في حوار مع المفكر إدغار موران: شرطنا البشري يفترض تناوبا بين «حالات نثرية» و «حالات شعرية» أن يعيش المرء حياته خير له من أن يلهث وراءها

التطلع المُعاصر إلى فَنٍ للعيش، يُشكل، أولا، رَدَّ فِعْلٍ مُدَاوٍ على أوجاع حضارتنا، على مَكَنَنَةِ الحياة، على التخصص المُفرط، على المِيقَاتِيَة

أنا لست مثاليا ساذجا؛ المثاليون السُّذّج يعتقدون أن نوعا واحدا من الإصلاحات يستطيع تحسين الحياة البشرية والمجتمع

 

كما يليق بمُفكر شامل، ظل إدغار موران، طيلة حياته، مُنشغلا بالمشاكل التي تُواجه الإنسان على سطح الأرض، لذلك لم يتوقف عن المناداة ب”سياسة حضارية»، تستدعي بدورها إصلاحا حياتيا.

 

p تُخصصون جُزءًا من كتابكم «الطريق» للتعريف ب «إصلاحٍ حياتي» يُرافق ويُبرر سياسة حضارية ضرورية من أجل مواجهة التحديات الكُبرى للإنسانية. ما الذي تَعْنُونَهُ بإصلاح حياتي؟

n بالفعل،»الطريق» الذي أقترحه يرسم أفقا آخر غير الأفق الذي يَدُفعنا إليه التاريخ الحالي. إن كوكب الأرض مُنخرطُ في عملية جهنمية تقود الإنسانية نحو كارثة مُتوقعة. وحده تحوُّلٌ تاريخي يُمكن أن يسمح بحل الأزمات (الرئيسية والمتعددة) الايكولوجية والاقتصادية والمُجتمعية والسياسية التي تُهدد الوجود نفسه لحضاراتنا السائرة في طريق التَّوَحُّد.
في كتابي «الطريق»، لا أُسَطِّرُ «برنامجا» سياسيا، بالمفهوم الضيق للكلمة، ولكن سبيلا، طريقا مُكوَّنا من عدة طُرق نحوها يجب أن نَتَوَجَّه من أجل مواجهة تحديات أزمة الإنسانية.»سياسة الإنسانية» هذِه، تمر عبر إصلاحات اقتصادية وسياسية وتربوية، وعبر تجديد للفكر السياسي أُحَاوٍلُ رسم ملامحه. هذه الإصلاحات المُجتمعية تقتضي «إصلاحا حياتيا».
إن النمو عبارة عن آلة إنتاج/استهلاك/إتلاف جهنمية، تدفعنا نحو أزمات ايكولوجية واقتصادية. هذا المُسلسل يجد نظير له على المستوى الفردي: إن النظر إلى نمو الفرد من الناحية الكمية والمادية أساسا، يقود عند الميسورين إلى جري جهنمي نحو ال «المزيد دائما»، ويُؤدي إلى ضيق وجود (mal-être)حتى داخل رغد الوجود (bien-être)، المفهوم الذي تم اختزله في الراحة وحدها.
يجب أيضا تشجيع رغد العيش (bien-vivre)، الذي يتسع لاستقلالية فردية ولانخراط في جماعة أو جماعات في نفس الوقت، كما ينبغي التحكم في المِيقَاتِيَّة التي تُفسد وقتنا الحي، دون نسيان ضرورة تقليص تسمماتنا الحضارية التي تجعلنا تحت رحمة تفاهات وفوائد مُضَلِّلَة.
لِزمن طويل اعتبرتِ المجتمعات الأوربية نفسها كمجتمعات «مُتمدِّنة» مُقارنة بالمجتمعات الأخرى، البربرية في نظرها. في الواقع، أنتجت الحداثة الأوربية هيمنة بربرية مُتجمدة، مجهولة، هي هيمنة الحساب والربح والتقنية، والتي لم تكن كافية لضبط «بربرية داخلية» قائمة على سوء فهم الآخر والاحتقارواللامبالاة.
المجتمعات المُعاصرة أنجزت، إلى حد كبير، ما كان حُلما بالنسبة لأسلافنا: رغد الوجود المادي، الراحة. في نفس الوقت، اكتشفنا أن رغد الوجود المادي لا يجلب السعادة. بل أسوأ من ذلك!تَبَيَّنَ أن الثمن المدفوع من أجل الوفرة المادية يعود بكلفة إنسانية باهظة: الأرق، الإدمان، شعور الخواء الداخلي…
من جهة أخرى، نَظَلُّ برابرة على المستوى الإنساني:التعامي عن الذات وعدم فهم الآخر يجدان تعبيراتهما على مستوى المُجتمعات والشعوب كما على مستوى العلاقات الشخصية، بما في ذلك داخل الأُسَر والأزواج. الكثيرون ينفصلون ويتمزقون؛ هذه الصراعات تُشبه صراعات حربية قائمة على الكراهية، ورفض فهم الآخر. أزواج آخرون لا يفعلون سوى التعايش.
في المقاولات والمؤسسات تسود العُصَب والطوائف التي تنخرها مشاعر الغيرة، والحقد، وأحيانا الكراهية. مشاعر الحسد والكراهية هذه، تُسمم، في نفس الوقت، حياة المحسودين والمكروهين، لكن أيضا حياة الحاسدين والكارهين. وبالرغم من تعدد وسائل التواصل، فإن اللاَّفَهم إزاء الشعوب الأخرى يتصاعد.
اللاإنسانية والبربرية مُستعدان باستمرار للظهور داخل كل إنسان متحضر. رسائل الشفقة والأخوة والصفح الموروثة عن الروحانيات الكبرى والديانات والفلسفات الإنسانية، بالكاد خدشت دِرع البربريات الداخلية.
إن تطلعًا إلى فن العيش الجديد هذا، هو بصدد البروز في المجتمع بسبب الأوجاع التي تُخلفها أنماط حياتنا الحالية نفسها. انطلاقا من هذا التطلع يُمكننا أن نرسم ما يُمكن أن يكون عليه إصلاح حياتي.

p ما هي المبادئ التي يقوم عليها «فن العيش» الجديد هذا؟

n إن فكرة فنٍ للعيش فكرة قديمة. فقد كرست فلسفات الهند والصين والعصور القديمة الاغريقية نفسها لهذا البحث. وهي تُقدم نفسها اليوم بطريقة جديدة في حضارتنا المُتَّسِمة بالتصنيع والحَضْرَنَةَ والنمو وتَفَوُّق الكَمِّي.
التطلع المُعاصر إلى فَنٍ للعيش، يُشكل، أولا، رَدَّ فِعْلٍ مُدَاوٍ على أوجاع حضارتنا، على مَكَنَنَةِ الحياة، على التخصص المُفرط، على المِيقَاتِيَة. إن تعميم ضيق وجودي، بما في ذلك داخل رغد الوجود المادي، يُوَلِّدُ، كرد فعل، حاجة إلى السلام الداخلي، إلى الامتلاء، إلى النَّمَاء، أي تطلعا إلى «الحياة الحقيقية».
رغد العيش يقوم على بعض المبادئ:أولوية الجودة على الكمية، أولوية الكينونة على العِندية، ضرورة المزج بين الحاجة إلى الاستقلالية والحاجة إلى الحياة الجماعية، شاعرية الحياة، وأخيرا الحب، الذي هو قيمتنا لكن أيضا حقيقتنا الأسمى. هذا الإصلاح الحياتي سيقودنا أيضا إلى التعبير عن الإمكانيات الغنية المُضمرة في كل كائن بشري.

p بشكل ملموس، كيف يُمكن تطبيق هذا الأمر؟

n كَمَهَمَّةٍ أولى يجب التحرر من استبداد الوقت. إيقاعات حياتنا الحالية تقوم على سباقات دائمة. السرعة، العجلة، التَّنَقُّل الذهني السريع، كلها أمور تجعلنا نعيش بإيقاع محموم. يجب أن نصير أسيادا على الوقت، هذا الخير الأثمن من المال، كما قال سنيكا مُسبقا. مثلما تُوجد حركة للطعام البطيء(slow food)، يجب تنمية الوقت البطيء،والسفر البطيء، والعمل البطيء أو المدينة البطيئة. أن يعيش المرء حياته خير له من أن يلهث وراءها.
إن استعادة تَمَلُّك الوقت تقتضي في الآن ذاته تنظيما جديدا للوقت، والنقل، والإيقاعات المدرسية والحياتية. هذا يفترض أيضا إعادة اكتشاف معنى ال «carpe diem»: أي تَعَلُّم عَيْش ال «هُنا والآن»، كما تُوصِي بذلك الحِكم القديمة.
الإصلاح الحياتي يستدعي تَبَاطُؤا مُعممًا، مَدْحا للبُطْء. التوقف عن الجري يُشكل طريقة من أجل استعادة وقتنا الداخلي.
يجب الاستعاضة عن التناوب الضار استثارة/اكتئاب الذي يطبع حيواتنا الحالية بزوج يجمع بين الطُّمأنينة والكثافة.
إن وجودا إنسانيا بالكامل، لا يُمكن أن يقوم على انسجام تلقائي بين نوازعنا المتضاربة. الحياة المُكتمِلة تتطلب تَحَاوُرِيَّةً مُستمرة بين مُتطلبات العقل ومتطلبات العاطفة: لا يُمكننا ضبط حيواتِنا على الحساب والعقلانية الباردة فقط، ولا على العاطفة وحدها، والتي من دون ضبط ذاتي تقود إلى الهذيان.
يجب أن نتعلم أنسنة نزواتنا وعواطفنا من خلال ممارسة مُرَاقَبَاتٍ انعكاسية: هذا معنى ضرورة تطوير قدرتنا على احتواء الانفعال والحقد والضغينة والغضب. هذا التحكم لا يعني في شيء كبت نزواتنا. إن النوع البشري إنسان عاقل (Homo sapiens) وإنسان مجنون (Homo demens): المُشكلة هي كيفية الربط بين هذين البعدين الأساسين من وجودنا. هذا الأمر لا يُمكن انجازه دون معرفة للذات، وهي المعرفة التي تعيش تخلفا في مجتمعاتنا. لقد فضَّل الغرب معرفة الطبيعة والتحكم فيها، عوض معرفة الذات والتحكم فيها.
من أجل معرفة الذات يجب تطوير الانعكاسية والمراجعة والنقد الذاتيين. إنه تمرين صعب، ذلك أن الأمر يتعلق باستدراج الأفكار الثابتة والروتينات الذهنية القابعة بداخلنا، كما يتعلق بتعريض مُعتقداتنا ويقينياتنا الخاصة إلى النقد، الأمر الذي ليس سهلا طالما أننا أَمْيَلُ إلى انتقاد الآخرين والتشنيع بالخصوم. المراجعة الذاتية تفترض جزءا من التهكم الذاتي، هذه القدرة على السخرية من الذات التي هي شكل من التَّمَاسُف والانزياح.
إصلاح حيواتنا يقتضي أيضا التَّطهر من كافة أشكال الإدمان على الاستهلاك. وليس المقصود هنا وجوب التنازل عن ملذات الاستهلاك من أجل العيش داخل الزهد والتقييد المُستمر والتقشف والحرمان. على العكس من ذلك، يعني الاستهلاك الجيد إعادة اكتشاف مذاق الأشياء. حياة غنية وممتلئة قائمة على تناوبات بين فترات الاعتدال وفترات الاحتفال. يجب أن تتلو فترات التحكم في الذات، لحظات ضرورية من الاسراف والاحتفال، ما يدعوه جورج باطاي بِ «التَّلَاشي» (La consumation).
على المجتمع أن يشفى اليوم من «الحُمَّى الشرائية» والاستهلاك الزائد. هذا لا يمنع من القيام بمشتريات مصدرها الرغبة والافتتان.

p الإصلاح الحياتي إذن ليس مجرد تَمْرين في البساطة الاختيارية. فهو يدعو أيضا إلى إعادة السحر الى وُجودنا؟

n نعم، لكن مع الوعي باستحالة العيش باستمرار في النعيم. شرطنا البشري يفترض تناوبا بين «حالات نثرية»و»حالات شعرية»، الاثنان يُشكلان قُطبي حيواتنا. الحالة النثرية تنطبق على الأنشطة والاكراهات الضرورية التي تفرض نفسها علينا. الحالة «الشعرية» تنطبق على لحظات الإبداع والاحتفال والحوار والمشاركة والحب. الاثنان يتعاقبان ويتشابكان في الحياة اليومية: دون نثر لا وجود لشعر. من غير المُجدي تمني حياة مسحورة حيث الحالة الشعرية هي الحالة الدائمة. مثل هذه الحياة ينتهي بها الأمر إلى فقدان الطعم من تلقاء نفسها.إننا محكومون بتكامل وتناوب الثنائي شعر/نثر.

p ضد اجتياحات الفردانية وإفراطات الاستقلالية، الكثيرون يُنادون اليوم بعودة التضامن والتعاطف والغيرية. ما رأيكم؟

n الإصلاح الحياتي يجب أن يحتوي، بشكلٍ مُتزامن، على اثنين من أعمق التطلعات الإنسانية المُتكاملة: التطلع إلى الإثبات، أي إلى الـ»أنا» في الحرية والمسؤولية، والتطلع إلى الاندماج، أي إلى الـ»نحن» التي تُقِر «الاعتماد» على الآخرين في الحُنُو والصداقة والحب. الإصلاح الحياتي يحثنا على الانخراط داخل جماعات دون أن نفقد شيئا من استقلاليتنا. واحدة من أولويات الإصلاح الحياتي تشمل تَعلَّم أشكال جديدة من الاندماج الاجتماعي.
إن ما ندعوه بسياسة الـ»care» والاعتناء بالآخر يُوجد ضمن الورشات الكبرى للإصلاح الحياتي. المُساعدة والتضامن يجب أن يُنجزا داخل «بيوت للتضامن» تحتوي على مُساعدات طارئة عند كل استغاثة، ومصلحة مدنية للتضامن من أجل الشباب، ما يُؤكد جيدا أن الإصلاحات الحياتية لا ترتكز فقط على ضمائر شخصية، وإنما على جُملة من الإصلاحات السياسية والاجتماعية والاقتصادية.
التعاطف والعناية واللطف والاهتمام بالآخر، كلها أمور موجودة عند الإنسان كاستعدادات أساسية: نلحظ ذلك بالأخص عند الكوارث الكُبرى حيث يُعاد بشكل تلقائي تنشيط زخم الكرم، حتى بالنسبة للساكنة البعيدة. هذا الاستعداد القبلي يتطلب الرعاية والتحفيز والتشجيع والتَّعلُّم.

p لكن تحديدا، ما السبيل إلى إصلاح حياتي مماثل؟ وما الإصلاح المؤسساتي الذي يستلزمه؟

n الإصلاح الحياتي يقتضي تَعَلُّمًا وإصلاحا شخصيا في نفس الوقت. هو يستدعي، بشكل متزامن، إصلاحا للتربية، وكذا إصلاحات اقتصادية واجتماعية كبرى، ووعيا استهلاكيا جديدا، كما يتطلب إعادة أنسنة المدن وإعادة إحياء البوادي. أُحصي في كتابي كل الحقول الإصلاحية الضرورية.الانخراط في طريق جديد للإصلاح لا يمكن أن يحدث على مستوىً شخصي فقط، أو مستوىً جماعي فقط. إن ذلك يقتضي تعددا في الإصلاحات، والتي بِتَطَوُّرِها ستصبح مُتكافلة في ما بينها.
لقد استشهدتُ بأندريه جيد الذي يتساءل من أجل معرفة ما إذا كان يجب البداية بالتغيير المجتمعي أو بالتغيير الشخصي.يجب البداية في نفس الوقت من الجانبين. يقول غاندي:»يجب أن نحمل داخلنا العالم الذي نُريده». لكن هذا لا يكفي، كما لا تكفي إزالة نظام استغلالي،سُرعان ما سيتم استبداله بنظام استغلالي آخر، كما تُبين ذلك تجربة الاتحاد السوفياتي، التي فشلت في نهاية المطاف. أنا لست مثاليا ساذجا؛ المثاليون السُّدَّج يعتقدون أن نوعا واحدا من الإصلاحات يستطيع تحسين الحياة البشرية والمجتمع.
فَلأَنَّنِي أُعتقد أن كل شيء مُترابط – هذا هو الفكر المُعقد– أستخلص أن الطريق الوحيد هو طريق تكافل الإصلاحات.
هذا يظل غير مؤكد بالطبع. في كل بقاع العالم يَتَجَلَّىاحتشادٌ لمبادرات خلاقة تُظْهِرُ إرادة-عيش مُتجَاهَلَةٍ من لدن البيروقراطيات والأحزاب.لا شيء يجمع بين هذه المبادرات حتى الآن؛ بمعنى ما، نحن في بِدايةِ بدايةٍ. تاريخيا، كل تَحَوُّل كبير –ديني، أخلاقي، سياسي،علمي – اِبْتَدَأَبشكل مُنحرف بالنسبة للتيار الرئيسي، وبشكل متواضع بالنسبة لحالة الأشياء. هذا ما يسمح لنا بالأمل، الذي ليس يقينا بالطبع. الإصلاح الحياتي هو في نفس الوقت مُغامرة داخلية، ومشروع حياتي وجماعي.

Sciences Humaines, hors-série n°18, Edgar Morin. L›aventure d›une pensée.


الكاتب : حاوره: فرونسوادورتييه

  

بتاريخ : 06/09/2024