توفي أول أمس الأربعاء، المفكر السياسي والاقتصادي اللبناني جورج قرم عن 84 عاما. وقد غادرنا المفكر الراحل جورج قرم، نبيلاً، متعففاً صارماً، متواضعاً، لا يساوم على مبادئه، وقد ترسّخ مع الأيام إيمانه بأن النيوليبرالية وهي تزداد شراسة، لا يمكن أن تكون طريقنا للخروج من المأزق.
تمتاز كتابات المفكر اللبناني الراحل جورج قرم بعمق وشمولية رؤيتها، ودقتها في التحليل، وواقعيتها في تناول القضايا والمشكلات الاقتصادية، حيث قدم من خلال مؤلفاته وتحليلاته رؤية مستقبلية استشرافية وتصورات تعيد النظر في العديد من المسلمات، بالإضافة إلى كونها تتابع التطورات والتحولات الخارجية على المستوى الإقليمي والدولي.
عايش الراحل التجربة الناصرية التي كانت ملهمة كتابه الشهير «انفجار المشرق العربي»، كما أن امتزاج التنوير النهضوي العربي مع التحصيل الفرنسي، فتح أمامه آفاقًا فكرية واسعة ومتنوعة. ولاحقًا لعب شخصان دورًا مباشرًا في انفتاحه على العروبة: الأب يواكيم مبارك الذي صار صديقًا لاحقًا. والثاني هو عبد المالك تمام، رئيس البنك الوطني الجزائري في الستينيات، حين كان قرم مديرًا لمكتبهم في بيروت. وهناك أمر ثالث، فقد كان محظوظًا لأنه درس في باريس أواخر الخمسينيات حين كانت الجامعة موحّدة يتعايش فيها اليمين واليسار، حيث اكتشف أهمية الماركسية من خلال محاضرات أستاذ معروف بيمينيّته. ورغم يساريته، إلا أنه لم ينتسب إلى أي حزب في تلك الفترة. ورأى نفسه عروبيًا بالمعنى الحضاري للكلمة. وكان يرى أن الأحزاب العقائدية تعمل وفق شعارات تبسيطية للواقع.
.
ويمكن القول إن اهتمامات الراحل تأرجحت بين السياسي الفكري التأريخي، والثقافي الفني وحياته التي عاشها في تماس مع الفن التشكيلي. لهذا جاءت كتاباته حتى الاقتصادية منها، ممزوجة بهمومه الوطنية، وهواجسه الإصلاحية، ومحاولاته الابتكارية لوصف الحلول. فهو لم يكتب أبحاثاً جافة، بقدر ما بلور رؤى بهدف توضيح الصورة، واقتراح الخطط، وإنارة الدرب، فقد مثل الكتّاب النهضويين في النصف الأول من القرن العشرين، الذين شغلتهم يقظة شعوبهم، وشكّلت محور كتاباتهم، وبوصلة سلوكهم.
وهو ما يمكن أن نلحظه من عناوين مؤلفاته مثل كتابه الشهير «انفجار المشرق العربي»، وكتب أخرى مثل «شرق وغرب»، و»الشرخ الأسطوري»، و»تاريخ أوروبا وبناء أسطورة الغرب»، و»المسألة الدينية في القرن الواحد والعشرين»، و»نظرة بديلة إلى مشكلات لبنان السياسية والاقتصادية». كما كانت له آراؤه النقدية، وصوته المرتفع، معارضاً المديونية العامة التي أدمنت عليها الحكومات المتعاقبة بعد الحرب، واعترض على الهدر والفساد اللذين كانا سائدَين، وسياسة التّسول.
اهتمامات فنية وانشغالات اقتصادية
عُرف الراحل في الأوساط الأكاديمية في فرنسا، بأبحاثه وكتبه، ونال «جائزة الأكاديمية الفرنسية» عام 2018 عن كتابه «المسألة الشرقية الجديدة» الصادر حينها عن دار «لا ديكوفرت»في باريس. كما نال «وسام الأرز» من الدولة اللبنانية، وجوائز عديدة بينها «سلطان العويس»، وقرم خبير اقتصادي ومالي لبناني، اختصاصي في شؤون الشرق الأوسط ودول حوض البحر المتوسط، ومستشار لدى مؤسسات دولية وشركات ومؤسسات مالية ومصرفية خاصة وعامة، وعضو المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات.
ولد الراحل جورج قرم في 1940، من عائلة اشتهرت باحترافها الفن، جده الفنان التشكيلي الرائد داود قرم الذي اشتهر ببورتريهاته، ووالده الرسام المعروف جورج قرم، الذي يُعدّ أول فنان عربي ذهب إلى روما لدراسة الفن الحديث. ومع ذلك، لم يكن الفن كافياً ليجعل العائلة تعيش في بحبوحة. وحين رغب الابن جورج في أن يتخصّص في الموسيقى التي عشقها، خصوصاً البيانو، لقي معارضة شديدة من والده الذي هو نفسه كان عازفاً على الآلة نفسها.
درس في باريس، في «معهد الدراسات السياسية»، وتخصّص في العلوم السياسية والاقتصاد، وحصل على إجازة في القانون ودكتوراه في القانون الدستوري. أطروحته التي ناقشها عام 1969، حملت عنوان «تعدد الأديان وأنظمة الحكم»، وجدت صدى بعد أحداث 11 شتنبر في نيويورك، وهي مترجمة إلى لغات عدّة.
بدأ حياته المهنية في لبنان مطلع الستينات، خبيراً اقتصادياً في وزارة التّصميم، ومن ثَمّ في وزارة المالية، واشتغل بعد ذلك مصرفياً وخبيراً، ومستشاراً مالياً في كلٍّ من باريس والجزائر، ومستشاراً لحاكم مصرف لبنان.كما عمل مع الاتحاد الأوروبي، والبنك الدّولي، ومؤسسات الأمم المتحدة، ومؤسسات عربية ودولية كبيرة، وقدم المشورة في موضوعات إعادة التأهيل المالي المصرفي في دول عدة، منها الجزائر، وتونس، والمغرب، واليمن، وسوريا، وعمان، وتنزانيا. أصبح وزيراً للمالية في حكومة الرئيس سليم الحص، كما مارس التعليم الجامعي وعُرف بأبحاثه المرجعية، وكتب بالفرنسية والعربية والإنجليزية.
تخرج جورج قرم في جامعة باريس في القانون الدستوري والعلوم الاقتصادية، كما تخرج في معهد الدراسات السياسية في باريس في فرع المالية العامة.
ديناميكية الفشل، الإسلام السياسي
في تحليله لأزمات العالم العربي يرى قرم أن العرب مروا بما يسميه «ديناميكية الفشل» أي أننا تحويل الانتصار إلى عامل سلبي، ومثال ذلك الهجوم الإسرائيلي الغاشم على لبنان عام 2006 وقدرات المقاومة والجيش اللبناني على ردع هذا الهجوم، وتحول ذلك لمصدر فتنة بين العرب، مرورا بما يحدث اليوم وهو ما أطلق عليه سابقا مرحلة «التدمير الذاتي» اعتبارا لما يجري في سوريا وليبيا واليمن، معبرا عن ذلك بمرارة :» لم يكفنا الفشل فذهبنا إلى مرحلة أعلى التي هي التدمير الذاتي».
وفي ما يتعلق بالإسلام السياسي فاعتبر أن هناك مشاريع قديمة للدول الغربية باستعمال الدين ضد العرب، الديانة الإسلامية بشكل راديكالي، وضمنه تندرج محاولات تكسير العفوية العربية نحو الوحدة، حين كانت الفترة الناصرية تمثل أوج هذه المرحلة، ولسوء الحظ تجربة الوحدة بين مصر وسوريا لم تنجح، ومثلت أول ضربة قوة للطموحات القومية العربية.
وأكد قرم بهذا الخصوص أن الحروب الدائرة والتي تتجلى فيها أقصى حدود التدمير، لأوجه دينية، لأوجه راديكاليات دينية، تخدم مصالح الدول الغربية بالدرجة الأولى، والكيان الصهيوني.
ونبه قرم إلى أن الدور الذي يلعبه الدين في المنطقة العربية دور هدام داعيا إلى تحييد الدين لأنه ليس هناك شيء اسمه حروب دينية، كل الحروب على أساس مطامع دنيوية.، وأوروبا قوية لأن القومية أمسكت بزمام الأمر، القومية كانت قاعدة الدول الأوربية الحديثة ألمانيا وفرنسا بشكل خاص.
القضية الفلسطينية
يعتبر صاحب «انفجار المشرق العربي» أنه «منذ أبصرت النور، وهذه المنطقة الحيوية لا تعرف سوى التوترات والصراعات، وما يجري اليوم يدفعني إلى طرح أسئلة كثيرة في ضوء ضخامة الأحداث السياسية والاقتصادية التي نعيشها. إن معياري الأساس الذي يشكل جزءاً من كتاباتي، هو معيار حقوق الشعب الفلسطيني؛ لأن معاناة الفلسطينيين منذ بدء الهجمة الاستعمارية الغربية الصهيونية على العالم العربي، مسألة لا يمكن السكوت عنها».
كان الراحل على خلاف العديد من المثقفين العرب، لا يضيع الكثير من الوقت في تحليل تصرفات القادة الغربيين، مؤكدا أن «الدينامكية الغربية معروفة، حب السيطرة، ومن قبل أمريكا تحديدا ليست بالأمر الجديد، أمريكا دولة قامت على القضاء على السكان الأصليين وإبادتهم، ومن الناحية الأيديولوجية على أساس أنها أرض ميعاد جديدة، القومية الأميركية فيها عنصر ديني بروتستانتي سلفي، وللأسف نحن لا ندرس مثل هذه الأمور.
وفي هذا الصدد صرح سابقا أن» معركة فلسطين إذا خضناها على أساس ديني ـ حتى بالنسبة للقدس ـ فإن موقفنا يكون ضعيفا، يجب أن نخوض المعركة خارج الإطار الديني. أعتقد لو أن بوذيين أتوا وغزوا فلسطين سيكون هناك مقاومة للغزو، المقاومة ليست لأن المستعمر يهودي الديانة ولكن لأنه مستعمر، إنما إذا جعلناها معركة ما بين مسلمين ويهود مدعومين من الغرب السياسي فإن المعركة ستكون أطول وأصعب.
وشدد قرم على ضرورة إخراج الدين من القضية الفلسطينية كونها ليست قضية دينية، بل قضية استعمار واستيطان لا بد من إزاحته. هذه على الرغم من أن القضية ارتبطت بالدين منذ نشأتها، وهذه لعبة الإنجليز، سواء اتفاقيات سيكس بيكو أو وعد بلفور الذي يعد وثيقة إجرامية الطابع.
قرم، والمشروع القومي العربي
لا شك أن قيام الكيان الصهيوني قد أحدث من منظور الجغرافيا ـ السياسية، قطيعتين على حد قول الدكتور جورج قرم في كتابه عن الشرق الأوسط: أولاً مع مفهوم «المشرق» الذي كان تسمية المنطقة في الحقبة الكولونيالية، وثانياً مع مفهوم «العالم العربي» الذي فرض نفسه في المجال التداولي في الحقبة الاستقلالية، ومع أن المدى الجغرافي لمصطلح «الشرق الأوسط» يتخطى بكثير المنطقة الإقليمية للصراع العربي ـ الصهيوني، فقد جرى تعميد الأزمة المفتوحة التي دشنها قيام الدولة العبرية باسم «أزمة الشرق الأوسط» حصراً.
ويرى المفكر جورج قرم في كتابه (انفجار المشرق العربي ـ من تأميم قناة السويس إلى غزو العراق 1956 إلى عام 2006) أن المشرق العربي ومن ثم العالم العربي، قد مر بمرحلتين متمايزتين، هما مرحلة النهوض القومي التحريري الذي قاده نظام عبد الناصر، وابتدأت مع قراره التاريخي بتأميم قناة السويس عام 1956. حيث تميزت هذه المرحلة بانتشار حالة من النهوض الثوري اجتاحت المنطقة العربية.. ثم المرحلة المتطاولة والمستمرة من انحسار المد الثوري، والتي ابتدأت مع هزيمة حزيران عام 1967، وتواصلت بتأثير الفورة النفطية التي أعقبت حرب تشرين عام 1973، والتي عززت مكانة البلدان والنظم النفطية، التي كانت في منأىً، وفي تعارض مع المشروع القومي الناصري، والتي غدت داعمة للتيار الأصولي الذي انتشر في المنطقة، في مسعىً لوضعه في مواجهة التيار والمشروع القومي، لكي يسهل فرض المشروع الاستعماري على المنطقة الذي يشكل النقيض التاريخي للمشروع القومي التحريري والنهضوي للأمة وللشعوب العربية.
وتناول المحللون العرب خصوصية هذه المنطقة (المشرق العربي)، التي أطلق عليها الغرب تسميات تنطلق من اعتبار أوروبا أنها مركز العالم، لتضع المنطقة تحت اسم الشرق الأدنى، والشرق الأوسط نسبة إلى موقعها من أوروبا، دون أن تحدد هذه التسميات حدود جغرافية المنطقة أو هوية سكانها.
فالغرب الأوروبي لم يرد ولم يستطع أن يستوعب تلك الخصوصية لهذه المنطقة من العالم، التي قامت هويتها الحضارية على أساس التعددية، حيث تمازجت على أرضها الحضارات التي تعاقبت عليها على مدى آلاف الأعوام، وتجانست فوق تربتها الأعراق التي توالت على الاستقرار فوق تلك التربة خاضعة لأجوائها المشرقية العربية، وفيما حرص من تعاطى من الغربيين مع قضايا المنطقة وخاصة في الحقبة الاستعمارية، على اختزال هوية المنطقة بالإسلام، وذلك ضمن رؤية عدائية تجاه هذه الديانة ترسخت في وعي الأوروبي الغربي عبر عصور من الصراع والحروب التي جرت مع العالم الإسلامي، فإن ما يوضحه المفكر جورج قرم في كتابه الآنف الذكر ردًا على هذه الرؤية، هو أن المنطقة التي شكلت مهد الحضارة الإنسانية، قد انصهرت مكوناتها السكانية في بوتقة وعيٍ ألف التعددية.. وإنه مثلما شكلت اللغة العربية ـ كامتداد وتطوير وإغناء للغة واللهجات السامية التي عرفتها المنطقة، والتي انتصرت منذ فترة مبكرة على اللغات الوافدة كاليونانية واللاتينية والفارسية ـ، حاضناً لهوية المنطقة الثقافية، كذلك فعلت الديانة الإسلامية، التي جاءت هي الأخرى امتداداً وإغناءً وتطويراً للإرث الروحي الإبراهيمي الذي انتسبت له اليهودية والمسيحية، لتكون هذه الديانة بحكم تمثلها لثقافة المنطقة، ومن خلال قبولها للرسالات السماوية الأخرى التي عرفتها هذه المنطقة، أداة توحيد لسكانها، وعامل استقرار فيها، ليستمر هذا الدور للإسلام قائماً وفاعلاً عبر الدول الإسلامية التي تعاقبت على المنطقة وصولاً إلى الدولة العثمانية، إلى أن بدأ النموذج الأوروبي الغربي للأمة وللدولة القومية بالتغلغل في المنطقة إبان ضعف الدولة العثمانية وفي ظل تعاظم قوة الحركة الاستعمارية.