أمنية بوعياش : حقوق الإنسان اليوم هي‮ ‬أحد ثوابت هذا الوطن ومؤسساته

إن مسار إعمال حقوق الإنسان مسار متواصل مسار مبادرات ومكتسبات وتراكمات يبنى بعضها
على بعض لتحقيق بناء متين

الإشكالات والتحديات المرتبطة بتدبير قضايا حقوق الإنسان بالمغرب، التي نخصص لها في المجلس تقارير وتوصيات عديدة،
لا ترتبط بامتلاك المعايير بل بفعلية إعمالها خاصة أن بعض هذه الإشكالات ناشئ لم يواكبه بعد قانوننا الجنائي

هذا ماندعو إلى تغييره ونطمح دوما إلى المساهمة في أجرأته وتحقيقه. إسماع صوت إفريقيا والترافع من أجل حماية مصالحها
في المحافل الدولية

شكلت القضية الحقوقية أحد التحديات الأولى التي عالجها العهد الجديد، باعتباركم كنتم إلى جانب الأستاذ اليوسفي، أحد المهندسين الكبار في الملف الحقوقي، وأيضا باعتباركم رئيسة سابقة للمنظمة المغربية لحقوق الإنسان، ورئيسة المجلس الوطني لحقوق الإنسان، كيف تقرؤون المسار المغربي في تدبير الحقل الحقوقي؟

يمكن من خلال التأمل في مسار اسي عبد الرحمن، ومسارات أخرى غيره، الوقوف على قرار جديد في تدبير قضايا حقوق الإنسان بالمغرب، أصبحت معالمه الإنسانية والحقوقية بارزة بشكل جلي وأقوى مع انطلاق عهد جديد، كان من أولى أولوياته، حماية كرامة المغاربة وتملكهم لماضيهم والبناء عليه من أجل مستقبل أفضل.
الأكيد أننا نركز اليوم على معالجة الاختلالات والنواقص التي تحول دون إعمال تام وكامل لفعلية حقوق الإنسان والحريات، شأننا في ذلك شأن باقي الدول. لا أتحدث هنا عن الدول «النامية» أو « الديمقراطيات الناشئة» فحسب، مثلما قد يمكن للبعض أن يتصور، بل أيضا الدول «المتقدمة» ودول الشمال.
مجال حقوق الإنسان مجال مثل عليا وسيرورة لا تتوقف، تتطور باستمرار مع تطور المجتمعات وحاجيات مواطناتها ومواطنيها وتطلعاتهن/م. زد على ذلك، أنني أعتبر شخصيا أن حقوق الإنسان، كما هي في القانون الدولي، حد متوافق عليه. لا يمكن لأي دولة في العالم، ادعاء تحقيق هذا الحد الأدنى كاملا وفعليا كما نسجله خلال الاستعراض الدولي الشامل. لذلك أقول دائما إن مسار إعمال حقوق الإنسان مسار متواصل، مسار مبادرات ومكتسبات وتراكمات يبنى بعضها على بعض لتحقيق بناء متين.
إذا ما قمنا بالرجوع إلى الوراء (zooming out)، سنتمكن من رؤية الصورة كاملة… صورة مسارات وانتقال، وفرق شاسع بين مغرب أمس ليس ببعيد، عانى من تبعات الاستعمار، ومن حلقات عنف وعنف مضاد بعدها، فانتهاكات جسيمة للكرامة والحقوق… وبين مغرب اليوم، الذي لا يتوقف في سعيه لتكريس كافة الحقوق والحريات وضمانها ومساءلة مكتسباته، في خط زمني يبقى نسبيا قصير، بالمقارنة مع تطور فلسفة حقوق الإنسان وفعليتها، في المنظومة الدولية وفي دول كانت في طليعة الدول السباقة لتبني التوجهات الكونية الجديدة.
من هذا المنظور الموضوعي، لا يمكن سوى الإقرار بالتقدم الكبير الذي أحرزه المغرب، خلال عشرينية ونيف، في كفالة الكرامة والحرية والحقوق.

من المستجدات الدستورية التي رافع الحقوقيون والمناضلون عموما من أجل تضمينها في النص الجديد لسنة 2011، قضية دسترة توصيات هيئة الانصاف والمصالحة، كيف تنظرون الى تجربة الهيئة وتأثيرها على نضج الحقل السياسي المغربي، وأين وصل تنزيل توصيات الهيئة في الميادين المعنية (التشريع، الأمن، جبر الضرر، الحقيقة…)؟

تجربة المغرب في مجال العدالة الانتقالية، مثال حي على ما سبق لي ذكره. لن أضيف جديدا إن قلت إن هذه التجربة كانت تجربة غير مسبوقة في محيطنا الإقليمي، العربي-الإسلامي، وواحدة من أبرز المبادرات المعترف بها كممارسات فضلى، إفريقيا ودوليا.
لقد بادر المغرب في عهده الجديد، بكل جرأة وشجاعة واستشراف، إلى قراءة صفحة ماضيه وقرر وضع الآليات الضرورية لتدبير ذلك الماضي وإنصاف ضحاياه…، وصولا إلى جبر الضرر وحفظ الذاكرة، ودسترة التوصيات الوجيهة لهذه التجربة من أجل الوقاية من الخروقات الجسيمة وضمان عدم تكرارها.
قلت إنها من أبرز التجارب الرائدة والممارسات الفضلى في مجال العدالة الانتقالية، في محيطنا القاري وفي السياقات الدولية. هي إذن تجربة تشكل مصدر فخر واعتزاز، بالنظر إلى مقومات المحطة والمسار، من جهة، وبالنظر أيضا إلى إسهاماتها في تطور المعايير الدولية للعدالة الانتقالية، وفي بلورة وإعمال مفاهيم جديدة في هذا السياق مثل جبر الاضرار الجماعية، وإعمال مقاربة النوع في جبر الضرر، وغيرها، من جهة ثانية.
بالنسبة للحصيلة المفصلة للتجربة، أقترح على قراء منبركم العودة إلى محور «متابعة تفعيل توصيات هيئة الإنصاف والمصالحة» في التقرير السنوي عن حالة حقوق الإنسان بالمغرب برسم 2023، الصادر مؤخرا (يوليوز 2024). أنظر أيضا الملصق جانبه: «تتبع تنفيذ توصيات هيئة الإنصاف والمصالحة 2006-2024».
لكن لا بد من التذكير أننا بادرنا في رئاسة المجلس إلى اتخاذ مجموعة من الإجراءات وفي الاستمرار في تحمل المجلس لمسؤولياته في مواصلة تتبع تفعيل ما تبقى من توصيات الهيئة. وقد قمنا مثلا، بإعادة هيكلة لجنة متابعة تفعيل توصيات الهيئة وإنشاء وحدة لدى رئاسة المجلس لحفظ الذاكرة والنهوض بالتاريخ المغربي بكل روافده، والانكباب على تجاوز الصعوبات التي حالت دون تفعيل ما تبقى من توصيات وما ترتب عن ذلك من تأخر في إتمام تفعيل المهام والبرامج التي تهم التعويض وتهيئة فضاءات الذاكرة وحفظ أرشيف الهيئة.
يمكن القول إننا اليوم على مشارف إتمام تفعيل توصيات الهيئة التي مكن تحقيقها من إنصاف الضحايا بين مكونات المجتمع، من المصالحة، ومن التقدم في التدابير الممهدة لفضاءات حفظ الذاكرة.
خلال هذه السنة، أطلقنا مبادرة تخليد عشرينية الهيئة (2004-2024)، التي تشكل مناسبة أيضا للاحتفاء بكافة المسارات والتأمل في المخرجات والحصيلة، انطلاقا من جبر الأضرار وإجلاء الحقيقة وصولا إلى إعمال توصيات الهيئة في مجال التشريع والأمن والحكامة وعدم التكرار وتكريس ضمانات حماية الحقوق والحريات والوقاية من الانتهاكات، التي أصبحت مكرسة وراسخة بصريح القانون الأسمى الذي توج، للمرة الثانية، إلتقائية إرادة الدولة وإرادة المجتمع، بعد محطة تجاوب أولى، عبر إحداث هيئة الانصاف والمصالحة في يناير 2004.
أدعو قراء الاتحاد الاشتراكي لزيارة معرض عشرينية هيئة الانصاف والمصالحة بمقر المجلس الوطني لحقوق الإنسان بالرباط.
فضلا عن التكريس الدستوري للحريات والحقوق، تمكن المغرب خلال هذه العشرية من تطوير تملك مؤسساته لثقافة الحقوق والحريات.

تحتل المسألة الحقوقية حيزا مهما، في عالم اليوم، كما أنها مثلت بالنسبة للمغرب تحديا كبيرا، ما زال يعالج كل جوانبه منذ بداية العهد الجديد، في تقديركم إلى أي حد اقتربت المملكة من معايير حقوق الانسان في تدبير مجالها الوطني؟

لا! لم تقترب المملكة من معايير الحقوق والحريات، بل إنها، في خط زمني قصير نسبيا، تمكنت من ترسيخ مسارات تملكها وترسيخها.
فضلا عن الممارسة الاتفاقية المتقدمة، بالمقارنة مع دول محيطنا الإقليمي والقاري، وحتى بالمقارنة مع بعضٍ من أبرز دول الشمال «المتقدم» (نقصد بالممارسة الاتفاقية مصادقة المغرب على الصكوك والاتفاقيات الحقوقية الدولية)، أصبحت هذه المعايير مكرسة اليوم في نص دستوري، يعتبر بحق ميثاقا وطنيا للحقوق والحريات؛ حقوق الإنسان اليوم هي أحد ثوابت هذا الوطن ومؤسساته.
الإشكالات والتحديات المرتبطة بتدبير قضايا حقوق الإنسان بالمغرب، التي نخصص لها في المجلس تقارير وتوصيات عديدة، لا ترتبط بامتلاك المعايير، بل بفعلية إعمالها، خاصة أن بعض هذه الإشكالات ناشئ لم يواكبه بعد قانوننا الجنائي، الذي نريد أن يتبنى إصلاحه المرتقب حماية الحريات، ومبدأي الضرورة القصوى والتناسب في حال تقييدها، في توافق تام مع القانون الدولي لحقوق الإنسان، الذي يكرس الدستور سموه على التشريعات الوطنية.
لا شك أيضا أن هناك إشكالات تؤثر في مسار تحقيقنا لتنمية حقيقية مستدامة وتحول أحيانا دون إعمالنا بشكل أمثل للحقوق الاقتصادية والاجتماعية، في مناطق من المملكة تبقى أحينا متخلفة عن الركب.
مقاربة هذه الإشكالات لا ترتبط بالضرورة بدرجة اقترابنا من المعايير الدولية أو تملكنا لها، بل برؤيا ممتدة على الزمن، نوفر لها الموارد، ونصبوا للأثر التراكمي لإحداث التحولات. ولا يمكن في هذا السياق، سوى الإشادة بالأوراش الكبرى التي أطلقها صاحب الجلالة في الآونة الأخيرة، التي قلنا في تقريرنا السنوي الأخير عن حالة حقوق الإنسان بالمغرب، إنها تؤشر على بروز نظام وطني لحماية الحقوق الاقتصادية والاجتماعية، خاصة ما يتعلق منها بالدعم المباشر للأسر، وتعزيز الولوج إلى الحق في السكن وإصلاح النظام الجبائي بشكل يساهم في تمويل الحقوق الاقتصادية والاجتماعية.
بالإضافة إلى الإشكاليات المرتبطة بدرجة إعمالنا للمعايير التي ينص عليها دستورنا وفي تشريعاتنا وفي ممارستنا الاتفاقية، تؤثر مواقف وخطابات بعض التيارات المستفيدة من زخم الحقوق والحريات على فعلية التملك المجتمعي لهذه الحقوق والحريات. كما تؤثر فيها أيضا طريقة تفاعل المنظومة الدولية ومقاربتها لقضايا إقليمية ودولية جوهرية، ومحدودية نجاعة تدخل المنظومة الدولية لحقوق الإنسان أحيانا، التي تضع كونية الحقوق والحريات موضع مسائلة، تنعكس جميعها على هذا التملك الجماعي والمجتمعي للحقوق والحريات وتشوش عليه.

كانت الفترة التي ودعناها فترة مدونة الأسرة بامتياز، بدء من خطاب ملك البلاد وصولا إلى رسالة جلالته الي رئيس الحكومة ثم تشكيل اللجنة الخاصة، وأخيرا إحالة الملك للبنود ذات الصلة بالعقيدة على المجلس العلمي الأعلى، كيف تنظرون إلى الموضوع من زاوية حقوقية، وأيضا من زاوية التجربة المغربية في تدبير الحقل الديني؟

دون شك. مدونة الأسرة واحدة من القوانين المهيكلة لقواعد تدبير المجتمع للفضاء الخاص. للمرة الثانية خلال عشرين سنة، يستعد المغرب اليوم لإصلاح المدونة. أود في هذا السياق أن أجدد التأكيد لقرائكم على أن الإصلاح الأول للمدونة لم يكن ممكنا دون الرؤية المتبصرة لجلالة الملك، الذي استطاع أن يجعل من تردد المجتمع، سنة 2000، بشأن قضية حقوق المرأة والمساواة بين الجنسين، نجاحا حاسما ونادرا في سياقنا الإقليمي. كما أن مسيرة تمكين المرأة المغربية، التي ما فتئ جلالته يذكر بضرورتها في كل خطاباته، لم تتوقف منذ ذلك الحين، لتتوج بعدة محطات، كان من بين أبرزها القرار الملكي بفتح المجال للنساء لولوج مهنة العدول، الذي شكل من وجهة نظري منعطفا تاريخيا وثورة حقيقية.
بذات الرؤية، انطلق ورش إعادة النظر في مدونة الأسرة سنة 2023، في مسار ونهج يميز بحق تدبير المغرب لقضاياه ومقاربته لحقوق الإنسان، يقوم بالأساس على التفاعل المستمر بين مختلف الفاعلين والدولة، ويتميز بثلاثة عناصر رئيسية: (أ) الحوار والتوافق بين جميع أصحاب المصلحة، بدلا من المساومة، (ب) ابتكار الأجوبة الأنسب للسياق الوطني، (ج) وانخراط جميع الفاعلين ضمن مقاربة تشاركية منفتحة على الجميع.
هذا ما يميز هذا الورش الجديد لإصلاح مدونة الأسرة، في مقاربة خبرها المغرب في تجربة العدالة الانتقالية وفي مراجعته للدستور وفي بلورة النموذج التنموي الجديد وفي الجهوية المتقدمة …المسار الذي ينهجه إصلاح المدونة اليوم، هو امتداد وتكريس لهذه المقاربة الفضلى التي ينفرد بها المغرب في تعاطيه مع قضاياه.
أغتنم هذه الفرصة للإشارة إلى أنه احتراما لأدوار المؤسسات، في دولة المؤسسات، ولواجب التحفظ، لا يمكنني التعليق عن نقاشات المدونة ومآلها. من هذا المنطلق بالذات، كان المجلس الوطني لحقوق الإنسان قد قدم مذكرته للهيئة المكلفة بتعديل المدونة، التي تشرفت بعضويتها، ولم نقم بنشرها لحد الآن، بالنظر للمكانة التي تحظى بها المؤسسة الوطنية لحقوق الإنسان التي شرفني صاحب الجلالة برئاستها.
اليوم، النقاش المؤسساتي لمدونة الأسرة، يسير في إطاره الدستوري العادي، وفيا دوما للنهج والمقاربة التي كرسها المغرب، في تدبيره لقضاياه الأساسية كما سبقت الإشارة إلى ذلك. هذه المقاربة مكنتنا طيلة 25 سنة وستمكننا دوما من إيجاد الحلول، بشكلها الملائم، وفي وقتها المناسب.

أصدرتم في الآونة الاخيرة تقارير ذات طابع اجتماعي واقتصادي (المصحات نموذجا)، كيف تباشرون، من زاوية الحقوق تدبير الجيل الثاني من الحقوق الإنسانية، وماهي حصيلة عملكم في هذا الجانب؟ 

في الحقيقة اهتمامنا بهذه المواضيع، وعدد من القضايا الناشئة، مثل فعلية حماية حقوق الإنسان في الفضاء الرقمي وعصر نظم الذكاء الاصطناعي والتغيرات المناخية وحقوق الإنسان، لا تمليه حاجة محددة في الآونة الأخيرة. لقد بادرنا إلى إطلاق التفكير في هذه القضايا، بعقد ندوة وطنية مع مختلف الفاعلين في يوليوز 2019 حول التعابير العمومية والعدالة المجالية. منذ ذلك، جل تقاريرنا السنوية المنتظمة، منذ 2019، تتطرق في محاور خاصة لهذه القضايا، التي نفرد لها تقارير موضوعاتية  أو مذكرة أو رأي، كلما دعت ضرورة الرصد ذلك، ووفقا أيضا إلى المحاور الاستراتيجية التي سطرناها ونتداول بشأنها في دورات الجمعية العامة لأعضاء المجلس الوطني لحقوق الإنسان.
بالنظر إلى حجم التداعيات، اعتمدنا على مقاربة فعلية الحقوق، أي الجمع بين الجانب القانوني وغير القانوني؛ الاقتصادي والاجتماعي والثقافي والبيئي، في تدخلاتنا وتقييمنا، بالنظر إلى تداخل الحقوق التي يسائِل المواطنات والمواطنين فعلية احترامها والتمتع بها.
لذلك أصبحت تقاريرنا وتوصياتنا تصاغ اليوم بناء على استراتيجيتنا الخاصة بفعلية الحقوق، وهي استراتيجية ترتكز على ثلاث أعمدة مترابطة فيما بينها، وهي: الوقاية من الانتهاكات، وحماية الضحايا، والنهوض بثقافة حقوق الإنسان. لا تفرق في هذه الاستراتيجية بين أي جيل من أجيال حقوق الإنسان، بالنظر إلى أن ميثاق الحقوق ميثاق واحد، والالتزام باحترامها وحمايتها هو أيضا التزام واحد، غير قابل لأي تجزيئ.
لا بد من التأكيد، فضلا عن ذلك، أنه ليس هناك، ولا يجب أن تكون هناك، أي تراتبية للحقوق، كما لا يمكن القبول بتجزئتها أو تأجيل إعمال بعضها؛ فهي كل لا يتجزأ ومنظومة متكاملة يؤثر إعمال بعضها على إعمال الآخر، وإن كنا كمدافعات ومدافعين عن حقوق الإنسان قد نتفهم أن فعلية بعض الحقوق، خاصة الاقتصادية والاجتماعية، تتطلب موارد مالية واستراتيجيات إضافية، غير أننا لا نسائل الحكومات سوى على ما هو ممكن، وفقا للموارد المتوفرة وحكامة تدبيرها.
على هذا الأساس قدم المجلس اقتراحات وتوصيات في مجالات متعددة، حيث نشرنا، إلى حدود الدورة الرابعة عشر للجمعية العامة للمجلس الوطني لحقوق الإنسان (يونيو 2024)، أزيد من 70 إصدارا، من بينها 5 تقارير سنوية (2019- 2023) حول وضعية الحقوق والحريات، و8 تقارير موضوعاتية و3 مذكرات و5 آراء. كما عالجنا حوالي 13 ألف شكاية ونظمنا أكثر من 450 لقاء وتدخل وطني أو جهوي (بين متوسط وكبير)، فضلا عن تنظيم عشرات الدورات التكوينية ومواصلة إثراء النقاش بشأن القضايا الحقوقية، حيث تناولت أزيد من 35 ألف مادة إعلامية مواضيع حقوقية من وجهة نظر المؤسسة الوطنية لحقوق الإنسان، علاوة على تدخلاتنا الرئيسية الوقائية والحمائية، حيث تجاوز عدد الزيارات الحمائية لأماكن الحرمان من الحرية التي قمنا بها 800 زيارة وأكثر من 118 زيارة للوقاية من التعذيب.

وقعتم اتفاقات، غير مسبوقة مع ادارة الأمن، والذي شكل في فترات طويلة من تاريخ المغرب الحديث «الخصم» الصعب للحقوقيين، كيف ترون التعاون الحالي؟  وأي مستقبل تتوقعونه لهذا العلاقة؟ 

بالفعل، لقد كان تطوير الحكامة الأمنية من بين أهم مداخيل الإصلاح التي كنا نترافع من أجلها على رأس ضمانات عدم تكرار ماض الانتهاكات الجسيمة. لقد عرف التفاعل مع الإدارة العامة للأمن الوطني والمؤسسة الوطنية لحقوق الإنسان تطورا مهما، توفرت معه شروط التعاقد بين المؤسستين، في شراكة، كما قلتم، غير مسبوقة، على كافة المستويات، بل أضحت ممارسة دولية فضلى نتقاسم مقوماتها اليوم مع شركاء دوليين عبروا عن اهتمام صريح باستلهام هذه التجربة.
عززت الاتفاقية جهود رفع قدرات مختلف المسؤولين الأمنيين، خاصة المعنيين بالغرف الأمنية، كما أصدرنا بشكل مشترك كتيبات، خاصة في مجالات مناهضة التعذيب والوقاية منه. فضلا عن ذلك، ننظم منذ 2022 أنشطة وتفاعلات برواق مشترك خلال الأبواب المفتوحة للأمن الوطني تمكننا من الحوار بين آلياتنا ومع الزوار، إلى جانب عقد ندوات بهذا الفضاء حول مواضيع تهم حقوق الإنسان، كان آخرها حول تعاون إدارة الأمن الوطني في كشف الحقيقة بعدد من حالات الاختفاء القسري.
ووفقا لتقارير الآلية الوطنية للوقاية من التعذيب، تصل نسبة التفاعل الإيجابي مع توصيات زيارات الآلية للمراكز التابعة للأمن الوطني إلى 86%.

مدت بعض الأطراف الى جعل الجبهة الحقوقية جبهة بديلة في معركة الوحدة الترابية، بعد أن تقدم المغرب على الجبهات العسكرية والديبلوماسية، كيف تقرؤون المسألة الحقوقية في علاقتها بالمعركة الوطنية من زاوية المكتسبات والتطلعات الواجب تحقيقها؟ 

عكس ما تدعيه الأطراف التي تشير إليها. أنا أرى أن المغرب يتقدم بخطى ثابتة لترسيخ الحقوق والحريات ورفع تحديات الحقوق الاقتصادية والاجتماعية. كما أنه لا فرق، سواء في تقاريرنا، أو في مبادرات وأوراش الحماية الاجتماعية التي أطلقها المغرب، بين جهاته الاثنا عشر.
استراتيجيتنا كمؤسسة وطنية لحقوق الإنسان تقوم على رصد احترام حقوق الإنسان والاستماع إلى الضحايا كيفما كان موقفهم السياسي من القضية الوطنية. كما أن الزيارات التي نقوم بها لأماكن الحرمان من الحرية تهم كامل التراب الوطني. المعطيات والحقائق الدقيقة والموضوعية التي نقدمها، سواء على المستوى القاري أو على المستوى الدولي، تساهم في تفنيد عدد من الادعاءات، بشكل تلقائي وكشف أي انزلاق أو استغلال سياسي لحقوق الإنسان.
فضلا عن المعطيات التي نقدمها لمنظمات دولية وبعض الآليات التعاقدية بشأن حالات محددة، نقدم تقارير دورية حول وضعية حقوق الإنسان بأقاليمنا الجنوبية، علاوة على تقريرنا السنوي الذي يقدم رصدا وتقييما شاملا لفعلية الحقوق بكامل التراب الوطني.
تطوير ثقافة حقوق الإنسان وتعزيز حمايتها والنهوض بها عملية تستهدف كل المغاربة، كيفما كانت أراءهم ومواقفهم السياسية، لا فرق في ذلك بين أي منطقة أو جهة من الجهات المغربية الاثنا عشر. التنمية وبرامج النهوض بالأوضاع الاقتصادية للأفراد، التي تهم الجميع دون تمييز، تدحض هي الأخرى الاتهامات التي، كما نرصد مرارا، لا تخلو من تضليل ومن تلفيق، أحيانا متستر، وأحيانا عام ومفضوح.
خلال العشرين سنة الماضية عرف المغرب كيف يوازي ما بين معالجة قضايا حقوق الإنسان، كمبادئ وقيم تتطلب الدعم والمساندة، ومعالجة القضايا السياسية التي قد تتقاطع أحيانا مع حقوق الإنسان. غير أنه لم يسبق لنا أن ربطنا قضايا حقوق الإنسان بمصالحنا السياسية، وهو ما مكن المملكة من أن تحظى اليوم بثقة دول العالم.

انتخب المغرب رئيسا للمجلس التابع للأمم المتحدة، كما صار لمجلسكم حضور لا محيد عنه دوليا، ماذا يعني هذا التقدم على الجبهة الحقوقية؟ 

لقد كان انتخاب المغرب لأول مرة في تاريخه، لرئاسة مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة، انتخابا تاريخيا، يعبر عن الثقة التي ذكرت للتو. لقد توج انتخاب المغرب مسارا انخرطت فيه المملكة منذ أكثر من 20 سنة، من أجل إحقاق الحقوق على المستوى الوطني، باعتماد مقاربة تشاركية مندمجة لمعالجة قضاياه الحقوقية، كما سبقت الإشارة إلى ذلك، يشارك فيها المواطنات والمواطنين من كافة الجهات.
فضلا عن ذلك يتفاعل المغرب مع المنظومة الدولية والآليات التعاقدية، من خلال ممارساته الاتفاقية المتقدمة، ومن خلال قيادته لعدد من المبادرات والقرارات الأممية والترافع من أجلها، ومن خلال تقديمه للتقارير والتفاعل مع هيئات المعاهدات، فضلا عن مقاربته للإشكاليات الدولية وحضور خبرائه في هيئات معاهدات أممية.
بالنسبة لحضور المجلس الوطني لحقوق الإنسان في الساحة الدولية، فالمؤسسة تشغل 11 منصبا داخل الشبكات الدولية والإقليمية للمؤسسات الوطنية لحقوق الإنسان، على رأسها أمانة ونيابة رئاسة التحالف العالمي للمؤسسات الوطنية لحقوق الإنسان.
ما يهنا بالأساس في هذا الحضور والمكانة الدولية البارزة، سواء بالنسبة للمغرب أو بالنسبة لنا في المجلس الوطني لحقوق الإنسان، هو المساهمة الفعلية والفعالة في حماية الحقوق والحريات والنهوض بها في العالم، خاصة أن مشاركة دول الجنوب في التنظير للمفاهيم والممارسات الحقوقية وبلورتها تبقى محدودة وأحيانا شبه منعدمة، وإن كانت ممارسة بعض هذه المفاهيم تتم في الأصل في دول الجنوب.
هذا ما ندعو إلى تغييره ونطمح دوما إلى المساهمة في أجرأته وتحقيقه. مثلا إسماع صوت إفريقيا والترافع من أجل حماية مصالحها، في المحافل الدولية، مسؤولية تقع بالأساس على عاتق الدول الإفريقية. لا يمكن أن نترك الفراغ وألا ندافع على مصالحنا المشتركة في كافة سياقاتنا الإقليمية والقارية، من أجل المغرب والمغاربة، من أجل افريقيا، ومن أجل فعلية حقوق الإنسان في كل البقاع. هذا هو الطموح الذي نسير في خطى ثابتة لتحقيقه.

ما هي أهم لحظة حقوقية طبعت العهد الجديد في تقديركم الشخصي، وما هي الصورة التي قد تعتبرونها صورة العهد الجديد من وجهة نظركم الشخصية؟ 

ليست لحظة بل لحظات…
أولها صورة عناق عفوي ذات دلالات عميقة، حاضرة دوما في ذاكرتي على اعتبار انخراطي منذ سن مبكرة في الترافع من أجل حقوق ضحايا انتهاكات الماضي…؛ صورة عناق بين جلالة الملك وأمهات ضحايا بالقصر الملكي
قبلها لحظة أخرى من أهم لحظات تجربة العدالة الانتقالية، تمثلت في الالتقاء العفوي والسلس لإرادة دولة ومجتمع؛ التقاء كان عنوانا لمحطةٍ ومسار تكرست معهما الضمانات والحقوق والحريات في وثيقة دستورية، وصولا إلى إعادة تنظيم المجلس الوطني لحقوق الإنسان… للتحول الفلسفة من ليس فقط القطع مع الانتهاكات الجسيمة، بل وضع ضمانات الوقاية منها؛
إصلاح مدونة الأسرة سنة 2000 والتدخل الملكي حينها وفقا لرؤية مجمعة متبصرة، وضعت حدا لتردد مجتمعي، كان يعيق وقتها تمتع النساء بحقوق رئيسية… لحظة تتعزز اليوم مع إطلاق الملك لورش ثاني لإصلاح المدونة بعد 20 سنة من الممارسة؛
لحظة أخرى من اللحظات الحقوقية الهامة تمثلت في تبوء اللغة والثقافة الأمازيغية للمكانة التي تستحقها بجانب اللغة العربية، وصولا لإقرار رأس السنة الأمازيغية عطلة وطنية، مع كل ما يشكله ذلك من ترسيخ متجدد للطابع المتعدد للهوية الوطنية الأصيلة الغنية بروافدها المختلفة؛
لحظات متتالية في بناء تراكم وزخم مهد للحظة رئيسية أخرى تمثلت في ورش تعديل الدستور المغربي، الذي وضع ميثاقا وطنيا للحقوق والحريات، يشمل 21 فصلا صريحا، وفصولا ومقتضيات حقوقية ضمنية أخرى عديدة، في نهج عزز بشكل كبير المقاربة المغربية-المغربية لتدبير قضايانا الوطنية؛
تنضاف لهذه اللحظات الحقوقية، لحظة الورش الجديد لتحقيق الحماية الاجتماعية لكافة المغربيات والمغاربة، بكافة جهات المملكة، والتدبير الآني والمستعجل لفاجعة الزلزال، الذي اتخذ فيه الملك قرارات استراتيجية في صلب فعلية الحقوق خلال الأزمات الإنسانية، وعلى رأسها قرار التكفل بالأطفال اليتامى ضحايا زلزال الأطلس ومنحهم صفة مكفولي الأمة؛
هي لحظات حقوقية متميزة، وغيرها كثير، تنضاف إليها بالتأكيد لحظة خروج صاحب الجلالة لمشاركة فرح المغاربة، خلال المسار المرموق للمنتخب الوطني المغربي في نهائيات كأس العالم 2022…

 

أمنية بوعياش
رئيسة المجلس الوطني لحقوق الانسان
رئيسة المنظمة المغربية لحقوق الانسان سابقا


الكاتب : الاتحاد الاشتراكي

  

بتاريخ : 29/07/2024