الوجوه المختلفة لكانط من خلال كتابة «ميتافيزيقا الأخلاق» (2)

بربطه الفضيلة بالواجب، شرح كانط واجبات الإنسان تجاه نفسه وتجاه الآخرين. وأكد أن أول وأسمى واجب على الإنسان هو الحفاظ على نفسه وعدم تعريضها للتهلكة، سواء أكانت هذه الأخيرة بوعي وهروب من الحياة بالانتحار، أو بالمبالغة في الأكل والشرب إلخ…

قدمنا في عدد يوم 9 غشت 2024 من جريدة الإتحاد الاشتراكي هذه، قراءة للجزء الأول من كتاب كانط: «ميتافيزيقا الأخلاق»، الصادر عام 1798 – لم يترجم بعد للعربية -، وهو ليس كتابه الآخر «تأسيس ميتافيزيقا الأخلاق»، الصادر عام 1785 من طرف الناشر هارطكنوخ J. F. Hartknoch، وترجم د. عبد الغفار مكاوي، طبعة 1796، وصدرت الطبعة العربية هذه عام 2002.
الجزء الثاني لكتاب «ميتافيزيقا الأخلاق»، يحمل عنوان «الأسس الميتافيزيقية الأولى لمذهب الفضيلة». بعدما حدد كانط الفضيلة: «إن الفضيلة هي قوة مبدأ الإنسان في امتثاله لواجبه»، وبجرأة فلسفية قوية، أكد على أن: «هناك فضيلة واحدة ورذيلة واحدة فقط»، يعني أنه لم يترك للمنطقة الرمادية بينهما أي مكان. كما أنه أكد على ضرورة تعلم الفضيلة من التجربة، تماما كما نتعلم الحكمة، على الرغم من أنه لا يعتبر الفضيلة حكمة، ولا هذه الأخيرة فضيلة، لأن لكل منهما عالمه الخاص.
بربطه الفضيلة بالواجب، شرح كانط واجبات الإنسان اتجاه نفسه واتجاه الآخرين. وأكد على أن أول وأسمى واجب على الإنسان هو الحفاظ على نفسه وعدم تعريضها للتهلكة، سواء أكانت هذه الأخيرة بوعي وهروب من الحياة بالإنتحار أو بالمبالغة في الأكل والشرب إلخ. وسمى هذا الجانب بالواجب الحيواني، ولنقل الغريزي. في حين ضمَّنَ الواجب الأخلاقي برذائل وفضائل مثل الكذب والبخل والتملق. ومن الأمور العميقة التي أكد عليها في هذا الإطار هو: «لا تصبحوا عبيدا للناس. لا تتركوا الآخرين يدوسون على حقوقكم دون عقاب. لا ترتكب أخطاء لا تقدم ضمانة كاملة لها. لا تقبل المزايا التي يمكنك الاستغناء عنها، ولا تكن طفيليا أو متملّقا أو حتى متسولا … لذلك كن مقتصدا حتى لا تصبح فقيرا». إذا أولنا هذا الأمر بالنظر إلى عمق ما جاء في الإستشهاد، فلا مفر من التأكيد على البعد السياسي لواجب الفضيلة عند كانط. وهذا ليس غريبا، خاصة إذا ما ربطناه بالمواقف التي عبر عنها اتجاه ممارسة السياسة في زمانه.
يعتبر كانط واجب الإنسان تجاه نفسه واجبا له تجاه الآخرين أيضا. ومن بين هذه الواجبات هناك واجب المحبة، الذي زينه بواجب الإحسان والشكر ومشاركة الآخرين ظروف حياتهم. ومن الأمور المثيرة للإنتباه هو أنه ربط واجب الإحسان بأمر سياسي أيضا: «إن القدرة على فعل الخير، والتي تعتمد على الثروة، هي إلى حد كبير نتيجة تفضيل أشخاص مختلفين بسبب ظلم الحكومة، مما يؤدي إلى عدم المساواة في الثروة، … وفي ظل هذه الظروف، هل تستحق المساعدة التي قد يقدمها الرجل الغني للمحتاجين اسم المحبة، التي غالبا ما يتم التباهي بها على أنها ميزة؟». قد يذكرنا هذا بما يحدث في العالم العربي-الإسلامي في مناسبات عدة، عندما توزع السلطات «قفة» ما، وعدم تقنين مثل هذه المساعدات، لتصبح حقا للمواطن الضعيف اقتصاديا، وواجبا على الدولة تجاه مواطنيها. أي أن «صدقة أو هبة» الدولة للمحتاجين، لابد أن تصبح في دول تسعى إلى إرساء حق المواطنة، والقضاء على عقلية الريع، حقا مشروعا بقوة التشريع القانوني.
من بين الرذائل التي تتعارض مع حب الإنسان لأخيه الإنسان، يؤكد كانط على الكراهية، التي تتجسد في نظره في الحسد والجحود والشماتة، التي تنتج عن رغبة الانتقام، (كرغبة في العدالة): «لا يملك أحد سلطة إيقاع العقوبات والانتقام من الإهانات التي يتعرض لها الناس، إلا من الذي يعتبر المشرع الأخلاقي الأعلى، … (أي الله)». ويضيف إلى هذه السلسلة من الرذائل: الغطرسة/التكبر، النميمة، الاستهزاء/السخرية.
لم يفت كانط في هذا الإطار التطرق إلى واجبات الناس تجاه بعضهم البعض الآخر، مستغلا في ذلك حالة: «اتحاد الحب مع الإحترام في الصداقة». وللوصول إلى هذا الإتحاد، يجرد الصداقة من كل غاية براغماتية: «لا يمكن أن تكون الصداقة علاقة تهدف إلى المنفعة المتبادلة، بل يجب أن تكون علاقة معنوية بحتة، وليس من الضروري أن يكون الدعم الذي يمكن أن يعتمد عليه كل منهما من الآخر، في حالة الحاجة، هو الهدف والعامل المحدد له»؛ لأن ذلك لا يعتبر لا صداقة ولا حب، بل قد يفقد الإثنين الإحترام بينهما. ما يجمع الحب والصداقة في نظر كانط، هو الإحسان بين الصديقين، والذي لا يعني الصدقة ولا أي غاية براغماتية، بل حبا صادقا بين صديقين. وأصدق تعبير عن الصداقة بمشاعر حب حقيقي، ما يجعل هذه الصداقة لا تصدأ هو التواصل وسعة القلب، حتى في حالة الخصام. واستعمل كانط في هذا الإطار مقولة: «(لأن الرعراع يضرب والرعراع يتحمل denn Pöbel schlägt sich und Pöbel verträgt sich)؛ ولا يمكنهما التخلي عن بعضهما البعض، لكنهما لا يستطيعان الاتفاق مع بعضهم البعض أيضا، لأن الخصومة نفسها ضرورية لهما ليذوقا حلاوة الوفاق في الصلح“.
بعد كل هذا، يصل كانط إلى الجانب التربوي البيداغوجي في تلقين الفضيلة، بل يصبح في بعض الأحيان ديداكتيكيا، يشرح كيفية القيام بذلك. وفي ثنايا كل هذا يختبئ هدفه الأخير من التربية على الفضيلة، ألا وهو زعزعة طرق تلقينها من طرف التربية المسيحية، التي كانت طاغية في زمانه. لكنه يقوم بذلك بحذر، والكثير من الإحتياط، وكأنه يسمع صوت سوط المراقبة. يقر بأهمية التعليم المسيحي الأخلاقي، ويعتبره سابقا على التعليم الديني: „لأنه لا يمكن الانتقال من عقيدة الفضيلة إلى الدين، إلا بالمبادئ الأخلاقية البحتة؛ وبدون ذلك يكون تعليمها غير صادق. ولهذا السبب تردد أعظم اللاهوتيين وأكثرهم جدارة في تأليف تعليم ديني للعقيدة الدينية الشرعية (وفي الوقت نفسه التأكيد عليه…“. لكنه سرعان ما ينبه إلى شيء مهم: „من الأهمية القصوى في التعليم عدم تقديم التعليم الأخلاقي الممزوج بالتعليم الديني (لدمجه)، ناهيك عن السماح له باتباع الأخير؛ … وبدون ذلك يصبح الدين نفاقا فقط، والاعتراف بالواجبات خوفا، والكذب في المشاركة فيها بما ليس في القلب“.
يتابع كانط حفره تحت جذور الدين، لربما لبتره أو على الأقل تهييئ الظروف لذلك، باستنتاج لا يقل أهمية، وهو بمثابة رسم حدود واضحة بين الدين والفلسفة الأخلاقية: „إن العقيدة الدينية كعقيدة للواجبات تجاه الله، تقع خارج حدود الفلسفة الأخلاقية البحتة“. وفي هذا الإطار يمكن الحديث عما قصده كانط بمقولة مشهورة له: „الدين في حدود العقل الخالص“: „يمكن أن يكون هناك بالفعل حديث عن „دين في حدود العقل الخالص“، وهو مع ذلك لا يستمد من العقل الخالص، بل يقوم في الوقت نفسه على عقائد التاريخ والوحي، ولا يتضمن سوى اتفاق العقل العملي الخالص مع هذا الأخير، (أي أنه لا يتعارض معه). ولكنه أيضا ليس مذهبا دينيا خالصا، بل مذهبا مطبقا على تاريخ معين، ولا مكان له في الأخلاق كفلسفة عملية خالصة“.
قد نفترض أن كتاب „ميتافيزيقا الأخلاق“ هذا، وبالرجوع إلى الحقبة التاريخية حيث عاش كانط، كان نوعا من المساهمة المباشرة منه في التأسيس لأخلاق وضعية، تتطابق ومبادئ العقل العملي، الذي تغلغل بعد ذلك في طريقة تفكير الغرب في كل الميادين تقريبا إلى يومنا هذا. وهذا العقل هو الذي أسس مباشرة إلى مبدأ ثوري أوروبي آخر: العلمانية، بمحاولة التمييز الدقيق بين ما لله وما للقيصر، ويقول كانط في هذا لاالصدد: „من هنا نرى أنه في الأخلاق، باعتبارها فلسفة عملية خالصة للتشريع الداخلي، لا يمكن أن نفهم إلا من خلال العلاقات الأخلاقية بين الإنسان والإنسان. لكن العلاقة السائدة بين الله والإنسان في هذا الصدد، تتجاوز بالكامل حدود هذا الأمر تماما“.
إذا تمعنا كتاب „ميتافيزيقا“ الأخلاق في جزأيه، فلا مفر من اعتباره رد فعل كانط على ما كان يحدث في الحقبة التاريخية حيث عاش وتشبعه بالتيارات الفكرية، لما يسمى بالحداثة، سواء من روافدها الإنجليزية -وبالخصوص فيما يتعلق بفلسفة القانون -حتى وإن كان سيسيرو وميكيافيلي حاضرين بما فيه الكفاية، مباشرة أو بطريقة غير مباشرة-، أو رافدها الفرنسي، الذي دخل صراعا علنيا ما حكم الكنيسة، ونجح في التأسيس إلى „العلمانية“ (اللائكية). يتطرق كانط للدين ولله صراحة، ويعتبر هذا الأخير فكرة تظهر في العقل فقط، مثلها مثل كل الأفكار، بينما يحاول تقديم أخلاق بديلة للأخلاق المسيحية، بنوع من التأرجح الحذر بين قبول ورفض الدين كأساس للأخلاق، للإبقاء على الأخلاق الوضعية، أي ما يعتبره مُؤسسا على العقل العملي.


الكاتب : د. حميد لشهب

  

بتاريخ : 30/08/2024