على غير عادته، لم يؤجل موته هذه المرة

 

عبد الكريم الماحي..
الرجل الذي عاش معدما من حظوة الخلق إلا ما كان من نخوة وكبرياء.. وعاث في الأرض حرا من اشتراطات الدنيا إلا ما كان منها رحمة من السماء، وكل تركته حفنة أزجال مشوبة بلعنة الصعاليك وبصيرة الحكماء..
منها هذا المقطع الجنائزي، كما لو أن ألفة الموت كانت تحببني سماعه منه شخصيا بصيغتي المكيفة، وفق أجواء إنشاده العفوي، في حضرته المريبة برهبة مقامه العلوي المشبع بأبخرة الليل وجذبة الجن وكرامة الأولياء ..

“من هْنا لذِيك الروضة..
واذا تزاحْمَتْ القبور
زيدوني خَدّام،
ها قلبي شبر
ها صبري اعوام
لَبْسيني يا بلادي سلهام
يمكن ندَفّيك
كون ما عَرّوني اولاد الحرام..”

عبد الكريم الماحي..
برصيد من أربع أضمومات، وعشرات الأزجال الشبيهة بسحنة وجهه المتجعد بدكنة الأديم، ولون بشرته اللافحة بشمس السديم..
في كل منزلة من منازله الواطئة.. لا يمكنه إلا أن يشاغب بهمة عدمي في قمة عبثه، ويشاكس بشقاوة طفل على سجيته، ويلهج شعرا متفردا بحكمة ولي لا يدخر لإمتاع جلاسه أدنى قصيدة من بركاته، أو مقطع من كراماته..

عبد الكريم الماحي..
ولي الزجل الهازئ بكل أولياء النعمة المتبجحين بمكاسب الريع الممنوحة ولا قصيدة واحدة في جعبتهم كعنوان أو كأثر يذكر..
طالما كان يستفزنا بقفشاته وطفشاته النامة عن قول هذه الحقيقة الصادمة التي لم يكن ليكشف عنها إلا من هو على أهبة الرحيل مثله.. هو الذي غير ما مرة كان يستغفلنا بقلب الليل ليكتب الوصية على صفحته الفايسبوكية، ويقف بلا تردد على شفير الهاوية، ثم لا يلبث كل مرة أن يؤجل موته، لنجده في اليوم الموالي قيد قصيدة جديدة أو تهويمة صباحية بأكثر من سبة وشتيمة، ذما لزمن الخسة والرداءة..

عبد الكريم الماحي..
كما عرفناه قيد حياته، وأكيد سيظل حتى بعد مماته، هو دائما نفس الزجال الكادح بملامح هذا الكائن الساخر من كل العالقين في مطبات الخواء واللامعنى بربطات أعناقهم المشدوهة كتلا من ركاكة الوقت على كراسيهم الوثيرة، بينما ظل هو لأعوام يفترش عتبة البلاد ويلتحف العراء..
واليوم لا شيء تغير في سيرته البئيسة بهذا الرحيل الذي يعمق بؤسنا الثقافي على نحو أكثر فجائعية من حياته ومماته على حد سواء..

عبد الكريم الماحي..
نفسه الآن يقول ألا جديد تحت التراب.. لأنه ابن التراب.. بنفس الصورة التي كان عليها بالأبيض والأسود بيننا،  بنفس القدر من توجس لحظاته المخاتلة على الأرض، والتلبس بروحه المجنحة في السماء..
تماما كما في الصورة أدناه في زيارة له بقرية با عمران على أطراف بادية دكالة ومشارف ربوع عبدة.. حيث كان لفترة في عهدة الشاعر الصديق عبد الحق الزواغي، بحسه الأريحي السليل من عرق أصيل وبيت كريم.. جزاه الله عنا وعنه بكل خير وفضل عميم.. هذا دون ان أنسى قلة من الأصفياء الذين كانوا، على قدر الاستطاعة، لا يتوانون في واجب الوفاء له في غياب أية التفاتة رسمية أو شبه رسمية، ولو على سبيل ذر الرماد في محاجر العماء..

عبد الكريم الماحي..
عمت مساء في أول ليلة هناك..
لعلك تستدفئ الآن كما لم تستدفئ من قبل بألفة التراب..
ولا يفوتني قي الختام أن أبلغك سلام بعض الرفاق..
لا أخفيك انهم وغيرهم عازمون تباعا على أن يكونوا قريبا في ركبك.. اطمئن صديقي.. هذه المرة لن يخلفوا معك موعدا..
فقط، رجاء كن لبقا في منتهى اللياقة، واستقبلهم أنت أيضا هذه المرة بابتسامة متشفية شامتة.. وطبعا، بكل صبر ورحابة صدر بمقاس أكثر من شبر.. ولا تبادرهم بلوم أو عتب..
ولا بد أن تكون  رائق المزاج ونحن نسمعك تردد على أسماع الملائكة في أمسية مرتجلة:
“لبسوني سلهام
يمكن ندفا
بلا خوف من اولاد الحرام”
عبد الكريم الماحي..
يكفيك أن رق لك أخيرا قلب الوطن، وأرداك سلهاما بلون الكفن، ثم شيعك في غيبتنا بلا ضجيج أو صخب..
رجاء صديقي، على الأقل هذه الليلة  لا لوم ولا عتب..
ولترقد روحك المتعبة بسكينة وسلام.


الكاتب : نور الدين ضرار

  

بتاريخ : 19/08/2024