10ملاحظات مقلقة وخلاصات لا بد منها
عبد الحميد جماهري hamidjmahri@yahoo.com
لطالما أقنعنا قططنا بأننا في حالة عرس كبير، لا يحسن معها أن يهرب أي قط أو قطة! لكن يبدو أنها لم تعد تقتنع فقررت أن ترمي بالشك على الحكمة المغربية، وتستعد لتركنا في نشاطنا فرحين، نرقص على إيقاع “الراي” أو “الهيب هوب” وتبحث لها عن بلاد بلا عرس مثله لتعيش!
عكس الحكمة الشعبية، نحن أمام حالات إنسانية تشعرنا بالغضب، وتشعرنا بالخوف، كما تشعرنا بغير قليل من الخجل أو العار.
1 – ما لا يمكن أن نختلف حوله هو وجود حالة احتقان واسعة تفوق الوصف، تتكرر نواقيس مؤشراتها ونواميس حيرتها، قد تكون لوحدها عنصر التفسير المركزي لما يحدث لمن شاء ترتيب الأسباب لما وقع في الفنيدق أو تشكيل مادة السياق الذي يضع كل العناصر، ويحكم على الحالة في راهنيتها.. فشل المقاربات القطاعية، ضعف التأطير لما بعد وضع النموذج الاجتماعي للخروج من اقتصاد التهريب المعيشي، وما تكشف عنه أرقام المندوبية السامية للتخطيط ( عن أكثر من ربع الشباب الذين تتراوح أعمارهم ما بين 15 و24 عاما (1,5 مليون شاب)) لا يعملون ولا يدرسون ولا يتابعون أي تكوين، ومعدل البطالة في وسطهم بلغ 31,8% .. وفشل «المسحة» التخديرية لخطاب الدولة الاجتماعية الحكومي، وهناك من يرى فيه أشخاصا “ملثمين “بالفايسبوك، ومن يرى فيه أزمة الطبقة الوسطى والضعيفة معا، بل ذهب التحليل بالبعض إلى حد اعتبره مقدمة لتمرد سياسي أو هو مجرد إحراج للحكومة تحذوه خلفيات انتخابية، في حين قد يكون مجموع هاته المسببات كلها ..وغيرها حتى …
وبعد ذلك، تتفرع العناصر الأخرى التي نعتبرها مستجدة في الحادثة التي بين أيدينا، والبؤرة الأساسية فيها هو تواعد المئات وعشرات المئات من أجل خروج جماعي في علم الجميع.
2 ـ هي المرة الأولى التي يتم فيها ترويج دعوة علنية، بواسطة وسائط التواصل الاجتماعي لموعد علني، تحت أنظار الجميع، من أجل اختراق أسلاك الفصل بين سبتة المحتلة والمغرب، والعنوان العريض هو الهروب الجماعي.
النداء جاء من كيان افتراضي، قد يكون جماعيا أو يكون فرديا، قد يكون حسن النية، مهمته رعاية اليأس والبحث عن منفذ لليائسين، أو سيء النية يريد تأزيم الوضع . المهم أنها دعوة من مجاهل “الفايسبوك” و”الانستغرام” و”التيكتوك”، إلى شباب المغرب، وغير المغرب، ممن يريدون الرحيل إلى الشمال الغني …. بأحلامهم!
3 ـ يجدر بنا أن ننتبه إلى المستجد في الحادثة: إذا كان المهاجرون غير النظاميين يتوافدون دوما على مناطق الشمال للهجرة، وإذا كانت هي المرة الأولى للتواعد من أجل الهجرة الجماعية، وإذا كان بريق الذهب والوعد بالكنز قد سبق أن حرَّك إليه في جماعة سرغينة ببولمان مئات الأشخاص يوم 26 رمضان المبارك للاستفادة من “كنز عظيم” بجبل دوار تيشوت … فلعلها المرة الثالثة التي تصدر دعوة من هذا المثيل يكون لها امتداد في الواقع يفوق التوقعات:
كانت المرة الأولى في زمن فبراير 2011 الشامل ، (علما أنه لا قياس مع وجود الفارق في المعنى والمبنى وحدود التشابه تقف عند الوسيلة)، والمرة الثانية، كانت في زمن المقاطعة الشاملة يونيو 2018 .. وهي المرة الثالثة التي يكون التجاوب فيها سريعا وفي الحين ويكون “التسامح” معها طابعا مثيرا للتأمل.
4 ـ بالرغم من وجود الدعوة قائمة لمدة غير قصيرة عبر الوسائط إياها، فقد تبين بأن التعامل الحكومي معها لم يتجاوز.. الصمت، بل تكررت عادة التعامل بالاستصغار والتعالي، ولعل هناك من اعتبره فعلا لاعقْلانيا لأنه لا يخضع لشبكة القراءة التي تعودها أو لا يلتقط خطورتها ..
فقد سكتت كل أفواه السياسة والتدبير في بلادنا، وتغافلت عن الدعوة من أجل العمل على التقليل من آثارها أو إحباط الدعوة إلى هذا الفعل المادي القوي الدلالة ( حيث أن بعده وأهميته ليسا موضع خلاف) والعمل على تسييج آثاره والالتفاف عليها ..
5 ـ ليس جميع القاصرين في النيت: بل هناك من هو أصغر من “التيك توك” ومن “الفايسبوك” .. :غير أن ملموسية الفعل بالرغم من كل تفسيراته ..وقصديته حقيقة قائمة. فقد وجد كل الذين تجاوبوا معه بأن «»رابطا ما يربطهم» بالرغم من تباعد المسافة وكونهم أفرادا منفصلين عن بعضهم في الواقع لم يمنعهم من أن يجدوا أنفسهم في “فئة” ذات طابع وانتماء موحد.
لن يذهبوا إلى المكان نفسه، وربما لا تحركهم النوازع ذاتها، لكنهم وجدوا أنفسهم يتجاوبون مع نداء موحد يحثهم على فعل مادي ملموس، له بعده السياسي وشحنته السياسية والاجتماعية..
6 ـ التجاوب مع هذا النداء، كما كان الفعل مع المقاطعة، يسائلنا، سواء من حيث التمثيلية السياسية ( منتخبين ونخب محلية، مجالس وهيئات وساطة، برلمانيين في دفة التدبير أو حكومة..) هذا، ويمكننا المجازفة بالقول إن هؤلاء الذين تواعدوا ربما لا يشعرون بوجود من يمثلهم في هاته المستويات، بل لعل بعضهم عاش تجربة توظيفه في حرب التمثيليات وشراء الأصوات المناسباتية وخَبِر من ورائها صدقية الذين يراهم في مناصب التمثيلية!
7ـ كما يسائلنا من جهة المسؤولية، من الذي تحملها أم لا، بما في ذلك العنف المشروع الذي بادر إليه الأمن، (بالمعنى الفيبيري ) مقابل جمود مثير للشبهة من الأذرع الأخرى للدولة لاسيما الحكومة… فما قام به الأمن تدبير متزامن أظهر فعاليته وأبرز وقوع التجاوب مع الحدث في إطار مسؤولياته، في سياق مطبوع بقوة الضغط الدولي وصورة البلاد، في حين بدا من زاوية أخرى أن الأجهزة المسؤولة الأخرى كما لو أنها تتحرك بمراعاة “العلاقات العمومية”عبر “إدارة المنطقة بدون مراقبتها”، حتى وإن وقعت الواقعة.
ونحن في حيرة !
كما لو أن شقا من الدولة يتابع الدعوات والتحركات والتنشيط والتجنيد عبر وسائل التواصل الاجتماعي، ويقول : دعه يفعل! ويترك الشق الآخر يتصرف بالقول: …ولا تدعه يمر!
في الشق الأول نكتشف طريقة تأقلم الحكومة مع وضع معقد لا يمكن إخفاوه بخطاب “البوووووز”، بل لعلها تعتبره أقوى طريقة في الحكم، في حين يوضع جهاز الأمن أمام المدفع في واقع لا يخفى على أحد، هو جعل المؤسسة الأمنية وجها لوجه مع واقع هو نتيجة فعل سياسي وتدبير ليس من اختصاصها!
8 ـ لا أحد صار يستبعد وجود جهات، لها نوايا وأهداف تريد أن تجني منها مردودية جيوستراتيجية ، تتدخل في دينامية التوتير والتأزيم، وهي في العادة تفعل كل ما لديها لكي يحصل ذلك، بل لا يبدو توتير العلاقة الاجتماعية سوى تمرين بسيط إذا ما قورن مع ما تفعله هاته الجهات، في حق المغرب( هل يمكن أن نستصغر، مثلا، محاولاتها في التحريض على تأزيم مناط بالهجرة، في وقت ترعى فيه ما تسميه “حركة تحرير الريف” أو تحتضن في ترابها “الحزب الوطني الريفي” ؟ أبدا، فهو منطق واحد)، ولعلنا نتابع دولا تتهم أخرى بالتأثير، عن طريق الأدوات التقنية الجديدة في اختيارات سيادية مثل الانتخابات ،( واشنطن اتهمت موسكو بالتدخل في انتخابات 2016، وموسكو اتهمت واشنطن في انتخابات 2024)، فهل نستكثر على أنفسنا مثل هذا التخوف المشروع؟ ولعل من ثوابت التحركات المعادية أنها تشتغل علي الوضع الاجتماعي وبل تسعى إلى المساعدة على رفع درجات توتره ( خطة طرد مغاربة الجزائر في السبعينيات مع بداية الحرب في الصحراء …). ولعل الأمر يزيد من مسؤولية صاحب القرار الحكومي في السياسات العمومية ويجعله شريكا عبر التغافل أو المساهمة عن غير قصد في ذلك!
9ـ كان من المتوقع أن تبادر الجهات المعنية وهي هنا الحكومة إلى التفاعل السريع مع ما وقع، في جملته وفي كل شروطه، لكن الذي حدث هو ما يتعلق بالصورة التي انتشرت في الفيديو انتشار النار في الهشيم، وقد كان هناك موقفان من المغرب، واحد رسمي عبرت عنه النيابة العامة والثاني مقنع عبرت عنه مصادر من السلطات المحلية. وفي وقت اختارت السلطات الترابية «التسريب» الاعلامي وسيلة تواصلية تقر بوجود الصورة وتناقش تاريخها فقط، جاء بلاغ النيابة العامة لكي يضع الصورة نفسها موضوع مراجعة ومساءلة. وهنا يمكن أن نفهم أن هناك مستويين في التعامل مع الصورة، وليس مع الحدث الأصلي فيها!
لم يكن من المنتظر أن تسكت الحكومة، بل كان عليها أن تقدم نموذجا في التواصل المؤسساتي، وإن كنت شخصيا أرى في تمارينها السابقة غير قليل من النوايا السياسوية! وهي من تعلن عن دعوة الجهات المختصة القيام بما يجب القيام به.
والصورة هنا، تحيلنا واقعيا على الصورة العامة للبلاد، في وقت تحقق فيها تطورا مشهودا به عالميا ووجد تكريسا له في المواقع التي صارت للمغرب في مجال حقوق الإنسان،ومما جعل المغرب يسعى إلى الارتقاء بنفسه إلى … الصورة التي رسمها لدى العالم عن نفسه.
الحقيقة التي لا يمكن القفز عليها وهو أن الأمن الذي وجد نفسه وجها لوجه مع الحدث تصرف بثقافته، أي احتكار العنف المشروع، كما هو متعارف عليه كونيا، ولم تسجل التجاوزات التي تعودناها في التفاعل (اليونان مثلا وبعض الدول الأوروبية) في التعامل مع المهاجرين، لاسيما موجات التدفق الكبرى، ولعل التخلي الحكومي ليس دهاء بقدر ما هو تنكر لمهامه، إذا أراد من الأمن أن يواجه وضعين إشكاليين:
= مواجهة وضع ناجم عن سياسة تحت مسؤولية الحكومة، زاد من حدتها الشلل في التعامل مع دعاوى الهجرة.
= مواجهة سؤال الحقوق الإنسانية المتعارف عليها دوليا، بعد حل معضلة التدفق الهجري..بل المواجهة مع بنود دستور المغرب نفسه والثقافة التي اختارها الأمن لنفسه بالدخول في تفعيل توصيات هيئة الإنصاف والمصالحة والشراكة مع المجلس الوطني لحقوق الإنسان وفي التربية الداخلية على احترام السلامة الجسدية للمرتَفِقين…. والذي يتم تفعيله ..
10ـ لا يمكن أن نسلم بوجود نسبة كبيرة من القاصرين واعتبار الأمر طبيعيا!، ونحن نتفق أن مكانهم في المدرسة أو مراكز التكوين، لكن لا بد من أن نستحضر ما هو أمرّ، حتى إذا تلقوا التعليم الأعلى(أطباء، مهندسون أساتذة ممرضون..) لا شيء يضمن ألا تغريهم الهجرة في واقع بدأ يبدو أقل من الطموح الوطني المشروع؟
لا أحد يضمن أن نبقى صامدين أمام إغراء الهجرة، ليس فقط بسبب وجود ساحلين وبحرين يجعلاننا شعبا مفتوحا علي المحيطات والسفر والرحلات، بل لأن هناك نظاما سوسيو اقتصاديا يدعو إلى ذلك، لقد تزامن الحادث مع تنامي البحث عن الخروج، نظاميا أو غير نظامي ، ومن جهة الشرق أساسا، كما تزامن مع خروج أصدقاء في مواقع سوسيو مهنية في مستوى رفيع تركوا بلدهم إلى كندا وإسبانيا، كما تزامنت مع الأرقام التي نشرها المجلس الوطني لحقوق الإنسان عن 14 ألف مغربي طبيب يمارسون في الخارج (ثلث الأطباء)..وهو بحد ذاته وضع لا يسمح لنا بالتسابق نحو الذرائع! .
الكاتب : عبد الحميد جماهري hamidjmahri@yahoo.com - بتاريخ : 19/09/2024