«جوناثان كوك»: «من بوادر انهيار إمبراطورية ما أن يفقد قادتها كل إحساس بالرعب الذي يلحقونه بشعب ما»

كتب الصحفي البريطاني الحائز على عدة جوائز، والذي عاش في «الناصرة»(إسرائيل) لمدة 20 عاما، ثم عاد إلى «المملكة المتحدة» في عام 2021، ومؤلف لثلاثة كتب عن الصراع الفلسطيني – الإسرائيلي، مقالته التي نشرت في 26 يوليوز لمجلة «ميدل إيستآي»: «كل إمبراطورية تنهار. يصبح انهيارها حتميا بمجرد أن يفقد قادتها كل إحساس بالعبثية والرعب الذي يلحقونه».
هناك دولة واحدة (فقط) في العالم – الآن – في خضم المذبحة الإسرائيلية في غزة، حيث يضمن لرئيس الوزراء «بنيامين نتنياهو» أن يتلقى موجة من التصفيق الحار من الغالبية العظمى من ممثليه المنتخبين. الغريب أن البلد المقصود ليس «إسرائيل»، حيث كان شخصية مثيرة للجدل للغاية لسنوات عديدة، بل هي»الولايات المتحدة».
تم الترتيب لظهور نتنياهو، والترحيب به، والتصفيق والهتاف له وهو يتقدم ببطء – في كل خطوة كبطل قاهر – إلى منصة الكونغرس الأمريكي.
نتنياهو نفسه، الذي أشرف على المذبحة التي راح ضحيتها حوالي 40 ألف فلسطيني (نصفهم من النساء والأطفال) خلال الأشهر ال10 الماضية، كما أن هناك أكثر من 21,000 طفل آخر في عداد المفقودين، معظمهم على الأرجح لقوا حتفهم تحت الأنقاض. نعم، هذا هو نتنياهو (نفسه) الذي دمر شريطا من الأراضي – التي كانت في الأصل موطنا ل 2.3 مليون فلسطيني – والمتوقع أن نستغرق 80 عاما لإعادة بنائها، بتكلفة لا تقل عن 50 مليار دولار.هذا هو نتنياهو (نفسه) الذي دمر جميع المستشفيات والجامعات في غزة وقصف تقريبا كل مدرسة كانت بمثابة مأوى للعائلات التي شردتها القنابل الإسرائيلية الأخرى.
هذا هو نتنياهو (نفسه) الذي يسعى المدعي العام ل«المحكمة الجنائية الدولية» إلى اعتقاله بتهمة ارتكاب «جرائم ضد الإنسانية»، والمتهم باستخدام «التجويع» ك«سلاح حرب» من خلال فرض حصار على المساعدات والتسبب في المجاعة في غزة، هو نفسه الذي أدانت «محكمة العدل الدولية» حكومته الأسبوع الماضي ب «تصعيد نظام الفصل العنصري الإسرائيلي على الشعب الفلسطيني» في مسعى عدواني طويل الأمد، والذي تحاكم حكومته لارتكابه ما وصفته «محكمة العدل الدولية» – أعلى هيئة قضائية في العالم – ب «الإبادة الجماعية». ومع ذلك، لم يكن هناك (وسط حشد المصفقين) سوى رافض واحد لهذه المسرحية.
جلست «رشيدة طليب» المشرعة الأمريكية (الوحيدة في القاعة) من أصل فلسطيني، صامتة وحاملة لافتة سوداء صغيرة، من ناحية كتب فيها: «مجرم حرب» ومن الأخرى: «مذنب بالإبادة الجماعية».. لقد كانت الفرد الوحيد من بين المئات الذي يحاول بصمت الإشارة إلى أن «المتستر كان مفضوحا».

منيع ضد الفزع

في الواقع، كانت الصورة ملفتة للنظر..بدا الأمر كما لو أن الزيارة من حاكم أجنبي بقدر ما كانت زيارة «جنرال مزخرف» تم الترحيب به في مجلس الشيوخ في روما القديمة، أو كما يرحب ب «نائب ملك بريطاني (ذو شعر رمادي) من الهند، تم الترحيب به في برلمان الوطن الأم، بعد إخضاع «البرابرة» بوحشية من أجل الإمبراطورية».
لقد كان مشهدا مألوفا، كما تلك التي تصفها كتب التاريخ: «الوحشية الإمبريالية والوحشية الاستعمارية، التي تحولت بسبب حصار الإمبراطورية إلى شجاعة وشرف وحضارة». يبدو الأمر سخيفا وبغيضا بالنسبة لنا، كما هو الحال عندما نتذكر ما حدث قبل 200 إلى 2000 عام.
يذكرنا (هذا المشهد) بأنه على الرغم من ادعاءاتنا الأنانية بالتقدم والإنسانية، فإن عالمنا لا يختلف كثيرا عما كان عليه منذ آلاف السنين.
لقد كان تذكيرا بأن: «النخب الحاكمة تحب أن تتفاخر بقوتها، التي تحميها من الأهوال التي يواجهها أولئك الذين سحقتهم قوتهم ومن صخب الاحتجاج من أولئك الذين روعهم إلحاق الكثير من المعاناة».
يذكرنا هذا كذلك، بأن: هذه «الحرب» ليست فقط بين إسرائيل وحماس – بل هي متشعبة كمعركة من أجل الحضارة بين العالم اليهودي – المسيحي والعالم الإسلامي، كما يريد نتنياهو أن نصدق». إننا نعيش حربا إمبريالية أمريكية – جزء من حملتها العسكرية من أجل «الهيمنة العالمية واسعة النطاق» – التي تشنها الدولة العميلة الأكثر تفضيلا لواشنطن».
إن «الإبادة الجماعية» هي «إبادة جماعية أمريكية المنشأ والفعل»، أي أن التسليح والتمويل والتغطية الدبلوماسية – وكما تؤكد المشاهد في الكونجرس – تشيد بها واشنطن لكونها منها، أو كما قال نتنياهو في لحظة صريحة(غير مقصودة) في الكونغرس: «أعداؤنا هم أعداؤكم.. معركتنا هي معركتكم.. وانتصارنا سيكون انتصاركم».
تعتبر «إسرائيل» أكبر نقطة أو موقع عسكري لواشنطن في منطقة الشرق الأوسط الغنية بالنفط، كما يرى أن الجيش الإسرائيلي هو «الكتيبة الرئيسية» للبنتاغون في هذه المنطقة ذات الأهمية الاستراتيجية، وأن نتنياهو هو القائد الأعلى لهذه البؤرة الاستيطانية. إن ما هو حيوي بالنسبة للنخب في واشنطن، هو «أن يتم دعم البؤرة الاستيطانية بأي ثمن، وألا تقع في أيدي «البرابرة».

طوفان من الأكاذيب

نحيط علما بأن الهفوات من لدن نتنياهو كانت متعاقبة في مجلس الكونغرس، على غرار لحظة صغيرة أخرى (غير مقصودة) حقيقية وسط طوفان أكاذيب نتنياهو، الذي قال :»إن ما يحدث في غزة هو «صدام بين الهمجية والحضارة».
لم يكن نتنياهو مخطئا. فمن ناحية، هناك «بربرية الإبادة الجماعية الإسرائيلية – الأمريكية» الحالية ضد شعب غزة، والتصعيد الدراماتيكي للحصار الإسرائيلي للقطاع الذي استمر 17 عاما وعقودا من الحكم العدواني في ظل نظام الفصل العنصري الإسرائيلي قبل ذلك.
وعلى الجانب الآخر، هناك حفنة من الذين يواجهون صعوبات ويحاولون يائسين حماية قيم «الحضارة» التي يعلنها الغرب والقانون الإنساني الدولي، كما حماية الضعفاء والمستضعفين، وحقوق الأطفال، لقد أظهر الكونجرس الأمريكي بشكل حاسم أين موطئ قدمه: أي «الهمجية».
أصبح «نتنياهو» الزعيم الأجنبي الأكثر شهرة في تاريخ الولايات المتحدة، حيث تمت دعوته للكونغرس في 4 مرات، متجاوزا حتى الزعيم البريطاني «ونستون تشرشل». بات نتنياهو أشبه بمنتوج صنع في واشنطن، حيث أن وحشيته أمريكية بالكامل، التي ظهرت حين مناشدته: «أعطونا المعدات بسرعة، لكي ننهي الحرب بنفس السرعة»، أو بعبارة أخرى :»دعونا ننهي مهمة الإبادة الجماعية».

مسرحية المعارضة

من جهتهم، فضل بعض الديمقراطيين البقاء بعيدا، بما في ذلك «نانسي (باتريسيا) بيلوسي»- إحدى الشخصيات المؤثرة في الحزب – وبدلا من ذلك، التقت بعائلات الرهائن الإسرائيليين المحتجزين في «غزة» – وليس (بالطبع) مع العائلات الفلسطينية التي ذبحت إسرائيل أقاربهم وذويهم في «غزة».
بررت نائبة الرئيس «كامالا هاريس» غيابها بحجة»تضارب في المواعيد»، غير أنها (وفرت الوقت)لتلتقي برئيس الوزراء الإسرائيلي الذي رافقه الرئيس «جو بايدن»، يوم الخميس. ادعت كذلك، أنها «ضغطت على نتنياهو بسبب الوضع الإنساني «المتردي» في غزة، لكنها شددت أيضا على أن إسرائيل «لها الحق في الدفاع عن نفسها» – وهو حق لا تملكه إسرائيل على وجه التحديد – كما أشارت «محكمة العدل الدولية» الأسبوع الماضي، كون إسرائيل «هي التي تنتهك باستمرار حقوق الفلسطينيين من خلال احتلال دولتهم المطول، وتطبيق نظام الفصل العنصري والتطهير العرقي».
يرى الكاتب، أن معارضة «بيلوسي» ومعارضة «هاريس»، – إذا اكتفينا بكلتيهما – كانتا أداء مسرحيا خالصا. ويقينا، لا تحبان شخص نتنياهو، لكونه تحالف وحكومته بشكل وثيق مع اليمين الجمهوري الأمريكي والرئيس السابق «دونالد ترامب».لكن نتنياهو ليس إلا ذريعة، بيد أن كلا من «نانسي بيلوسي» و»هاريس» تعتبران من أشد المؤيدين ل»إسرائيل»، الدولة التي -وفقا لقرار محكمة العدل الدولية الأسبوع الماضي – أنشأت «نظام فصل عنصري» في الأراضي الفلسطينية منذ عقود، ب»استخدام الاحتلال غير القانوني كغطاء للتطهير العرقي للسكان».
نعلم أن برنامجهما السياسي، لا يهدف إلى إنهاء إبادة سكان غزة، بل هو «صمام أمان للاستياء الشعبي للناخبين الديمقراطيين الرئيسيين الذين صدمتهم المشاهد في غزة». تكمن المسألة في طريقة خداعهم للاعتقاد بأن «هناك نوعا من الصراع السياسي خلف الأبواب المغلقة حول إدارة إسرائيل للقضية الفلسطينية». سيؤدي هذا التصويت الديمقراطي يوما ما –يوم ليس بقريب – إلى «سلام» إلى أجل غير مسمى، أو إلى ما يسمى ب «حل الدولتين» حيث لن يستمر الأطفال الفلسطينيون في الموت باسم «سلامة ميليشيات المستوطنين الإسرائيليين غير الشرعية».
من الملاحظ أن سياسة الولايات المتحدة لم تتغير تجاه إسرائيل بشكل كبير منذ عقود، سواء كان انتماء الرئيس إلى الحزب «الأحمر» أو «الأزرق»، وسواء كان «ترامب» في البيت الأبيض أو «باراك أوباما» أو غيرهما. وإذا ما أصبحت هاريس رئيسة للدولة – وهو أمر جلل باعتراف الجميع – فإن الأسلحة والأموال الأمريكية ستستمر في التدفق إلى «إسرائيل»، في حين ستقرر «إسرائيل» ما إذا كان سيتم السماح بالمساعدات الأمريكية ل»غزة».
وعليه نتساءل : «لأي سبب؟»، هل لأن إسرائيل هي «حجر الزاوية» في المشروع الإمبريالي الأمريكي للهيمنة العالمية على نطاق واسع، أو ربما لأنه كي تغير واشنطن مسارها تجاه إسرائيل، سيتعين عليها أيضا القيام بمهام أخرى لا يمكن تصورها، على غرار البدء في تفكيك قواعدها العسكرية البالغ عددها 800 قاعدة في جميع أنحاء العالم، تماما كما دعت «محكمة العدل الدولية» إسرائيل الأسبوع الماضي إلى «تفكيك عشرات المستوطنات غير القانونية على الأراضي الفلسطينية».
بدلا من ذلك، يجب على الولايات المتحدة، الموافقة على التأسيس ل»بنية أمنية عالمية مشتركة مع الصين وروسيا»، بخلاف السعي إلى تخويف وإخضاع هذه القوى العظمى من خلال حروب دموية بالوكالة، مثل ما يقع في «أوكرانيا».

الخريف (السقوط)الوشيك

بالعودة إلى الماضي، دعونا نتذكر أن «نانسي بيلوسي» قد اتهمت الطلاب الذين كانوا يحتجون على الإبادة الجماعية الإسرائيلية في غزة، بأنهم «مرتبطون بروسيا»، كما حثت مكتب التحقيقات الفيدرالي على «التحقيق معهم للضغط على إدارة «بايدن» لدعم وقف إطلاق النار».
في خطابه أمام الكونغرس، أقدم نتنياهو أيضا على «شيطنة المتظاهرين»ومتهما إياهم بأنهم «أغبياء ذوو فائدة» لعدو إسرائيل الرئيسي، «إيران». لا يستطيع أي منهما أن يعترف ب»أن الملايين من المواطنين في مختلف أنحاء الولايات المتحدة يعتقدون أنه من الخطأ قصف الأطفال وتجويعهم واستخدام حرب ذات هدف غير قابل للتحقيق كغطاء أو ذريعة لهم».
لقد أدرك السياسيون، أنه لا يمكن «القضاء على حماس من خلال موجة العنف المروعة التي ترتكبها إسرائيل حاليا»، وهذا لسبب واضح جدا: «الجماعة (يقصد حماس) هي نتاج لموجات سابقة من العنف المروع من قبل إسرائيل». وكما اعترف خبراء غربيون في مكافحة الإرهاب، فإن «سياسة الإبادة الجماعية التي تنتهجها إسرائيل في غزة تقوي «حماس» ولا تضعفها.. إن الشبان والفتيان الذين فقدوا عائلاتهم بسبب القنابل الإسرائيلية هم أكثر المجندين الجدد حماسة لدى حماس».
ولهذا السبب، أصر نتنياهو على أن «الهجوم العسكري الإسرائيلي والإبادة الجماعية في غزة من غير الممكن أن ينتهيان في أي وقت قريب.. وطالب بأسلحة وأموال لإبقاء جنوده (تحت سيطرته) إلى أجل غير مسمى، في عملية وصفها بأنها «نزع السلاح واقتلاع للتطرف»، مما يعني «عرضا مرعبا» مستمرا في حياة الفلسطينيين هناك، حيث يضطرون إلى الاستمرار في العيش والموت مع حصار المساعدات الإسرائيلي والتجويع والقنابل و»نقاط الموت» المجهولة.
يعني كل ما سبق، أيضا، خطرا متصاعدا من أن تتحول حرب إسرائيل على غزة إلى «حرب إقليمية أوربما عالمية» مع استمرار تصاعد مسببات التصعيد».ومع ذلك، فإن الكونغرس الأمريكي «أصغر من أن يدافع عن دولته الصغيرة المحصنة في الشرق الأوسط، وللتفكير في مثل هذه التعقيدات»، غير أن أعضاءه يكنفون بالهتاف كل مرة باسم «الولايات المتحدة الأمريكية!»، تماما كما صرخ أعضاء «مجلس الشيوخ الروماني» ذات مرة «المجد!» على «الجنرالات الذين اعتقدوا أن انتصاراتهم ستستمر إلى الأبد».
في الأخير، لم يتوقع قادة «الإمبراطورية الرومانية»الخريف (السقوط) الوشيك أكثر من نظرائهم المعاصرين في واشنطن، بيد أن «من بوادر انهيار إمبراطورية ما، أن يفقد قادتها كل إحساس بالعبثية والرعب الذي يلحقونه بشعب ما» !


الكاتب : ترجمة: المقدمي المهدي

  

بتاريخ : 07/08/2024