أقصوصتان

احتضار

كان يتمشى على شاطئ البحر، في تلك الأمسية الصيفية، عندما تبسم فجأة، إذ رآها تسير في الاتجاه المعاكس بالشارع المقابل، الذي قطعه وسار يسرع الخطى في اتجاهها، وهو يصيح:
– أستاذتي.. أستاذتي.. أستاذتي..
التفتت سيدة تجاوزت العقد الخامس بقليل. بهية الطلعة، ونضرة البشرة، وتبسمت ابتسامة عريضة، في وجه القادم نحوها، حتى أبان وجهها الطفولي، عن فرحة عارمة. ارتبكت وسط الشارع المكتظ بالناس، وتلميذها السابق الذي غدا رجلا، يعانقها تارة، ثم يقبل رأسها أو يدها اليمنى حينا آخر، مثنيا أو مذكرا إياها، بما تعلمه منها على هامش المقرر الدراسي، من أنشطة وورشات ثقافية وفنية، كانت تدمج كل تلامذتها فيها.
وقبل أن يفترقا، سألها عن الأبناء، فأجابته بأنهم وراء البحر، لإتمام دراساتهم. وبدورها سألته عن نفسه، فأخبرها بأنه عاد منذ ثلاثة أيام من بلاد العم سام، لرؤية والده الطريح الفراش، ولتفقد أحوال شركاته، التي لم يعد حالها يعجب العدو ولا الصديق.
حافظ والد التلميذ القديم، على شهرته الواسعة، بالكم الهائل من الشركات التي يملك، في هذه المدينة الإسمنتية الغول، التي تشعبت مبانيها، وتوسعت عبر الجهات الأربع. انشغلت الأستاذة، بحال والد الدارس السابق بفصلها، وهي تواصل سيرها من حيث توقفت، وهي تردد بداخلها متسائلة: – كيف لا تحتضر الشركات، إن كان مالكها يحتضر؟؟

سنة بيضاء

دخل عيادتي الطبية فجأة، وتذكرته وعرفته في الحين. قمت من مقعدي وخطوت نحوه، ثم على ذهول كبير منه، عانقته وأخذت أقبل تارة رأسه، ويده اليمنى تارة أخرى. ذكرته بالعام الذي كنت خلاله، تلميذه في مادة اللغة الفرنسية، وأنا في سنتي الأخيرة من سلك الإعدادي. بفضله عشقت المادة التي درّسنا، وولجت عوالم المطالعة كذلك، فقد كان يزودنا نحن تلاميذه، بروايات ومسرحيات ومجلات من خزانته الخاصة. منذ دخل عيادتي أول مرة، غدونا صديقين. يزورني أو أدعوه لاحتساء فنجان قهوة معي، بإحدى المقاهي القريبة من عيادتي الخاصة.
زارني يوما، وهو يتوقع أن يفاجئني بمصاحبة زميل له، لم ينل مني سوى مصافحة باردة. عندما استفسرني أستاذي الذي أتى به، إن لم أتذكر هذا الضيف الجديد. متحسرا أجبته، بأنه لا يمكنني أن أنساه هو أيضا. لقد كانت مهمته تدريسنا مادة الفيزياء باللغة الفرنسية، لكنني قضيت أنا وبقية زميلاتي وزملائي سنة بيضاء، ونحن في قسمه.
منعني حيائي أن أوضح أكثر، وأتحدث عن كثرة غياباته، وعند حضوره كان يقضي جل وقت حصصه، يروي لنا بعامية غير راقية، قصصا وحكايات، هو البطل الأوحد في جلها، غير مدرك أو غير راغب في الإدراك، أن أي طفل يأتي عليه يوم ويكبر فيه، ثم ينضج ويستنتج، من كان يدرسه فعلا، ومن كان يغشه فقط.
أنا أيضا كبرت ونضجت، وبجواري يقف من يمثل النموذج الأول، ومن يمثل الثاني كذلك، لكن الصمت هبط علينا كجبل، وطوقنا ثلاثتنا.


الكاتب : عبد الحق السلموتي

  

بتاريخ : 27/08/2024