الكاتب الأرجنتينيِّ أدريان ن. براﭬـي : المنفى هو في المقام الأوَّل حدثٌ لغويّ

 

أصدرت منشورات فواصل في سوريا التَّرجمة العربيَّة لكتاب «غيرة اللُّغات» للكاتب الأرجنتينيِّ أدريان براﭬـي الذي يقيم في إيطاليا منذ أكثر من ثلاثين عاماً ويكتب باللغة الإيطاليَّة، وبهذه المناسبة، نشرت «جدليَّة» هذا الحوار الذي أجراه معه مترجم هذا الكتاب، الشَّاعر السُّوريُّ أمارجي:

 كيف يبدو لك الأمر ونحن نحاول أن نقيم هذا الحوار عن اللغة داخلَ لغةٍ ليست لغتك الأصليَّة ولا لغتي، ولكنَّها لغةٌ أخرى، لغةٌ وحَّدتنا أنا وأنت، ويمكننا والحال هذه أن نسمِّيها «لغةً ثالثة»؟

أنا مقتنعٌ بأنَّ اللغات تحدِّد شكل وجودنا وإقامتنا في هذا العالم. أفكارنا تتشكَّل وفقاً للُّغة التي نتبنَّاها. والحياة، بالتَّالي، تضعنا أمام خيارات: في حالتي، اخترت أن أغادر بلدي، الأرجنتين، وأنتقل إلى إيطاليا لمواصلة دراستي. مع مرور الوقت، أصبحت اللغة الإيطاليَّة أشبه بلغةٍ أمٍّ ثانيةٍ بالنِّسبة إليَّ، كما أصبحت في الوقت نفسه جسرَ التقاءٍ كما هو شأنها الآن بيني وبينك. إنَّه من حسن حظِّنا إذاً، أنا وأنت، أن نتمكَّن من تبادل الأفكار بلغةٍ كانت فيما مضى لغةَ شعراءٍ وناثرين عِظام. لغةٍ استطاع كلٌّ منَّا، بطريقةٍ مختلفةٍ عن طريقة الآخر، أن يكتسبها ويجعل منها لغةً له. وهذا إن دلَّ على شيءٍ فإنَّه يدلُّ على أنَّ اللغات هي جسور التقاء، وهي تخلق علاقاتٍ وأواصر لأنَّه لا جدران لها. قد يكون تحصيلها أمراً محفوفاً بالصِّعاب، ولكنَّها منفتحةٌ وليست حكراً لأحدٍ دون سواه. اللغات ملك أولئك الذين يتحدَّثون بها فحسب، وأنا وأنت قد اخترنا اليوم اللغة الإيطاليَّة لإقامة هذا الحوار الذي يتمحور حول اللغات.

أتيتَ من بلدٍ شهدَ موجات هجرة لكثيرٍ من الأعراق ومن بلدانٍ مختلفة، الأمر الذي خلق تنوعَّاً لغويَّاً. هل تجد أنَّ ذلك كان أمراً جيِّد الأثر على اللغة الإسبانيَّة الأرجنتينيَّة، أم أنَّك تنزع إلى فكرة الصَّفائيَّة اللغويَّة؟

أعتقد أنَّ فكرة الصَّفائيَّة اللغويَّة من المستحيل أن تصمد، ولا سيَّما في عالمٍ كعالمنا لا يتوقَّف عن التَّطور ولا ينقطع الحوار بين شعوبه. اللغة ليست جسداً ثابتاً، وإنَّما هي صيرورةٌ وتحوُّل. يمكننا الدِّفاع عن بعض التَّراكيب القواعديَّة والنَّحويَّة، ولكن اللغة نفسها تبقى مفتوحةً دائماً على تلقِّي ملوِّثاتٍ وشوائب جديدة. إنَّنا نعيش عرضةً لالتقاء اللغات، يكفي أن نفكِّر في إيطاليا التي تحوَّلت اليوم إلى مفترق طرقٍ للهجرات صوب أوروبَّا. وأعتقد أنَّ هذا أمرٌ جيِّدٌ للغاية، لأنَّ اللغات ليست مجرَّد قواعد، بل هي تحمل معها تجارب جديدة ومناظر جديدة ووجهات نظرٍ جديدة؛ إنَّها تخلق الكثير من الحقائق المتعدِّدة الوجوه والأشكال.
عندما وصل الفاتحون الأوائل إلى أراضي الأرجنتين كان السُّكَّان الأصليُّون يتحدَّثون العديد من اللغات التي في غضون سنواتٍ قليلةٍ بدأت تضمحلُّ وتزول، ذلك أنَّها كانت تنتمي إلى مجموعاتٍ بشريَّةٍ صغيرة (باستثناء اللغة الغوارانيَّة التي ما زالت لغة التَّواصل اليوميَّة في العديد من الأماكن، وخاصَّةً في الباراغواي). للأسف كانت هناك في جميع أنحاء القارَّة الأمريكيَّة هيمنةٌ لغويَّةٌ أبادت ثقافاتٍ بأكملها. ومع ذلك، كانت الإسبانيَّة التي ترسَّخت آنذاك في الأرجنتين مختلفةً كلِّيَّاً عن الإسبانيَّة الحاليَّة لأنَّه، كما نعلم، بعد النِّصف الثَّاني من القرن التَّاسع عشر بدأت مرحلة تحوُّلٍ لغويٍّ سببها التقاء اللغة في الأرجنتين بالعديد من اللغات المختلفة التي جاء بها المهاجرون. فالإيطاليَّة والفرنسيَّة، على سبيل المثال، حدَّدتا بقوَّة شكلَ ومسارَ تحوُّل الإسبانيَّة الأرجنتينيَّة، الأمر الذي جعلها، في رأيي، أكثر جمالاً من الإسبانيَّة في إسبانيا. إنَّني أرى أنَّ اللغة التي تتحصَّن وراء نفسها ينتهي بها الأمر إلى الضمور، ولذا فإنَّ الفجوات والشَّوائب اللغويَّة من شأنها أن تؤدِّي إلى إثراء ثقافة البلد.

ولكن ماذا عن اللغات المقدَّسة؟ هناك لغاتٌ تستمدُّ حياتها من التصاقها بالخطاب الدِّينيِّ، كاللاتينيَّة، اللغة الطَّقسيَّة للكنيسة الكاثوليكيَّة، والعربيَّة التي توصَف بأنَّها «لغة القرآن». في القرآن هناك العديد من الآيات التي تؤكِّد على فكرة الصَّفائيَّة اللغويَّة، مثل:
«قرآناً عربيَّاً غيرَ ذي عِوَجٍ لعلَّهم يتَّقون» (الزُّمَر: 28)
«إنَّا أنزلناه قرآناً عربيَّاً لعلَّكم تعقلون» (يوسف: 2)
«كتابٌ فُصِّلَت آياته قرآناً عربيَّاً لقومٍ يعلمون» (فُصِّلَت: 3)
وبالتَّالي فإنَّ اللاتينيَّة والعربيَّة تقدِّمان نموذجاً للغتين استطاعتا أن تحافظا على حياتهما وجمالهما، على الرَّغم من أنَّهما، نظراً لخطابهما الدِّينيِّ السَّابق على الخطاب اللغويِّ، قد تحصَّنتا وانغلقتا، كلُّ واحدةٍ على نفسها.

في الواقع، أعتقد أنَّه لن يبدو منطقيَّاً تماماً أن ننقل المعنى المذكور أعلاه، فيما يتعلَّق بمسألة تشكُّل اللغات، إلى السِّياق الدِّيني، لأنَّ الأشخاص الذين يتعلَّمون لغةً مقدَّسةً أو طقسيَّةً إنَّما يفعلون ذلك من باب الإيمان، ولكنَّهم في الحياة اليوميَّة يستخدمون لغةً أخرى أو لغةً محوَّرةً عن تلك اللغة. إنَّ الحقائق والعقائد تتكشَّف من خلال لغةٍ أصيلةٍ يمكننا أن نعدَّها فريدةً وأبديَّةً أو على الأقلِّ محاطةً بقدسيَّةٍ معيَّنة، وذلك بالتَّحديد لأنَّ تلك الحقائق والعقائد قد تكشَّفت من خلالها وترسَّخت فيها إلى الأبد: نحن نتحدَّث هنا عن العبريَّة التُّوراتيَّة أو العربيَّة الفصحى أو سَنسيكريتيَّةِ كتاب الفيدا؛ عن لغاتٍ تعيش في النُّصوص المقدَّسة وتشكِّل جزءاً من الشَّعائر الدِّينيَّة. وهي عموماً لغاتٌ يتعلَّمها المرء في مرحلة الطُّفولة، ولا يمكن من ثَمَّ أن نسمِّيها لغاتٍ أموميَّة.
هذه القداسة لا نجدها في اللغات العامِّيَّة المعرَّضة، كما قلتُ سابقاً، لعمليَّات تحوُّلٍ وتهجينٍ مستمرَّة. فهي ليست مدوَّنةً في أيِّ نصٍّ مقدَّسٍ وليست لغاتٍ طقسيَّة، بل هي لغاتٌ تعيش في انفتاحٍ وحوارٍ مع صيرورة العالم. في عام 1821 كتب ليوباردي: «إنَّ اللغات تتغيَّر باستمرار»، كما هو شأن المجتمعات البشريَّة، أحبُّ أن أضيف. وبالتَّالي، يمكن التَّمييز هنا بين اللغات المقدَّسة، التي هي نصِّيَّةٌ بحتة، واللغات التي يمكن أن نسمِّيها عامِّيَّةً، بالشَّكل الذي تولَد وتنغرس وفقاً له داخل مجتمعٍ من المجتمعات.

إذاً، فكرة الصَّفائيَّة ممكنةٌ فقط في اللغات النَّصِّيَّة التي تكتسي طابعاً مقدَّساً؟

أعتقد أنَّه في اللحظة التي ينزل فيها الوحي الإلهيُّ بلغةٍ معيَّنةٍ يتوقَّف المسار الزَّمنيُّ لتلك اللغة، تصبح مقدَّسةً بمجرَّد أن يُنطق بذلك الوحي. ومع ذلك، أعتقد أنَّ هذه اللغة، لنأخذ على سبيل المثال اللغة الأصليَّة لمحمَّد أو اللغة العربيَّة الفصحى، قبل أن تبلغ النُّقطة التي أصبحت عندها «لغة القرآن» كان لها مسارها الخاص الذي، بالنِّسبة إلينا، بلغ نهايته في اللحظة التي تجلَّى فيها الله للنَّبيِّ عبر وسيطٍ ملائكي. والحال هذه، يمكننا الحديث هنا عن صفائيَّةٍ لغويَّة، ذلك أنَّ المسار الزَّمنيَّ للكلمة المتجلِّية يُعطى كلُّه في لحظةٍ واحدةٍ عديمة الصَّيرورة.

أحبُّ أن تحدِّثني عن صيرورة وتحوُّليَّة لغتك الإيطاليَّة من المنظور الرَّمزيِّ لحديقة إرْنِستو ساباتو. لقد سكنتَ في طفولتك مع عائلتك في منزلٍ يبعد أمتاراً قليلةً عن منزل هذا الكاتب، وقد تحدَّثت في كتابك عن حديقته. كيف هي رؤيتك لتلك الحديقة بعد حوالي أربعين عاماً. وهل هذا التَّمثيل الرَّمزيُّ، بين لغتك الإيطاليَّة وتلك الحديقة، ممكنٌ في رأيك؟

نعم، إنَّه ممكنٌ تماماً. في طفولتي كثيراً ما كنت أذهب مع أصدقائي لنلعب في حديقة إرْنِستو ساباتو. كنَّا نختبئ بين الأشجار وفي ذلك الوقت كانت الإسبانيَّة الأرجنتينيَّة هي لغتي. عالمي كلُّه كان تلك اللغة. عندما رأيت تلك الحديقة بعد سنواتٍ طِوالٍ كان معي سانتياغو، ابني الذي كان له من العمر آنذاك عشر سنوات (العمر نفسه الذي كان لي عندما كنت أتسلَّق تلك الأشجار)، وهذه المرَّة كنَّا نتحدَّث الإيطاليَّة فيما بيننا، لأنَّه كان قد مضى على وجودي في إيطاليا أكثر من عشرين عاماً. رؤيتي من جديدٍ لحديقة ساباتو في ضوء لغةٍ جديدة ولَّد في نفسي أثراً كبيراً، غير أنَّ الذِّكريات التي وُلدت في أعماقي كانت تتحدَّث لغة طفولتي، الإسبانيَّة الأرجنتينيَّة. إنَّني مقتنعٌ بأنَّ الذِّكريات تنبعث بقوَّةٍ أكبر من أعماقنا إذا نحن استحضرناها باللغة التي وقعت بها أحداثها. أن نتذكَّرها بلغةٍ أخرى فهذا من شأنه أن يبدِّدها أو يجعلها أقلَّ وضوحاً. داخل كلمات طفولتنا ثمَّة حياةٌ (ألوانٌ، ونكهاتٌ، وأصواتٌ، وما إلى ذلك)، حياةٌ تقبع داخل الكلمات نفسها ومن المستحيل فصل تلك الذِّكريات عن الأصوات. كثيراً ما يحدث لي، كلَّما عدت إلى الأرجنتين بين وقتٍ وآخر، أن أستخدم التَّعبيرات التي كنت أستخدمها عندما كنت صغيراً، وفي كلِّ مرَّةٍ أكتشف أنَّ بعض طرق التَّعبير والكلام لم تعد مستخدمة، لأدرك مِن ثَمَّ أنَّني قد بقيت ثابتاً عند تلك المرحلة من الطُّفولة، في حين كانت اللغة هناك تتغيَّر مع مرور الزَّمن. يصف لويجي مينيغيللو هذا الأمر أحسن وصفٍ حين يتحدَّث عن اللغة التي تتحرَّك مثل تيَّار، فعندما يعود مهاجرٌ غادر قبل عدَّة سنواتٍ يدرك أنَّه يتكلَّم على نحوٍ مختلف، وأنَّ اللغة في تلك الأثناء كانت تتغيَّر كمياه النَّهر.

 في حوارٍ مستفيضٍ أجراه معه كارلوس كاتانيا، وصدر في كتابٍ بعنوان «بين الحرف والدَّم»، لا يُخفي إرْنِستو ساباتو استياءه من قواعد اللغة، بل يبدو أنَّه يمجِّد الاختلال اللغوي، فهو يمتدح شجاعة دانتي لأنَّه أدار ظهره للُّغة اللاتينيَّة واختار اللغة العامِّيَّة الفظَّة والخالية من أيَّة قواعد ليكتب بها «كوميدياه الإلهيَّة». ما رأيك في هذه المسألة؟ هل يمكن للغةٍ متحرِّرةٍ من القواعد أن تمتلك مقدراتٍ أكبر وهامش تعبيرٍ أوسع من تلك التي يمكن للغةٍ تحتكم إلى القواعد أن تمتلكها، وبالتَّالي أيمكن لها أن تصبح لغة أدب؟

حول حقيقةِ أنَّ اللغة العامِّيَّة لا تمتلك قواعد سيكون لديَّ الكثير من الشكوك، فأنا أعتقد أنَّ كلَّ نظامٍ لغويٍّ إنَّما يتشكَّل داخل بنيةٍ صوتيَّةٍ ونحويَّة. بالنِّسبة إلى دانتي، فإنَّ اللغة العامِّيَّة هي تلك التي نتعلَّمها منذ نعومة أظفارنا، دونما حاجةٍ إلى قواعد، فنحن نكتسبها ونعيها من خلال «تقليد مرضعاتنا». ثمَّ إنَّ هناك لغةً أخرى، لغةً تحكمها القواعد، ويعدُّها دانتي لغةً ثانية، وهي لغةٌ تُدَرَّس في المدارس وتبدو شبيهةً باللاتينيَّة. ثمَّة طريقتان مختلفتان تماماً لاكتساب لغةٍ من اللغات: طريقة التَّعلُّم الذَّاتي، وتتمُّ بشكلٍ عفويٍّ؛ وطريقة أخرى تتمُّ من خلال تطبيق القواعد، ولهذا السَّبب فإنَّه يصفها بأنَّها «مصطنَعة». يتحدَّث دانتي عن هذا كلِّه في كتابه «عن البلاغة العامِّيَّة» ومن المثير للاهتمام الإشارة هنا إلى أنَّ دانتي، في هذه الرِّسالة غير المكتملة، لكي ينبري لدفاعه عن العامِّيَّة، كان قد اختار نقيض العامِّيَّة بامتياز، وبالتَّحديد اللاتينيَّة، ليتمكَّن من مخاطبة أدباء عصره. غير أنَّ إيطاليَّة «الكوميديا الإلهيَّة» اليوم ليست نفسها تلك العامِّيَّة، العامِّيَّة الغرَّاء، بل هي إيطاليَّةٌ مستقرَّةٌ قائمةٌ على اللهجة الفلورنسيَّة الأدبيَّة التي يمكنها أن تحلَّ بجدارةٍ محلَّ اللغة اللاتينيَّة. باللغة الإيطاليَّة التي كان يمتلكها، قام دانتي بتطويب نموذجٍ لغويٍّ يشكِّل الأساس للُّغة الإيطاليَّة الحاليَّة.
بالنِّسبة إلى الشِّقِّ الثَّاني من سؤالك، فأنا أعتقد أنَّ الأدب ليس سوى طريقةٍ لتخريب اللغة، وتحويلها، وإفسادها، وإثرائها. كلُّ مؤلِّفٍ، كما يقول دولوز، عليه أن يخلق لغةً مصغَّرةً داخل لغته لكي يتمكَّن من إخراجها عن قواعدها. هذا ما يفعله جويس في «يقظة فينيغان»، حيث يذهب بدفق الوعي إلى أقصى حدوده، أو بيكيت، كما في فواصل ووقفات صمته. أعتقد أنَّ المؤلِّفين العظام هم أولئك الذين ينجحون في فتح اللغة على آفاق جديدة.

 نعم، والشُّعراء على وجه التَّحديد. إنَّهم ليسوا مجرَّد «حرَّاسٍ» للُّغة، كما يصفهم دانتي، بل هم الذين يصنعون اللغة، يصنعونها عبر الخلخلة والخلق في آنٍ واحد. وكلَّما ابتكر الشَّاعر لغةً وجد نفسه حبيسَ تلك اللغة، فيعمد إلى تحطيمها دون أن يشعر أنَّ عمليَّة التَّحطيم نفسها هي عمليَّة ابتكارٍ للغةٍ أخرى لن يلبث أن يجد نفسه أسيراً لها، وهكذا يستمرُّ الأمر إلى ما لا نهاية. كيف ترى العلاقة بين اللغة والشِّعر؟

هذا صحيح. الشِّعر لديه هذه القوَّة الخلَّاقة على بدء الكلمة، ومن خلال الكلمة على بدء العالم الذي تسمِّيه. في مقالته «جوهر اللغة» يحلِّل هايدغر قصيدةً لِشتفان جورجه، عنوانها Das Wort (=الكلمة)، تنتهي خاتمتها بهذا البيت: «لا شيء يكون حيث لا تكون الكلمة»)، أي حيثما تغيب الكلمة لا يمكن أن يكون هناك «أيُّ شيء»، ما يعني أنَّ الأشياء تنتظر شاعراً أن يسمِّيها لكي تكون. اللغة الشِّعريَّة، إذاً، مقارنةً باللغة المعتادة، تمتلك أصالة الكلمة، وهي أصالةٌ ذات قدرةٍ على الخلق وعلى ابتكار الخطاب في الوقت نفسه. أعتقد أنَّ هذا البيت لِشتفان جورجه يمكن أن يجيب بشكلٍ جيِّدٍ عن سؤالك. من ناحيةٍ أخرى، فإنَّ موضوع اللغة يُفلت دائماً من التَّأمُّل النَّظريِّ؛ إنَّه دائماً منغلقٌ على نفسه. يمكن القول إنَّ الشِّعر هو وحده القادر على أن يرفع عن اللغة ما يواريها ليضعها عاريةً أمام العالم. ولكي أختتم جوابي على هذا السُّؤال أودُّ أن أقول إنَّ الشِّعر يجب أن يذكِّرنا دائماً بتلك الحاجة التي تسبق اكتساب اللغة الأم، حين نبدأ كأطفالٍ بتسمية الأشياء ونرى العالم وهو يكبر إثر ذلك من حولنا، كما لو كنَّا نحن أنفسنا صانعي تلك الكلمات التي ستعطي الحياة للبشريَّة جمعاء؛ هكذا هو الشِّعر.

يقول إميل سيوران: «لا يسكن المرء بلاداً، بل يسكن لغة. ذلك هو الوطن، ولا شيء غيره». ولكن أنا أعتقد أنَّ الشَّاعر يحيا حتَّى اللغة كشكلٍ من أشكال المنفى. بالنِّسبة إليك، اللغة وطنٌ أم منفى؟

برودسكي أيضاً قال الشَّيءَ نفسه تقريباً. قال إنَّ المنفى هو في المقام الأوَّل حدثٌ لغويٌّ، وأضاف أنَّ مَن يجد نفسه بعيداً عن وطنه ينتهي به الأمر إلى اللواذ بلغته، وعندها تتحوَّل اللغة إلى شكلٍ من أشكال الوطن أو إلى حيِّز انتماء. كما أضاف أنَّ اللغة تتحوَّل من سيفٍ، من ذلك السَّيف الذي كانته في أرض الوطن، إلى درعٍ أو غلافٍ حافظٍ نأوي إليه عندما نجد أنفسنا غرباء خارج أوطاننا. إنَّها تجربةٌ جدُّ مألوفةٌ عند أولئك الذين أُرغِموا على ترك أراضيهم ليرحلوا إلى مكانٍ جديد. الشِّعر يمتلك هذه القدرة السِّحريَّة على حملنا دائماً إلى أرضٍ غريبة، ذلك أنَّه، بحكم تعريفه، شيءٌ غريبٌ أو شيءٌ له علاقةٌ «بلغةٍ غريبة»، وفقاً لصيغة جوﭬـانِّي جوديتشي. والشَّاعر، لكي يمتلك لغةً، كما يقول صديقٌ لي، يجب أن يشعر بأنَّها بعيدة المنال، بأنَّها ليست شيئاً في مُلكه. تصبح اللغة في مُلكنا عندما نفقدها. إنَّه أمرٌ ينطوي على مفارقة، ولكنَّ البُعد هو وحده ما يقرِّبنا من الشَّيء الذي حسبناه مفقوداً. أنا لم أشعر يوماً بأنَّني مرتبطٌ بلغتي الأم، الإسبانيَّة الأرجنتينيَّة، مثلما شعرت بذلك في السَّنوات الأولى التي قضيتها في إيطاليا حين كنت أشعر بأنَّ اللغة الإيطاليَّة كانت تهيمن على حياتي. أعتقد أنَّه لا يمكن لأحدٍ أن ينتمي إلى مجتمعٍ من دون أن يُمنى بخسارةٍ ما.

ولكن ألا تعتقد أنَّنا جميعاً، في نهاية المطاف، منفيُّون لغويَّاً؟ ربَّما لأنَّنا نسينا اللغة التي ابتكرناها إبَّان طفولة العالم؟

يطيب لي أن أفكِّر أنَّ الإنسان ينبغي أن يُحسب بين الأنواع المهاجرة. فحياة البشر، في كثيرٍ من الحالات، تتَّسم بالحركة المستمرَّة والتَّنقُّل المستمر. حتَّى الأشياء التي لا ينبغي أن تتحرَّك، تتحرَّك، لا أعرف، خذ على سبيل المثال البيت المقدَّس في لوريتو الذي هاجر بعملٍ ملائكيٍّ، أو الموتى الذين دونما توقُّعٍ حُملوا إلى هذا وإلى ذاك المكان. يبدو أنَّ كلَّ شيءٍ مخترَقٌ باقتلاعاتٍ وخساراتٍ مستمرَّة. وأوَّل خسارةٍ كبيرةٍ عند الإنسان هي اللغة، تلك اللغة الأصليَّة وما قبل الأموميَّة التي تحتضن في ذاتها كلَّ لغات العالم. أشير هنا إلى تلك اللغة الأصليَّة التي أُعطيت لنا مع الولادة. بعد ذلك، أثناء العبور من مرحلة ما قبل اللغة إلى مرحلة اكتساب الكلمات الأولى، فقدنا هذه «الأمومة العظيمة»، دعنا نسمِّيها هكذا، لنتوه بين الكلمات. إنَّها، كما قلت، أوَّل خسارةٍ وأوَّل نسيان. نأمل أنَّ الموت يحمل معه عودةً إلى تلك المرحلة الأصليَّة.

ختاماً، ما الذي يعنيه لك أن يُترجَم كتابك هذا «غيرة اللغات» إلى العربيَّة، وهي كما تعلم لغةٌ لا تمتلك أيَّة علاقة قرابةٍ لا مع لغتك الأم، ولا مع لغتك المتبنَّاة؟

أجد الأمر في غاية الغرابة. إنَّها المرَّة الأولى التي أترجَم فيها إلى لغةٍ لا أفهمها ولا أستطيع حتَّى أن أقرأها. أعتقد أنَّ إحياء الكلمات بلغةٍ أخرى هو عملٌ خيميائي. إنَّه، والحال هذه، تحوُّلٌ كبير، تحوُّلٌ يضع على المحكِّ النَّصَّ المكتوب وطريقة فهمه، والصَّوتَ، والجرْسَ، والصِّياغة، والاختيار المعجميَّ وما إلى ذلك. الأمرُ بالنِّسبة إليَّ، باختصارٍ، هو أنَّ هذا النَّصَّ يُقلع من لغةٍ ليرسو عند مرفأٍ مجهول، وذلك بفضل صوتك. أحبُّ أن أضيف، ختاماً، أنَّني في طفولتي كنت كثيراً ما أتخيَّل نفسي داخل قصَّةٍ من قصص «ألف ليلةٍ وليلة»، والتي قرأتها في طبعةٍ من ترجمة المستشرق الفرنسيِّ أنطوان غالان، والآن، أن أعرف أنَّ اللغة العربيَّة على وشك أن تستضيف كتابيَ هذا هو أمرٌ يجعلني، في جزءٍ منه، أفكِّر في أنَّ تلك الأحلام الطُّفوليَّة لم تنته أبداً. شكراً أمارجي، أنا ممتنٌّ جدَّاً لك.


الكاتب : أجراه وترجمه: أمارجي

  

بتاريخ : 02/08/2024