بعد ربع قرن على العهد الجديد، لو سألنا السي محمد ما هو أهم شيء تغير في المغرب أو ما الذي غيَّره محمد السادس في المغرب والمغاربة؟ لاسيما في مجال تدبير الدولة، وطموحات الديموقراطية والموقع الدولي ؟
لعل أهم تغيير مسَّ المغرب مع مجيء محمد السادس هو … محمد السادس! الشخص والمؤسسة. ولعل أهم وأكثر ما يثير في التغيير الذي حصل مع الملك المحمد السادس، منذ دستور 2011، هو احترامه الصارم للدستور! وهذا الامر يمكن ان يفضي بنا الى الحديث عن تغييره لوظيفة الملكية ووضعها الاعتباري داخل المجتمع والنظام السياسي أي أننا شهدنا بداية قطيعة مع الاحالة على مرجعية المقدس والسيادة مجسدة في شخص واحد. فقد اصبحت الملكية معه ملكية وظيفية ، أي ان قوتها تكتسبها من وظيفتها! وهي وظائف مؤسساتية وسياسية واضحة كما يؤطرها ويحددها الملك وتخضع مع مرور السنوات ، لمزيد من التدقيق والتوضيح والشفافية.
قد كتبت الكثير عن المسؤولية ودسْترتها واعتبراها جوهريا من الأساسيات التي جاء ت مع الدستور وفي تثوير التدبير مع الملك محمد السادس؟
لقد صار الإطار المؤسساتي والوضع الاعتباري عاملين محدِّدين للمسؤولية. ففي زلزال 2017 طُرح السؤال: ما هي مسؤولية الملك ؟ واتضح ان المسؤلية بالنسبة له تكمن في تحديد رؤية للبلاد . فهو يتصرف بما معناه «أنني ملك مساهم في تطبيق وتنفيذ الرؤية التي يتفق عليها المغاربة »، أنا أساهم في وضع هاته الرؤية وتنفيذها ولست صاحبها الوحيد. كما اني لست الوحيد في تدبير البلاد،بل هناك مسؤوليات متداخلة فيها الاحزاب و الادارة والحكومة وغيرها.. ولعل لسان حاله يقول: لماذا يكون الملك مسؤولا عمَّ وُجد الآخرون له ؟ فهو يرسم الاستراتيجيات والخيارات الكبرى للبلاد، علما بأنها عملية ليست فردية ولا هو أنتجها فرديا وشخصيا بل ثمرة مجهود عمل جماعي فيه اللجن المختصة وخلايا التفكير الجماعي ( تينك تانك) .. وهذا التفكير الجماعي أصبح مكرسا كأسلوب عمل في تقدير كل المسؤوليات..
لا شك أن هناك مقارنة تفرض نفسها مع أسلوب الحسن الثاني..؟
الملك الحالي لايقول ما كان الراحل الحسن الثاني يقوله: «أنا عارف اش باغْييين المغاربة»! لم يقل عبارة مماثلة لها، وهو في مهنة الملك مسؤول عن مآل الاستراتجيات الكبرى، ولكنه لا ينتجها لوحده هناك بلورة مشتركة تتم عبر التوافقات الوطنية الكبرى..حتى في المجال المحفوظ دستوريا للملك، يمكننا القول إن القرارات يتم إعدادها وبلورتها بشكل جماعي على مدى طويل ويعلن الملك عنها برفقة ترسانة مهمة من المبررات التي تستوجبها. كما يتضح أيضا من خلال تدبير التعدد والتعددية والانتقاء الخاص بأعضاء اللجنة والهيآت المنذورة للحكامة وللتفكير والتخطيط والذي يعطي تمثيلية أكثر دقة تمنح مكانة مهمة للأقليات الخ.. كما حدث في اختيار اللجنة ذات المهام الإستراتيجية كالدستور و مدونة الأسرة والجهوية و لجنة النموذج التنموي الخ الخ.
من المثير حقا في التجربة الحالية ان الملك، لا يحيل على أي تجربة خارج تاريخ المغرب، ولا نلمس إحالات مرجعية في هذا الجانب، و يتم الاكتفاء بالذكاء الجماعي للمغاربة في اجتراح نماذج مغربية، لكن نلاحظ مثلا بعض التقاطع مع تجارب دول اخرى، مثلا الصين عندما تتحدث في كتابك عن «الميناء المتوسطي..» هناك من يرى تجرية المناطق الاقتصادية الخصوصية في «شين زين» مع دينغ كسياو بينغ .. هل المعاينة قريبة من الواقع؟
يجب الانتباه الى ان الصين تشترك مع المغرب، كما مع العديد من الامبراطوريات في تدبير القطائع(discontinuités) الترابية وغير الترابية وفي تدبير التعدديات الإثنية والثقافية كما هو حال االأنظمة ذات التاريخ الإمبراطوري. ويتجلى ذلك كذلك في مرونة الحكامة وتعدد انظمة التدبير بمنطق واضح . ويجب أن نبحث عن تفرد التجربة المغربية في ما سبق قوله عن التفكير الجماعي وكذلك في التاريخ الخاص بالدولة والسلطة في المغرب…
في العهد الجديد كانت البيعة مكتوبة كما كانت من مقومات بناء الوحدة الترابية والدولة …. الخ ما الذي تغير في واقع إمارة المؤمنين في العهد الجديد؟
في واقع الحالة الخاصة بالبيعة نجد ان التغير حاصل مند القدم ، بما هي فعل رمزي ينشطه صاحب الأمر في لحظات معينة. واليوم لا بد من أن نشير الى أن البيعة أصبح يقوم بها المؤسساتيون، أي انها ليست بيعة مفتوحة للعوام ، بل لا بد من اطار مؤسساتي لحضورها وتقديمها. والبيعة لا تصنع سلطة الملك لوحدها، وإن كانت مهمة للغاية ورمزيتها قوية وحمولتها من المعتقدات حاسمة في تقدم الاوضاع زد على ذلك انها تحتفظ للسلطة بجانبها الغامض والسحري في بناء قوتها. وفي حالة المغرب، يجب الانتباه الى اننا ربحنا إمارة المؤمنين بقوة الدستور وحيث اصبحت مؤسساتية ومدَسْترة. وهي توضح بقوة طريقة المغرب في تدبير فصل السياسة عن الدين عبر مأسسة إمارة المؤمنين . ولهذا نفهم إحالة ملك البلاد عليها مع التشديد على قوله« انا لا أحلل حراما ولا أحرم حلالا« . وهو بذلك مسؤول عمَّ يتم نقله كمبادئ وقواعد دينية الى الحقل السياسي .فالملك لا يقرر في الدين ، بل في القواعد التي قد تصبح قوانين ويعطي رأي المؤسسة التي يمثلها ويقدم صورة عن تدبير الدولة للحقل الديني كما عشناه منذ 2003 وتكرس منذ 2014.. … ولعل أهم عمل يحسب لوزير الاوقاف والشؤون الاسلامية في هذا الاطار هو قيامه بصياغة حقيقية ودقيقة لما نسميه اسلام المغاربة! وهي صورة مختلفة عن تدين آخرين من المسلمين.
لقد اتضحت المسافة بشكل جلي بين السياسة والدين والانتقال بينهما. ومنها أن إمارة المؤمنين لا تقوم بإنتاج أو صناعة المعايير الدينية بل تدقق وتحدد انتقالها الى الحقل السياسي. ومن هنا نفهم ان المغرب لا يوجد فيه إفتاء شخصي، أي لا عالم يمكنه ان يدعي أن رأيه قانون! فالفتوى صارت جماعية وصار الافتاء مؤسساتيا. ويمكن بعض الأحيان أن يصدر ما قد يزعج من طرف بعض العلماء، كما في قضية الرِّدة وفي بعض النوازل، لكن لا يمكن لأي أحد أن يقول بأن رأيه الديني هو القانون!.
ولاحظنا كيف المجلس العلمي الاعلى مثلا كان عضوا من بين أعضاء آخرين في لجنة معالجة المدونة … وخلاصة القول إن أمير المؤمنين أي الملك لا يصنع الاستراتيجية الدينية ولكنه يقودها..
يعيش الحقل الحزبي ومن ورائه الحقل السياسي مفارقة لافتة ، مفادها أن الدستور الجديد ،( من خلال قراءتكم في كتاب حياكة الزمن السياسي وخيال الدولة النيوليبرالية ) يكرس الاحزاب كممثل عن السيادة الشعبية عن طريق الانتخابات ويقوي موقعها في صناعة قرار الدولة، في المقابل تعيش كلها تقريبا وضعا صعبا، كما أن وظيفتها كوسائط مجتمعية تعرف تآكلا مؤلما..يبرز من خلال ضعف الثقة والعجز عن تدبير الكثير من النزاعات الترابية والاجتماعية؟ ما مرد ذلك في نظركم
هناك مستويات عديدة في الجواب. منها أولا المستوى العام او الماكرو، وله صلة بالتأطير القانوني المؤسساتي للعملية السياسية في البلاد.
وهناك ثانيا المستوى الذي له ارتباط بالحزب المؤسسة كما جاء به الدستور، حيث أن هذا الاخير يؤطر واقعا قائما كما يعمل من أجل توازنات معينة في الممارسة السياسية . وهو كنص منفتح على العديد من الاحتمالات. ويمكن القول بأن الدستور في 2011 الذي نحن بصدد الحديث عنه، يشكل «خروجا من فوق sortie par le haut ممَّ يمكن ان نعتبره أزمة في تلك اللحظة . ولنا أن نقول بأنه جاء باطار قانوني محترم للغاية في هذا الباب. وقد جاء الدستور بطموح جديد وذلك لما جاء به من أفق ، وبالنظر للحالة التي كانت تعيشها البلاد .
والمستوى الثالث في المعالجة هو كون الدستور أدخل مفاهيم محددة في ما يخص السيادة الشعبية، او الوطنية عبر الانتخابات ، ودسْتَر الاحزاب كآلية من آليات ترسيمها في الواقع . ولعل في ذلك مرجعية تاريخية يجب استحضارها ، وجوبا:
أولها أن التعددية اختارها المغرب مند بدايته السيادية عند الاستقلال ، وثانيها ما جاء به الدستور الحالي حول حقوق المعارضة وتمويل الأحزاب .
المستوى الرابع هو أن المقاربة لا يمكن ان تغفل ، في اطار عام، الازمة السياسة التي تعيشها الاحزاب السياسية في علاقتها بالديموقراطية التمثيلية ، ليس في بلادنا فقط بل في العالم كله. وهي في حالتنا الوطنية، تظهر من خلال كون الديموقراطية التمثيلية لم تعد انتاجا في مستوى الطموح المشترك. ونحن نعرف ،من باب التجربة أن الديمقراطية التمثيلية تعرف دورات منذ عهد الاغريق حتى . ولعل الديموقراطية هي بذاتها مفارِقة. وتبقى مع ذلك النظام السياسي الاقل ضررا ، وذلك لأنها النظام الذي يمنع الشعوب من منح مفاتيح مجتمعاتها ودولها الى .. الحمقى! والقاعدة على خلق توازنات ضرورية للغاية المشتركة.
وهناك مستوى له صلة بالوظائف الاساسية للاحزاب. ولعل مرد الازمة هنا هي ان الوظيفة الاساسية للحزب المبنية على الاختيارات الايديولوجية ( او ما نسميه حزب القناعات ببرامج واضحة ومرجعيات اقتصادية واخلاقية وسياسية ثابتة ) تقلَّص وجودُها، في الواقع منذ انهيار جدار برلين. والملاحظ أن القناعات تقلَّصت مقابل المصالح ، وهذه الأخيرة ليست بالضرورة قدحِية أو مذمومة، بل قد تكون مشروعة. ونحن نسير نحن الحزب ـ المقاولة التي لها اختيارات مصلحية معينة تخدم فآت كبرى او صغيرة في زمن معين.. ويمكن أن نجد أن هذه المصالح الفئوية قد تتخللها اختيارات عامة لكنها قليلة الحضور في وظيفة الحزب الجديدة.
(*)عضو لجنة صياغة الدستور ولجنة النموذج التنموي الجديد