تكريما لروح الفقيد الدكتور إدريس بوهليلة: أبحاث وقضايا في تاريخ المغرب

كان الأستاذ والمؤرخ إدريس بوهليلة واحدا من ضحايا وباء كوفيد 19، عندما سقط صريعا بعد أن فتك الوباء اللعين بجسده. سقط الأستاذ بوهليلة مخلفا حسرة عميقة في نفوس زملائه وعموم معارفه. رحل الأستاذ بوهليلة قبل أن يقول كلمته الأخيرة، وهو في عز عطائه من موقعه كأستاذ بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بتطوان منذ التحاقه بسلك التدريس داخل شعبة التاريخ سنة 1995. في هذا الإطار، كانت له عدة مهام تأطيرية على رأسها تنسيق مسلك ورئاسة شعبة التاريخ والحضارة إلى أن وافاه الأجل المحتوم. وفي مجال النشر، خلف المرحوم بوهليلة عدة أعمال ومنشورات في منابر أكاديمية متخصصة، أو في شكل أعمال مستقلة مثلما هو الحال مع تحقيقه لكتاب «الحلل البهية في ملوك الدولة العلوية»، وإصداره لكتاب «الجزائريون في تطوان خلال القرن 13ه/ 19م»، وتقديمه وتخريجه لكتاب «مؤتمر المغرب العربي المنعقد بالقاهرة 1947».
وتقديرا من زملائه لقيمة عطائه العلمي والإنساني المتميز، بادرت كلية الآداب والعلوم الإنسانية بتطوان بإصدار كتاب «أبحاث وقضايا في تاريخ المغرب الحديث والمعاصر»، في شكل أعمال مهداة إلى روح الفقيد الدكتور إدريس بوهليلة، تحت إشراف الأساتذة مصطفى بنسباع وعبد المحسن شداد ومحمد ياسين الهبطي، وذلك مطلع السنة الجارية (2023)، في ما مجموعه 678 من الصفحات ذات الحجم الكبير.
وبخصوص توزيع المضامين العامة للكتاب، أوضحت الكلمة التقديمية تصنيفها العام، عندما قالت: «جاءت الأعمال المهداة إلى الفقيد إدريس موزعة إلى صنفين هما «شهادات» من زملاء مقربين من الفقيد عايشوه عن قرب، هي شهادات حق في حقه وعرفان موشى وربع قرن في صحبته، و»مداخلات». تختص المجموعة الأولى منها ب»تراث الفقيد ومجال اشتغاله»… وتتطرق الثانية إلى مواضيع عن المغرب عموما أو مناطق معينة منه من جهة، وإلى قضايا عن منطقة شمال المغرب خصوصا من جهة أخرى… أما الأخيرة، فكان من الممكن دمجها مع الثانية لكن آثرنا جعلها مفردة لاختلاف موضوعاتها عن باقي المساهمات بمعالجتها لقضايا فكرية ونقدية… وهكذا يتضح أن مساهمات الكتاب تناولت قضايا تتعلق بأوضاع المغرب عموما (السياسة، الاقتصاد، الثقافة،…) وبعلاقات المغرب مع بلد مغاربي (الجزائر بصفة خاصة) أو الأوربية (إسبانيا، فرنسا)، بل وبلدان إفريقية كذلك. كما أنها تتقاطع وتتكامل أحيانا كثيرة لتعرض لنا صورة عن عهد الحماية وما قبله، وتتشعب أحيانا أخرى لتتعرض لظاهرة مفردة أو معلمة تاريخية فريدة أو مدينة أو منطقة من المغرب…» (ص ص. 8-9).
استندت مضامين الدراسات المدرجة في الكتاب إلى مواد مرجعية مختلفة، جمعت بين الدراسات التنقيبية الدقيقة، والأعمال البيبليوغرافية، والدراسات البيوغرافية، والوثائق الغميسة، والكتابات الصحفية، والمخطوطات الدفينة، والأعمال القطاعية. وقد ساهمت ثلة من باحثي المغرب المعاصر في هذه الأعمال بتنقيبات مجددة تعكس الحرص على تعزيز البعد الأكاديمي المؤطر لهذا العمل. يتعلق الأمر بكل من الأساتذة مصطفى المرون، وبدر العمراني، ونزار التجديتي، وامحمد بن عبود، ومحمد ولد محند، وعبد الرحمان بوزيان، ووسام هاني، ومحمد أمطاط، وحمزة معروف، وعبد الله الهرشة، وحميد بالوش، ومحمد الصافي، وعزيز اليحياوي الإدريسي، ومحمد خرشيش، وفاطمة أزم، ومحمد الناصري، وإدريس بنيحيى، ومحمد الشريف، ومحمد ياسين الهبطي، وعادل بن محمد جاهل، وسمير الداودي، ومحمد العاقل، وعبد الإله الفيلالي، وعمر أشهبار، وحمزة بوحدايد، ويوسف سلامي، وعبد الحفيظ حمان، ومصطفى الغاشي، وعز المغرب معنينو، ومحمد بكور، وواردة آسية، ومحمد الأندلسي، وموسى المودن، وسعيد واحيحي، ومصطفى بنسباع، وعبد السلام الجعماطي، وامحمد جبرون، وحميد الحداد، وحنان الحمياني.
يقدم الكتاب باقة ثرية، لا شك وأنها تعكس أسمى تحية لروح الفقيد إدريس بوهليلة، بما قدمته من عناصر الجدة والتميز، سواء على مستوى المقاربات المعتمدة، أم على مستوى جدة المواضيع وبعدها الاستشرافي الواسع الذي يفتح المجال أمام إمكانيات التعزيز والتطوير والاستثمار.
باختصار، يساهم الكتاب في ترسيخ قيم الاعتراف بالفضل لأهله، ليس من زاوية المغالاة في التبجيل وفي اختلاق السير العلمية والإسهامات المهنية، ولكن -أساسا- من زاوية التأصيل لثقافة تثمين عطاء الرواد الذين يحترقون بنار الفعل الأكاديمي النزيه وبأسئلة البحث العلمي المتخصص، بأدواته الإجرائية الصارمة، وبحسه النقدي الفاحص، وبآفاقه التجديدية الرحبة.
تحمل مثل هذه الإصدارات شهادة اعتراف رمزي بسير نخب العطاء الجامعي، بشكل يسمح بتخليد ذكراهم وبتطوير أشكال استثمار وضعهم الاعتباري قصد استشراف المستقبل. فلكل جامعة ذاكرتها، ولكل جامعة سيرتها، ولكل جامعة عطاؤها. ولا يمكن تحقيق الارتقاء بالدرس الجامعي الوطني إلا من خلال تثمين عطاء النخب التي اكتوت بنار أسئلة التجديد الأكاديمي الذي يقدم الإضافات النوعية المرتبطة بحصيلة التجربة، ويسمح بتحفيز الهمم على الانخراط الجماعي الواعي والمسؤول داخل مجرى نهر البحث العلمي الدافق. وفي ذلك انخراط في العصر واستيعاب لسبل التميز الحضاري للأمم وللشعوب، اليوم وغدا.


الكاتب : أسامة الزكاري

  

بتاريخ : 31/08/2024