق.
كما أن المؤتمر استنادا للمناقشات التي طبعت أشغاله ، و التي همت مختلف القضايا الوطنية و الحقوقية و السياسية و المهنية، و بعد تثمينه للمنهجية التشاركية التي اعتمدها جلالة الملك في ورش إصلاح مدونة الأسرة ، و هو إصلاح انطلق من تحليل علمي و موضوعي للتحولات الاجتماعية و تأثيراتها على مستوى الأسرة المغربية، و مراعاة الحضور الوازن للنساء المغربيات في مختلف مجالات الانتاج المادي و الفكري، فإن الحكومة مطالبة بأن لا تحيد عن نهج جلالة الملك في اعتماد المقاربة التشاركية، و العودة إليها مع جمعية هيئات المحامين بالمغرب باعتبارها الممثل الشرعي و الوحيد للمحامين المغاربة ، و ذلك لأجل معالجة ما علق من القضايا الخلافية في مشروع القانون المحال على المسطرة التشريعية، و ذلك باعتبار أن القانون المنظم للمحاماة ، هو في جوهره قانون خاص لمهنة المحاماة، باعتباره ينظم شروط و كيفيات ولوجها، و كيفية انتخاب و تنظيم مؤسساتها، و العلاقات البينية لمنتسبيها و الواجبات المترتبة عليهم في آداء مهام النيابة، و أن هذا النوع من القضايا يهم المحاميات و المحامون و المجالس و النقباء ، و أن كل هؤلاء مع تعاقب الأجيال راكموا خبرات و مهارات بفضل الممارسة اليومية تجعلهم في موقع يؤهلهم لإبداء مقترحاتهم من أجل مراجعة الشروع و تجويده.
إن المؤتمر الثاني لقطاع المحامين الاتحاديين الأخير اعتبر أن المحاماة تستحق العناية الفائقة من طرف الدولة لأجل تحديث بنياتها و تمنيع حصانتها ، و ذلك من خلال مجموعة من الإجراءات تضمنها البيان الصادر عن المؤتمر، و الذي اعتبر أن دسترة استقلال السلطة القضائية و رئاسة النيابة العامة بواسطة قانونين تنظيميين أضفى على القضاء قوة مؤسساتية ، غير أن هذه القوة المؤسساتية لأحد وجهي أسرة القضاء، قابله إضعاف واضح للوجه الثاني للعملة، أي المحاماة ، و هو ما يجعل هذا الاختلال حاسما حال استمراره في إنهاك المهنة بتفكك بنياتها، و خفوت رسالتها و أدوارها، و أن أوضاع العدالة بناء على ذلك لا يمكن أن تستقيم في محيط يبخس مهنة الدفاع، و يحاول الحد من أدوارها.
– كما تناول البيان الصادر عن المؤتمر إحداث مجلس وطني للمحامين كمؤسسة قانونية لها القوة المؤسساتية و الصلاحيات الضرورية لتكون مخاطبا و معبرا عن قضايا المهنة في أبعادها الوطنية.

 

* عضو المكتب السياسي للاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية
عضو قطاع المحامين الاتحاديين


الكاتب : محمد غدان

  

بتاريخ : 29/07/2024