سرديات الرغبة.. خطاب مُحِبّ رواية «جامعة وكهنة وأشياء أخرى…» لعبدالعزيز قشاني

الرغبة قد يُحبطها اليأس، لكن يُغذيها الحلم والفعل معاً.
يبدومن خلال المعمارية السردية التي شيَّدت هذا المحكي السردي الروائي وفق تصويرية إبداعية يتداخل فيها الواقعي بالذاكرة الطفولية وبالتخييلي، أنها استدعت هندسة تؤشر على ثمان طبقات أو هي ثمانية فصول تناول من خلالها السارد مسار الحلم والرغبة في علاقة مع مُقوِّم الحُب ليُنجِز موضوع-قيمة وفق ما جاءت به السيميائيات السردية وهي الفعل في إنجاز موضوع الرغبة والتسلح بعوامل مساعدة، أيضا القدرة على الخروج من حالات النقص وحالات الاعتزاز بالذات وتمجيد الحياة الجيّدة بالرغم من الاصطدامات وحالات الصراع القوية التي تؤشر عليها العوامل المعيقة/ المضادة في تحقيق هذا الموضوع.
أيضا الرواية «جامعة وكهنة وأشياء أخرى…»تفضي إلى تصويرية تصِفُ وتُصنِّفُ وتقوم على عناصر: الفضاء، الزمن، الشخصيات، الحوارات، الذاكرة الخارجية وتجذير التاريخي في علاقة بالواقعي، يقول السارد:
(… سأكون وفيا لروحه، وناقلا أمينا لنصوصه، مُشكِّلاً إياها على صورة رواية، أتمنى صادقا أن يحالفني النجاح في هذه المهمة الصعبة التي أخوض غمارها لأول مرّة على لسان صديقي العزيز الجيلالي (…) ثمّ إشفاءً لغليله في البوح بما لم يستطع قوله) .
إذن، نحن أمام مفاهيم تتداخل واليوميات، السيرة الذاتية، المذكرات، شفافية البوح، بصيغة سارد وفيّ أمين لراوٍ عزيز وهو «العامل الجيلالي» بالرغم من عوامل معيقة حيث السرد يستضيح عن استرجاعات لتضمين عوامل ساعدت الشخصية في تحقيق رغبتها وفق لغة واصفة متعددة البنيات اللسانية: لسان الحب/ لسان الكراهية/ لسان الحلم/ لسان الطفولة.ومن هذا المنظور يتطور السرد وينمو وفق حالات الحرمان/ النقص وكذلك حالات الصراع التي تُشيّد البرنامج السردي وبالتالي تشييد»النص اللذة» بتعبير رولان بارث؛ إنها الكتابة تلك اللحظة التواصلية التي تفضي إلى تثمين حياة الإنسان باعتباره محور السرد، ومن هذا المنظور للعملية التواصلية ومهما كان الوسيط وهنا الوسيط «رواية» باعتبار أنها نافذة تُتيح لنا إدراك حالات المجتمع المغربي، أيضا تمثل أشكال حيوات متعددة، أحداث وقائع..رغبات أفعال.
سنقف على الاجتماعي أي بعض من حالات المجتمع استنادا للنص ولا شيء خارج النص،
(الأمراض المجتمعية المبنية على التملّق والنفاق) ص.18، يبدو أنه خطاب ذاكرة الطفولة في تصوير مسارات الصراع والرغبة في التغلب على عوامل معيقة للموضوع-الحلم من خلال رؤى وتصورات وأحلام السارد، كيف ينتقل من حالة سرور إلى حالات اللا-سرور، كيف يتشعب السرد وتختفي النواة التي تفجر النص، كيف يتم تجذير التاريخي بالتخييلي؟ كيف تشتغل ذاكرة السبعينات، طفولة البادية ومن ثم اشتغال ذاكرة المدينة، وهو انتقال في فضاءين مختلفين البادية / المدينة.
(مرت السنوات الأولى من طفولة الجيلالي متسارعة) ص.10
(في سن العشرين من عمره، وجد الجيلالي نفسه صدفة معلِّما) ص.15
(اختار الجيلالي الالتحاق بالجامعة لاستكمال مشواره الدراسي، ولو على كبر…) ص.28
نركز على هذه الطبقات السردية لنتبيّن بعض من القضايا المجتمعية من خلال علامات تحيل على أشكال حياة العوامل في النص (في الحافلة، في الإدارة والمرافق العامة، في المسجد، في العمل، في المستشفى، وفي الشارع أيضا.. التنظيمات السياسية والحزبية.. التنظيمات الإسلامية..) ص.20-21
السارد يستحضر مجموع مكونات ومؤسسات المجتمع ليكشف لنا عن حيوات مختلفة متناقضة:
(…الحياة كلها تقوم على أساس تراتبي، وهذه التراتبية تفرض خوض صراع وتنافس..) ص.44
لكن السارد، نقلا عن الراوي العزيز، يؤشر على حياة «طبقات التعليم» انتقالا من الابتدائي وصولا إلى الجامعي، إذن، هو التعليم يحضر كمحفز مسرع للحكي وقوة سردية وكيف لا؟ يقول طه حسين: التعليم ضروري كضرورة الماء والهواء، استدعى السارد التعليم في طبقاته ليحدث تحوّلا عميقا في العملية التواصلية بين السارد والمسرود له،( ..نعم تخلص الجيلالي من كل الانتماءات، الضروري منها وغير الضروري، واحتفظ بانتماء واحد جعل منه الهواء الذي يحيا به والتربة التي تنغرز فيها جذوره، والماء الذي يسقيها لتنمو شجرة حياته. وتينع من جديد. أسهم التعليم الأكاديمي الجامعي في خلق عدة عمليات خلخلة فكرية لدى الشخصية «الجيلالي»، واكتشف أنه يخرج من الظلمات إلى النور، وأدرك لأول مرة في حياته حقيقة مقولة «العلم نور والجهل عار») ص.42-43
أقرأ الرواية وفي مرات عديدة كنت أسأل مع رولان بارث من يُسهم في بناء تواصل جيّد؟
«الحب»، نعم: «المُحبُّ يكدُّ باستمرار بين الرغبة والطلب، إنه غير ملائم لأي تكتيك»
من هذا المنظور البارثي حيث إن البناء السردي لم يخضع ولم يلتزم بأي تكتيك ولم يتقيّد السارد1 في نقل حياته للسارد2 وفق عقد بينه وبين القارئ، فالعامل الرئيس «الجيلالي» دائما يرفع من حبّه في علاقته بعوامل أخرى تتمظهر وكأنه يكرهها، لا، فأقصى درجة الحب عنده هي التعبير بالكره الخفيف اللطيف العنيف، وهذا للعودة إلى الدرجة الصفر من الرغبة في حبّ عوالمه النورية، إنه يكره الظلام والظلم. إن الدرجة الصفر من النور يرغب الجيلالي في الخروج منها، وهي حالة نقص تدفعه إلى إنجاز أفعال تحدث تحولات دالة على أن يحمل رغبته ويدفع بها الأمام ويساعده على هذا عوامل التمويه وإخفاء خوفه الفردي، وهي عوامل مساعدة لتحقيق موضوع-القيمة، أو كما يصفه السارد (عوالم المعرفة/العلم/ النور) لكن هناك عوامل مساعدة مضمرة في النص أسهمت في تحقيق هذه الرغبة وعززت هذا الحب، إنه حبّ عوالم الحياة الإنسانية في المقام الأوّل.
إنه ألم / حزن المُحب، حب الحالم، يصور السارد حالات الحلم والفرح في تضاد مع حالات حزن سيترك في الذاكرة والذات جرحا.
(كم هي الحياة جميلة يا جلّول) ص. 42.
إنه يُحب ويكره ويعود ليحب، هذا ما تستضيحه العلامة اللغوية النووية التي انفجر من خلالها النص الروائي: إنها «الشعلة» La flamme، هناك مقولة تقول: ما فائدة الحلم إذا انطفأ الحالم، أي ما الفائدة من الحياة إذا انطفأت شعلتها، كُلًّ وله شعلة يقاوم من أجلها ولأجلها ويحفظها من كل خطر يتهددها. هذا الحلم يُعززه الفعل وفق دينامية حيث إن الفعل دائما يتخذ في النص طبيعة دينامية تستدعي انتقالات من حالة إلى حالة. لكنها حالات تُحيل على إنجازات العامِل الحالم بالتغيير إنها دينامية الرغبة والإرادة في تحقيق الموضوع-القيمة.
نذهب إلى الطبقة الثامنة لنكتشف النواة الرئيسة في تشييد النص الروائي: (.. وألا يحول دونها إلا الموت… فجعله بمثابة الشعلة التي يعيد بها بناء الذات) ص.150.
في سرديات المقاومة في تنوعها واختلاف أشكالها، تُشكل العلامة «الشعلة» المقولة النواة في بناء المعنى. نكتشف أن العامل المساعد يتدرج في تحقيق الحلم، وهو مجموع عوامل مضمرة في النص، قد تتخذ شكل كراهية لكن هي ضرورة زيادة منسوب الحب، السارد كشف عن حبه مثل الفساتين التي خاطها وطرَّزها بالحب، وعليه النص هو نسيج لغوي يقوم على الحب، على الحياة التي تطمح إلى النور.
ونختم، إن الرواية استضاحت لنا عن بنيات دالّة «الحب/ الشعلة/ الحلم/ الحياة» وهذه مقومات المجتمع الذي يطمح إلى تثمين القيم الإنسانية، يقول السارد:
(الرفاق كانوا يُقدِّرون الإنسان في حد ذاته، وليس لمنصبه أو جاهه … وهذا ما جعل الجيلالي يرى في مرشده نموذجا للمواطن الصالح الذي ينبغي تنشئة المجتمع على شاكلته) ص.13
إنه تلفظ مُحِب حكيم هو الجيلالي: وعلى حدّ تعبير رولان بارث، فالحب هو لسان وبنية لِسان المُحب نفسه، يغدو «حكمة».
نتبيَّن أن فصول الرواية تروم تظهير «حكمة الشعلة» وفي تحديدات العرب القدامى، فالحكمة هي فعل ما ينبغي في الوقت الذي ينبغي على الوجه الذي ينبغي. أعتقد أن تظهيرات الحكمة تتشاكل وخطابات الطفولة ، وما خطاب الطفولة إلا أنه خطاب الحب العظيم.
أو كما يُضمِر «الجيلالي» قوله: ذلك الطفل الذي كنت، آتاني اليوم ولو على كِبر.


الكاتب : فؤاد بنبشينة

  

بتاريخ : 23/08/2024