ليلُ الرباطِ…عشرُ ليالٍ وليلة

في الطريق على الكورنيش باتجاه وسط المدينة، يُصادفك ليلٌ يَسير هائما على وجهه حاملا أمتعته، مفترشا العشب الأخضر، وملتحفا بسماء صيفية تُوزع حُبها بالتقسيط، مُوليا وجهه نحو بحرٍ يتطاير رذاذُه لِيصل إلى الدور القريبة. ليلٌ يفر من صهد يعتقله بالنهار، يفر من ذاته ليستعيدها في هذا الفضاء الرحب. تسير السيارة ببطء، وتقف من حين لآخر لتفسح المجال لهؤلاء المنتقلين من الضفة إلى البحر. تتجاوزُنا أضواءُ أعمدة الإنارة من جانبي الطريق مع أشجار النخيل الذي ينعكس ظلُّها الليليُّ على زجاج السيارة الأمامي. نَمُر بمحاذاة المسبحِ الكبيرِ، وقد استعاد هدوءَه الذي لن تكسره سوى أمواجِ بحرٍ تُصر على أن تُفرج عن غضبها الأبدي. وعلى الشاطئ الممتد تنتشر قبائلٌ من السيارات تقتسم الفضاء بتواطؤ ضمني، تعيش ليلا آخر في سكون عجيب، تحتسي كؤوسا من النشوة المؤقتة. أمةٌ تعيش داخل سياراتها وتهرب من ربطة العنق والصفقات والمكاتب المكيفة وغير المكيفة. أمةٌ يوزعها النهار ويجمعها الليل في آصرة من القرابة والتودد والمحبة. أمة هجينة تتآلف ليلا: موظفون وسماسرة ومقاولون ومياومون ومعتوهون وبوهيميون والآخرون أيضا. ليلٌ طبقي يوزع مرتاديه فئاتٍ وفتاتا تقتات عليه أمة الصباح. ليلٌ جميل حالم يتعالى على صهد النهار ويسمو على ضغط الأوامر. ليلٌ مؤقت وطويل.
لاتزال السيارة تسير منخرطة في لعبتها مع الأضواء وظلِّ أشجار النخيل الليليِّ الذي يخترقها أحيانا، وأحيانا يصيب وجوهَنا مثل سهام ورقية فنبتسم ونسير! لكننا لا نتوقف في ليلِ الرباط الطويل والندي. نصل إلى النفق المفضي إلى ضفة أبي رقراق الرباطية. فَوقنا تتربع الأوداية الوديعة ملتحفة بالبياض تعبق بروائح حدائق أندلسية حالمة، تُشرف من أعلى على النهر حين يلتهمه المحيط. عَلينا الآن أن ننتظر في النفق لأن ثمة مغن يغلق بصوته المبحوح الطريقَ. تتعالى أصوات أبواق السيارات احتجاجا. يطول الانتظار. يتسلى ابني وابنتي بالتقاط الصور، وننخرط في زمرة الأبواق المتعالية الأصوات. تلكم موسيقى أخرى ونغم آخر. نخرج من ضجيج النفق كمن خرج من كهف مظلم إلى هذه الأضواء التي يداعبها ليلُ الرباط البهي. نركن السيارة قرب الصومعة المضيئة الهادئة والحكيمة. نهبط إلى ضفة الوادي. ثمة أرجل تسير فرحا، وأرجل ترقص انتشاء، وأرجل تركض خوفا. إنها ثلاث ليال أخرى من ليل الرباط المتعدد…هناك مغن يبدو من بعيد فوق الخشبة وسط هالة من الضوء يكسر بصوت نشاز هدوء الوادي والمحيط. يقفز يمينا ويسارا. يتلوى حتى يكاد أن يسقط، ثم ينتصب واقفا ليكمل أغنيته مثل فنان حقيقي. ينتظر التصفيقات. يشكر الجمهور بفرنسية ممزوجة بدارجة مغربية تتكسر بنقرات موسيقى فجة. ويشكر أمه التي قال إنها تحضر معه الحفل، ثم يوصينا خيرا بأمهاتنا. وفي الحقيقة خيرا فعل فتلك قيمة بدأنا نفتقدها في ليلنا الطويل هذا. تذكرت والدتي التي رحلت منذ أشهر وتركتنا للذكريات والصور…
نسير بمحاذاة وادي أبي رقراق…ثمة في الضفة الأخرى شعبٌ يعيش ليلا آخر. يرقب الماء تارة، وتارة يغرق في هواتفه بحثا عن عالم افتراضي ينزعه من ضوضاء ليل الضفة الأخرى. تبدو أضواء الهواتف مثل شموع تتمايل تحملها أياد خفية. نعود لنحشر أنفسنا داخل الحشد المتمايل على وتر أحزانه…وهذا الضجيج الذي يسمى غناء يكبر ويخلف أمواجا متمايلة من الأجساد المتحررة من عرق صيف جاف. كل واحد منا يعيش ليله؛ ليلٌ فرِحٌ وليل بئيس وليل بينهما وليال أخرى…نصعد الربوة باتجاه الصومعة التي تتربع بخيلاء. تنظر إلى النهر وتحتضن زوارها في هدوءِ ليلٍ ينعم بسكون يأتي عميقا كصدى يتردد بين جبلين في خلاء مقفر. يصلنا صوت أغنية من ضفة النهر أسفل. تلك التي تعُود بنا إلى ذكريات المونديال الأخير. تبدأ الأجساد تتمايل انتشاء قرب الصومعة بالفرح الذي كان…هو ذا ليل آخر يفر من لحظته ليعانق فرحا هاربا. نجلس جوار الصومعة. نرقب حركة السيارات وانعكاس الضوء على الماء، وهذا السكون الذي تقطعه أصوات الموسيقى وجلبة الجمهور. ونقبض على الهواء بأعماقنا. نلتقط صورا للذكرى. نعود أدراجنا إلى حيث ركنتُ السيارة…
يبتعد عنا الصوت والأضواء والضجيج، ونتيه في أزقة حي «حسان» المقفرة والمظلمة، حيث يأوي ليل آخر إلى نصفه الآخر في غرف خافتة الإضاءة يَستريح من تعب النهار وإيقاع العاصمة السريع. ليلٌ يرتب أولويات الحياة وبرنامج غدٍ قد تُبدده الخطط الخماسية والرباعية وخطة إعادة ضبط النفس وشد الحبل والتقويم وأشياء أخرى. تسدل الغرفُ الخافتةُ الإضاءةِ ستائرَها، وتنخرط في ليل يسرق لحظة مناجاة في ظلام الحياة الأبدي. تركن الأجساد إلى بعضها بعضا لتشحن ذاتها برصيد قابل للتصريف أمام صروف الدهر ونوائب الحياة. هو ذا ليل صامتٌ وساكنٌ وهادئ وغير مزعج، وقد دُجِّن بفعل هذا الإيقاع الذي يأسرنا. نسير وسط أضواءِ شوارع حي «حسان» المظلمةِ وأزقته. تتخطى السيارة ظلالا وأشباحا تختفي في النهار… ثم نسير يلفنا صمت. نقف في إشارة المرور. ينتصب على يميننا متحف محمد السادس للفن المعاصر والحديث، ليل آخر في حضرة الألوان التي يناجي بعضُها بعضَه الآخر في غفلة من الزوار هؤلاء الاستثنائيين: تلاميذ وطلبة ومدرسون وفنانون وحمقى يتأملون اللوحات ويتحدثون إليها…أتذكر في أحد الأيام كنت صحبة ابني الذي كانت تستهويه، ولا تزال، زيارة المتحف والاستمتاع بالألوان…حدث أن تسمَّر أمام إحدى اللوحات، وكانت بالأسود والأبيض، وكان يرقبه من بعيد أحد الزوار الفرنسيين الذي يبدو من نظرته وحديثه أنه واحد من هؤلاء الذين نذروا حياتهم للصباغة والألوان. اقترب من ابني وخاطبه بيقين مبالغ فيه عن اللوحة:» ترى، إنهم فرحون…» لأن اللوحة كانت تُقدم أسرة من أب وأم وابن، وكانت الأم تعزف على قيثارة. لكن ابني أجابه بلهجة الواثق من نفسه:» لا، إنهم حزينون…انظُر إلى وجوههم»…آنذاك بدت علامات الإعجاب والاستغراب على وجه الفرنسي، وتاه بين لوحات المعرض وبياضه دون أن ينسى تثمين الإجابة بكلمات لم نسمع إلا صداها… تركنا خلفنا ساحة المظلات حيث أسدلت سُتُرَها حوانيتُ الورود وتجارة الفرح …»پلاص پييترى» إضاءة خافتة وسكون في حضرة روائح الأزهار والورود التي آوت إلى أحلامها.
خرجنا من أسْر إشارة المرور. على يسارنا ثانويةُ مولاي يوسف العريقة ترقب من أعلى الربوة التي تتربع فوقها شارعَ محمد الخامس الذي استسلم إلى ليله المختلف والمخيف والمتعدد. شارع يهبط بسرعة مخترقا سكة الترمواي التي تمر بمحاذاة محطة القطار الرباط-المدينة، ومجتازا شارع الحسن الثاني في نهاية بياضه الذي يستبدله بلون الطين، ليتجه صعودا حتى البحر، عابرا «السويقة» المحتفلة دائما بليلها الكثير الأضواء والروائح والناس والأعين والحوانيت العتيقة…عندما تدلف إلى السويقة فأنت تدخل أسرا لن تتحرر منه…تأخذك في متاهاتها من سوق إلى سوق، وهذه الروائح لها طعم خاص؛ روائح العطور والأثواب وأبواب الخشب العتيقة وروائح الأكل المنبعثة من الزقاق المؤدي إلى «البويبة» حيث ينخرط الناس في طقس آخر. يتصاعد دخانُ المشوياتِ ليختلط بضبابِ الموجِ المختبئِ وراءَ الأسوارِ والمحملِ بقطراتٍ نديةٍ تحملُ روائحَ البحرٍ. «السويقة» أسر جميل. ليلُ السويقة ليلان؛ ليل ما بعد الغروب حين تهجم المدينة «الحديثة» متحررة من أسرها بحثا عن استراحة جنب السور أو في الفضاءات المحيطة تنتشي بشرب كؤوس العصير وأكل قطع الحلوى المشهورة ذات الرقائق المتعددة التي تتخصص في إعدادها وبيعها هذه الحوانيب المحيطة بالسوق المركزي التي تعج دائما بالناس من كل الفئات، وهذا طقس آخر وحكاية أخرى ذات شجون. وليلُ آخر الليل حيث تركن «السويقة» إلى سكونها الذي لا يمحي إلا مع حركة أمة تنبعث من شارع محمد الخامس والأزقة والشوارع المتاخمة بحثا عن سرير رخيص يأويها أو عن وجبة في المقاهي الممتدة على طول السور الموحدي…أمة تنبعث من ليل الشارع الكبير وأزقته الخلفية وحاناته المنتشرة كالحزن…حانات لكل الناس ولكل الفئات…هنا في ناصيةٍ تطل بطرف على الشارع الكبير، وبطرف آخر على متحف بنك المغرب، تقبع حانة خوان جوزي الأنيقة. وهناك خلف مقهى «باليما» يتربع «الحلم» مُحتضنا «طنجة»، وبينهما يسير الناس طوال الليل لنسج أواصر صداقة تنتهي مع إشراقة الصباح. أما «تيرمينيس» فقد انسلخ من جلده وارتقى عما جاوره يُطل من فوق على شارع محمد الخامس الذي يفر هاربا نحو البحر…في هذه الحانات ليلٌ يتحدث كثيرا، ويشرب كثيرا، ويدخن كثيرا، ويوزع الوعود وأرقامَ الهواتفِ بلا حساب، ليلٌ يحلم كثيرا قبل انقشاع ضوء الصباح لينخرط في دورة الحياة في انتظار ليل آخر…ليل يؤثثه مزيج هجين من البشر: موظفون وكتاب وشعراء وباحثون ومشردون وحمقى والآخرون…يبحثون عن حلم عابر، أو عن كلمة شاردة في قصيد، أو عن شخصية في رواية لم تكتمل، أو عن حلِّ معادلة رياضية مستعصية منذ الأزل، أو عن صياغة نظرية لفهم واقع بئيس، أو يبحثون عن ذات تهرب من الذات، أو عن ليل يهرب من النهار. ليلٌ لا ينتهي في زحمة الحياة. ليلٌ في رواية أو رواية في ليل…
في الرصيف الآخر، قبالة البرلمان، يقف شاب يعزف على قيثارته ويغني بصوت شجي يكسر صمت الرباط…هي ذي الرباط الزاهية المنيرة المتشحة بالأخضر والبياض في سواد ليل بهيم. مدينة عرفتُها منذ سنوات خلت…رافقتُها في شوارعها المضيئة وفي أزقتها الخلفية. رافقتها في لحظات الرخاء وفي لحظات الضنك. منتشيا، تائها، هائما فيها مشيا على الأقدام من أقصاها إلى أقصاها حيث كانت السيارة حلما عزيزا…تُوقفك استراحةٌ على عشبها الندي، أو وجبةٌ لسد الرمق في إحدى حوانيت حي «العكاري» الشعبية أو في المقاهي التي تولي بظهرها إلى السور في «السويقة»، أو ارتماءةٌ على رمل شاطئها الذي يؤنس وحدةَ الموتى في المقبرة المجاورة…تسكُّعٌ طول النهار وآناء الليل. نكتب قصائد للحب والغزل وأخرى للوطن وثالثة لليل…آه! كم هو عصي هذا الحب وهذا الغزل، وكم هو طويل هذا الليل، وكم هو سخي هذا الوطن، وكم هو ضروري هذا الشعِّر كما الحياة. هو الصمت نفسُه والهدوء نفسُه، بل والإحساس نفسه. بالفعل هي الرباط. لم يتغير شيء، غير أننا صرنا أكثر نضجا وأشد احترافا للهموم بتعبير عبد الله راجع.
شارع يسعى إلى حتفه أو حياته بالنهار، ويسكن إلى ذاته بالليل. مُوحش وحميمي. هادئ ينساب متسللا في صمت، وقد أغلقت كل المتاجر أبوابها. خلاءٌ في صحراءٍ تستبدلُ الرملَ بالإسمنت. نسير في شوارع لا تنتهي يتصل بعضها ببعض في تواد راسخ. لا مكان للبياضات في مدينة تتسع لتضيق، وتضيق لتتسع. شوارعٌ مقفرة في ليالٍ لا تنتهي…نعبر الآن شارع فال ولد عمير بحي أگدال «الراقي جدا» و»الموحش جدا». شارع أنيقٌ يخترقُ خطين متوازيين من الأشجار التي تنتصب على طرفيه. يصعد هاربا، كما الناس، مقوَّسَ الظهر. تصطف على جانبيه متاجر ومقاه وأشياء أخرى. ليل آخر يفاوض تحت الإضاءات الخافتة، وعلى أبواب العمارات. جُل الذين يذرعونه لا يعرفون من هو هذا الذي يحمل اسمه، بل لم يهتموا للأمر…ما يهم أن الشارعَ طقسُ وجاهةٍ مفقودةٍ أو حلم شارد. ليلٌ بطعم آخر. خلفنا تركنا شارع النصر المبتسم بأضوائه السفلية والعلوية، وقد تخلى عن عاداته القديمة بعد أن شمله نور الأنوار، محتضنا حي الليمون، ومنتشيا بروائح الحدائق التي تحف جانبيه. وأمامنا شارع النخيل الذي لا تحد من اندفاعه سوى سكة القطار التي تقسم المدينة إلى نصفين…
ليلُ الرباط ليلٌ متعددٌ ومختلفٌ ومتصالحٌ مع نفسه ومع مرتاديه. من الكورنيش إلى وسط المدينة، ومن شالة إلى الأوداية وإلى كل الشوارع «الراقية» أو دونها، ومنها إلى كل الأطراف القريبة والقصية وما بينها، ليلٌ واحد ينشطر إلى عشر ليال وليلة…إنها الرباط الزاهية عاصمة بلد كبير اسمه المغرب.


الكاتب : عزيز لمتاوي

  

بتاريخ : 13/09/2024