عودة النيابة العامة الى حضن السلطة الحكومية 1/2

إن النقاش أو التداول حول الوضع القانوني للنيابة العامة في المجتمع هو أمر يتعلق بالخوض في القواعد والمنطلقات المبدئية التي تدخل في ما يمكن اعتباره ثابتا، بينما المتحول هو كل ما يتعلق بالأدوار المجتمعية الموكلة للنيابة العامة في وضع أو سن أو تدبير أو تنفيذ، حسب الحالات، للسياسة الجنائية.

تم تداول في وسائط التواصل الاجتماعي رسالة من الأمانة العامة للحكومة المؤرخة في 03/06/2024 تحت رقم 1176 تتعلق بمشروع قانون المسطرة الجنائية موجهة إلى أعضاء الحكومة قبل أن يعقد مجلس الحكومة لدراسته في اجتماعه في 26/06/2024. وهو الاجتماع الذي لم يصادق فيه مجلس الحكومة على ذلك المشروع وأخره من أجل تعميق الدراسة في بعض مقتضياته.
كما تم تداول في وسائط التواصل الاجتماعي، مرة أخرى، رسالة ثانية للأمين العام للحكومة موجه لأعضاء الحكومة تتعلق بنفس المشروع مع تعديلات على المادة 7 والمادة 265، قبل أن يعقد مجلس الحكومة اجتماع في 29/08/2024 ليصادق على ذلك المشروع وليقرر إحالته على البرلمان، كما تم تداوله إعلاميا.
وأن مشروع قانون المسطرة الجنائية، وإن كان يتميز عن مشروع لمسطرة المدنية بما حمله للمتقاضي من حقوق جديدة وضمانات للحق في الدفاع واستناده على خلاصات تقرير النموذج التنموي الذي أغفله مشروع قانون المسطرة المدنية، إلا أن هذا المقال سيقتصر على المستجد الجد مهم، وهو إعلان مشروع القانون لأول مرة في التاريخ القانوني للمغرب عن الجهة المكلفة بوضع السياسة الجنائية من جهة، وإعلانه عن عودة علاقة وزير العدل بالنيابة العامة من جهة أخرى.
بعد دخول دستور 2011 حيز التنفيذ، والذي نص في الفصل 116 منه على أن النيابة العامة هي تابعة لسلطة تشرف عليها وتراقبها وتقيم أعمالها غير أنه لم يحددها بالاسم، واعتبر البعض أن السلطة التي يتكلم عليها الدستور لا يمكن أن تعني إلا واحدة من السلطات الثلاثة التي ينظمها الدستور نفسه.
وبتاريخ 04/05/2013 بادرت إلى نشر مقال في بعض الصحف المكتوبة، وهي الاتحاد الاشتراكي وجريدة الصباح، تحت عنوان هو عبارة عن تساؤل، وهو : ماهي السلطة التي تستتبع لها النيابة العامة. وهو مقال حرر قبل صدور القانون التنظيمي المتعلق بالقانون الأساسي للقضاء الذي سيصدر في 24/03/2016، قبل صدور القانون العادي الذي سينقل اختصاصات الدعوى العمومية من وزير العدل إلى الوكيل العام للملك لدى محكمة النقض بصفته رئيسا للنيابة العامة. والذي صدر في 30/08/2017.
وهو المقال الذي سأستعين ببعض ما ورد فيه من أفكار ومعلومات نظرا لكونها أصبحت اليوم لها راهنتيها مع صدور مشروع قانون المسطرة الجنائية، وعلى الخصوص نصه بشكل علني وواضح على أن للحكومة احتكارا وصلاحية وضع السياسة الجنائية من جهة. وأعاد النص على قانونية علاقة وزير العدل بالدعوى العمومية وعلى تتبعه لعمل النيابة العامة من جهة أخرى.
من المفيد لنجاح أي تحليل أو معالجة لأي إشكال، سواء كان فكريا أو قانونيا أو دستوريا، أن يوضع له تأطير تفرضه قواعد المنهج وضوابط المنطق، حتى تكون المقدمات منسجمة مع النتائج والخلاصات.
وإن كان هناك، من موضوع يستلزم هذا التأطير الفكري هو الموضوع الذي يحاول أن يجيب عن سؤال استقلالية النيابة العامة في القانون المغربي، وهو الجواب الذي نستدعي له المقدمات التالية:

المقدمة الأولى:
أنه يجب استحضار أن النيابة العامة في المغرب انتقلت من الاستقلالية عن السلطات التنفيذية. وهي الاستقلالية التي أسس لها قانون المسطرة الجنائية لسنة 1959 في مرحلة أولى. إلى التبعية المسكوت عنها لهذه السلطات التنفيذية، وهي التبعية المضبوطة بالتعليمات الشفوية التي أسس لها قانون المسطرة الجنائية لسنة 2002 في مادته 51 في مرحلة ثانية، إلى استقلال تام عن الحكومة وعن وزير العدل التي أسس لها القانون التنظيمي المتعلق بالنظام الأساسي للقضاة في مادته 25 في مرحلة ثالثة، ليعيد مشروع المسطرة الجنائية الحالي عمل النيابة العامة إلى حضن الحكومة عن طريق احتكار هذه الأخيرة لوضع السياسة الجنائية. وعن طريق إعادة العلاقة مع وزير العدل في هذه المرحلة الرابعة.
وهذه المراحل الأربعة التي سيتم تناول بعض من التفصيل فيها في ما بعد.
المقدمة الثانية:
إن الحديث عن القواعد القانونية التي تنظم الوضع القانوني والدستوري للنيابة العامة يختلف جذريا عن الحديث عن القوانين التي قد تنظم بعض المهن سواء تعلق الأمر بمهن المحاماة أو الموثقين أو حتى بالمؤسسات العمومية. وأحيانا حتى القوانين المتعلقة بقضاء الحكم.
ومرد ذلك هو أن البحث في الأدوار المجتمعية للنيابة العامة هو بحث في صلب بناء الدولة. وهو ما يفرض الخروج من منطق الدفاع عن مصالح فردية أو جماعية أو اتخاذ مواقف سياسية من أغلبية أو معارضة من هذا الاتجاه أو ذاك. والتفكير من داخل صلب المسؤولية الجماعية لفهم هندسة بناء الدولة.
المقدمة الثالثة:
إن دستور 2011 ، والذي صادق عليه جل المغاربة، حسم في أكبر القضايا المركزية انطلاقا من مبادئ موجهة كان أولها تلك المنصوص عليها في الفصل الأول من الدستور. وعلى الخصوص الفقرة الثانية التي ورد فيها ما يلي:
“يقوم النظام الدستوري للمملكة على أساس فصل السلط وتوازنها وتعاونها والديمقراطية المواطنة والتشاركية وعلى مبادئ الحكامة الجيدة وربط المسؤولية بالمحاسبة”.
المقدمة الرابعة:
أن دقة موضوع استقلالية النيابة العامة وحساسيته هي نابعة من العناصر التالية:
1-نظرا لكون النيابة العامة موكول لها، مثلها مثل جميع النيابات العامة في جميع الدول، وفي إطار القانون، تنفيذ السياسة الجنائية لدولة معينة. أي ممارسة العنف المشروع. بما يتمثل في سلطة الحرمان من ممارسة بعض من الحريات الفردية والجماعية، وسلطتها في اعتقال الأفراد وفي منعهم من التنقل وغيره من الإجراءات التي تمس بحقوق الأفراد والجماعات الطبيعية.
2-ونظرا لكون النيابة العامة تمارس سلطاتها المتعددة تلك بطريقة انفرادية. ما دام لا يوجد أي نص قانوني ينص على أن النيابة العامة هي قضاء جماعي.
3-ونظرا لكون أعضاء النيابة العامة لا يمكن تجريمهم.
بعد هذه المقدمات سنحاول تقديم وجهة نظر حول الوضع الجديد للنيابة العامة الذي أتى به مشروع قانون المسطرة الجنائي، في علاقتها مع السلطة الحكومية وعلاقتها مع وزير العدل بالخصوص. وذلك عن طريق ملامسة إشكالية الأدوار المجتمعية للنيابة العامة من خلال طرح القضايا التاليـة:
1-علاقة النيابة العامة بالسلطة التنفيذية في الأنظمة القانونية والسياسية الأجنبية.
2-كيف انتقلت النيابة العامة في المغرب من الاستقلالية عن السلطة التنفيذية إلى التبعية.
3-العرض الذي يقدمه مشروع المسطرة الجنائية بخصوص الوضعية القانونية للنيابة العامة.
سنحاول، إذن، أن نلامس أجوبة وليس كل الأجوبة، للأسئلة أو الإشكالات التي تطرحها القضايا المشار إليها أعلاه، علما أن على الجميع أن يساهم بآرائه وأفكاره، إذ أن هذه المرحلة التي تمر منها بلادنا في حاجة ماسة لتعدد الآراء والأفكار حتى يمكن للجميع أن يستفيد ليس فقط من أحسنها، وإنما من جميعها، إذ أن الآراء التي يمكن أن توصف بكونها غير حسنة فإنها تصلح، في جميع الأحوال، كأداة للمقارنة.
1-علاقة النيابة العامة بالسلطة التنفيذية في الأنظمة القانونية والسياسة الأجنبية.
إن النقاش أو التداول حول الوضع القانوني للنيابة العامة في المجتمع هو أمر يتعلق بالخوض في القواعد والمنطلقات المبدئية التي تدخل في ما يمكن اعتباره ثابتا، بينما المتحول هو كل ما يتعلق بالأدوار المجتمعية الموكلة للنيابة العامة في وضع أو سن أو تدبير أو تنفيذ، حسب الحالات، للسياسة الجنائية.
ذلك أن وضع أو تدبير أو تنفيذ السياسة الجنائية هو الذي يقرر في تحديد مدى الأدوار الموكلة للنيابة العامة. لأن هذه الأدوار ليست محصورة في محاربة الجريمة فقط. لكنها مقررة كذلك في سياسة التنمية الاقتصادية والاجتماعية أي في السياسات المرتبطة والمؤثرة في الحياة اليومية للمواطن، وفي التحولات التي يعرفها المجتمع.
ومرد هذا الدور الفاعل في كل ذلك يرجع إلى كون النيابة العامة تملك استعمال العنف، وهو العنف الذي يجب على الأفراد والجماعات أن يقبلوا به دون أن يسمح لهم بمقاومته. وهو العنف الذي يسمى قانونا بالعنف المشروع أي العنف المستند إلى القانون.
فتشخيص هذا الواقع هو الذي سيمكننا من البحث عن أجوبة، وليس جوابا لأشكال الوضع القانوني والدستوري للنيابة العامة في المستقبل.
نحن نعلم بحكم التجربة وما نعايشه يوميا منذ بداية الاستقلال، أن أدوار واختصاصات النيابة العامة تتغير بقدر التحولات التي يعرفها المجتمع سياسيا واقتصاديا واجتماعيا.
فأدوار واختصاصات النيابة العامة هي مؤشر على التحولات التي يعرفها المجتمع، كما قد تكون في بعض الأحيان فاعلا مؤثرا في تلك التحولات وذلك التطور.
ويكفي أن أشير، حتى لا يظهر أن هذا الكلام فيه تعظيم لدور النيابة العامة، أن هذه الأخيرة، كمؤسسة ليست فقط موجودة وحاضرة وفاعلة في القضايا المرتبطة بمحاربة الجريمة، كالاعتداءات على الأشخاص أو الأموال أو الجرائم المنظمة كالإرهاب وغيره، بل هي حاضرة ومؤثرة، كذلك، في قضايا الشركات وفي القضايا العقارية وقضايا المرأة وقضايا البورصة وغيرها من مجالات الحياة اليومية، بل إن لدى وكيل الملك يتم التصريح بالجمعيات وإصدار الجرائد.
فالسؤال القوي الذي يجب أن يطرح بل والذي يجب ألا يكتفى بطرحه وإنما يجب البحث عن أجوبة له، هو هل هذه المؤسسة هي مستقلة أم تابعة، وإذا كانت تابعة فلمن هي تابعة، ويتولد عن هذا السؤال، سؤال آخر هو: وهل لا بد أن تكون تابعة لجهة ما؟
هذه، في تقديري، هي بعض الأسئلة والقضايا المهيكلة لفهم سليم للوضع القانوني للنيابة العامة في ظل دستور 2011. علما أن عدم تقديم أجوبة على هذا النوع من الأسئلة أو عدم تقديم أجوبة واضحة يجعلنا في منطق الغموض السائد اليوم والمرتبط بعدم معرفة الجهة المختصة في وضع السياسة الجنائية. وهو الغموض الواضح من صياغة المادة 51 من قانون المسطرة الجنائية الجاري به العمل التي تحدد من يبلغ وينفذ السياسة الجنائية، بينما لا تتكلم عن الجهة التي تضع تلك السياسة الجنائية.
لكن، من المفيد الإشارة إلى أن منطق الغموض الذي يلف من يضع السياسة الجنائية ليس دائما أمرا غير مقبول مجتمعيا وسياسيا، بل إن منطق الغموض قد يكون منطقا مقبولا لتدبير وضع صعب ومعقد، وليس لتسييره، سواء كان ذلك التدبير سياسيا أو مجتمعيا، وهو ما سنتطرق له في ما بعد.
لكن، وفي جميع الأحوال، سنجد أنفسنا أمام سؤال مؤسس آخر، وهو من هي الجهة التي تختص في وضع السياسة الجنائية التي تكون النيابة العامة ملزمة بتطبيقها، بعدما لف الغموض معرفة هذه الجهة بعد صدور قانون33.17 الذي نقل اختصاصات وزير العدل في الدعوى العمومية إلى الوكيل العام لمحكمة النقض بصفته رئيس النيابة العامة.
الجواب عن هذا السؤال يستدعى البحث كيف عالجت الدول الديمقراطية هذا الموضوع وكيف تغلبت عليه.
ذلك أن هذه الدول المتقدمة تستفيد من الفكر الإنساني والتطور العلمي وتطبقه في كل مجالات الحياة اليومية، ومما وقف عليه البحث العلمي اليوم هو القاعدة البيولوجية الثابتة القائلة بكون الوظيفة تخلق العضوLa fonction crée l’organe
في المجتمعات الغربية المبينة على قيم الحداثة والديمقراطية، عالجت هذا الإشكال بالبحث في مهمة ووظيفة النيابة العامة، لتحدد في ما بعد شكل وأدوار، والجهة التي ستتبع لها هذه النيابة العامة، وذلك بالبحث في ما يعرف بالسياسة الجنائية باعتباره التوجه الذي تقدمه السلطة التنفيذية والسياسية، باعتبارها ممثلة لإرادة الأمة ومنتخبة ديمقراطيا والمسؤولة أمام البرلمان، على العملية القضائية أو العدلية، كما تفعل بخصوص باقي القطاعات الأخرى الاقتصادية والاجتماعية المرتبطة بالحياة اليومية للمواطن الذي تمثله، فهي، أي السلطة التنفيذية، في جميع الأقطار الديموقراطية لا تتخلى عن قطاع مهم كقطاع العدل.
ففي دول مثل الدول الأوروبية عرفت نقاشا صعبا من أجل الوصول إلى جواب عن سؤال من يضع ويتحكم في وضع السياسة الجنائية، أي في نهاية المطاف: هل النيابة العامة مستقلة عن أجهزة الدولة وغير خاضعة لتوجهاتها الكبرى، أم أنها مؤسسة فاعلة في تلك التوجهات.
أن محاولة الجواب عن الإشكال المشار إليه أعلاه فرض على الفكر الحقوقي والسياسي الأوروبي أن يجيب عن سؤال الذي لابد منه، ألا وهو وجوب الفصل في الخلاف القائم حول دور النيابة العامة في تدبير السياسة الجنائية بالنظر إلى الوضع القانوني للنيابة العامة في علاقتها مع السلطات التنفيذية. وفي علاقتها مع وزير العدل، حسب التسلسل التراتبي والقانوني الذي يوجد فيه هذا الأخير.
واسمحوا لي بأن أعيد نقل ما سبق لي أن نشرته بخصوص هذه الإشكالية في جريدة الاتحاد الاشتراكي في العدد 9794 بتاريخ 27/5/2011 في مقال تحت عنوان “القضاء كسلطة في دستور 2011”
إن الازدواجية التي توجد عليها النيابة العامة هي التي وقف عليها السيد أندري فيتوANDRE VITU، وهو أستاذ بكلية الحقوق بنانسي، عندما خلص إلى أننا هنا أمام مفهومين متناقضين لدور النيابة العامة في فرنسا. المتمثل في الخضوع للتسلسل الإداري من جهة، والحرية في الحركة أي في تحريك المتابعة أو حفظها من جهة أخرى.
وبهذه الفكرة يلخص الأستاذ VITU جوهر الإشكال المؤسسي الذي تعرفه دولة من أعرق الدول في الممارسة الديموقراطية والقضائية، وهو إشكال يلقي بظلاله على النقاش الدائر حول الجهة المؤهلة شرعيا لوضع السياسة الجنائية، وهو الأمر الذي أكده، كذلك، البروفسور فرانسوا جاكوFRANCOIS JAQUOT عندما ذهب إلى القول إنه من الناحية التقنية والقانونية والسياسية، فإن موضوع الاستقلالية يدفعنا إلى الانكباب على دراسة تطور الأنظمة وعلى هياكل الديموقراطيات، وعلى العلاقة ما بين القانوني والسياسي. وكذا على وضع السؤال حول الخريطة الكلاسيكية لنظمنا الديموقراطية.
ويستمر في نفس النهج ليذهب للقول بأن غنى تلك الثقافة يبدأ من التحليل التقني لمؤسسات العدالة الجنائية لينتهي بتصورات دستورية وسياسية.
وبهذا يربط البروفسور JAQUOT ما بين السياسي والقانوني، في جدلية دائمة تكون متضاربة أحيانا ومتنافسة أحيانا أخرى.
وتذهب الأستاذة ميشال لوفر راسات MICHELLE LAVRE RASSAT وهي أستاذة مبرزة في جامعة باريس سبق أن أنجزت تقريرا حول إصلاح قانون المسطرة الجنائية، إلى أن النيابة العامة هي جهاز الربط ما بين السلطة التنفيذية والسلطة القضائية مكلفة بإسماع صوت الأولى لدى الثانية.
وتستمر في القول إن هذه الوضعية الغريبة للنيابة العامة هي نتيجة لخطأ تاريخي لرجال الثورة الفرنسية الذين لم يفهموا آنذاك جسامة الخطأ الذي سيرتكبونه وأثره على التحولات السياسية التي أنجزوها عندما حددوا الوضع القانوني للنيابة العامة وقرروا بأن ضباط النيابة العامة هو من أعوان السلطة التنفيذية لدى المحاكم (الفصل 1 من الكتاب 8 من المرسوم 24-16 غشت 1790). ولقد كان دافعهم إلى ذلك يرجع إلى أنه قبل الثورة كان لهؤلاء الضباط “لقب أعوان الملك لدى المحاكم”
وتعلق الأستاذة RASSAT على موقف رجال الثورة بأنهم هم من غير اسم ضباط النيابة العامة من أعوان الملك لدى المحاكم إلى أعوان للسلطة التنفيذية لدى المحاكم.
وتضيف السيدة RASSAT أنهم لو تنبهوا إلى أن مفهوم أعوان الملك كان يعني الممثلين للسلطة السيادية POUVOIR SOUVERAIN. وأنهم لو دققوا في الأمر لأعطوهم اسم ممثلي الأمة، وليس ممثل السلطة التنفيذية.
وتذهب RASSAT للقول إن هذه التسمية خلقت وضعا مزدوجا للنيابة العامة باعتبارها ممثلة للأمة، ذلك أن الأمة يعبر عنها بطريقتين: إما عن طريق التصويت على القوانين من طرف ممثلي الشعب من جهة، أو عند اختيار الحكومة من جهة أخرى.
وبهذا يصبح ضابط النيابة العامة “خادما لسيدين مختلفين”
SERVEURE DE DEUX MAITRES DIFDERENTS.
والخلاصة التي انتهت إليها الأستاذة RASSAT هي أن فصل السلط لا يعني تجاهل السلط
LA SEPARATION DU POUVOIR N’EST PAS L’INGNORANCE DU POUVOIR
وتضيف أنه إذا كان للحكومة الحق أن تسمع صوتها في قلب البرلمان الذي يتكون من ممثلي الأمة، فإن من حقها أن تسمع صوتها للسلطة القضائية.
وتظهر هذه الخلاصة الفكرية والسياسية الواضحة والمؤسسة، في الكلمة التي افتتح بها رئيس اللجنة البرلمانية الفرنسية التي استمعت لقاضي التحقيق الفرنسي في قضية ما عرف ب(قضيةd’Outreau) عندما واجه ذلك الرئيس قاضي التحقيق قبل بدابة الجلسة بالقول ما معناه: قد يتساءل البعض لماذا تتدخل السلطة التشريعية في السلطة القضائية، ويجيب رئيس اللجنة على السؤال الذي وضعه، وهو يتوجه إلى قاضي التحقيق، إذا كنت بصفتك قاضيا تحكم باسم الشعب الفرنسي فأنا أمثل الشعب الفرنسي …
وإذا كان هذا النقاش في فرنسا استطاع أن يصل إلى هذا النوع من التوافق على الرأي حول إشكالية دور النيابة العامة في علاقتها مع السلطة التنفيذية والسلطة القضائية فإن الوضع في بلجيكا لم يختلف بشكل كبير عن ذلك.
ذلك أن الدستور البلجيكي في الباب المتعلق بالنيابة العامة كان مشروع الفصل 137 منه ينص على ما يلي:
“النيابة العامة تمثل الجهاز التنفيذي في المجال الترابي لمحكمة الاستئناف …
وبعد النقاش الذي دار حول ذلك الفصل تم التراجع عن الصيغة المشار إليها أعلاه وعوضت بصيغة عامة خضعت هي كذلك لمبدأ التوافق وعدم الحسم، بل وتدبير الغموض، وأصبح الفصل 137 من دستور 1830 يقول إن النيابة العامة تقوم بأدوار تلقائية في المجال الترابي لمحكمة الاستئناف والمحاكم، لكنه، أي الدستور، احتفظ في الفصل 153 منه للملك بالحق في تعيين القضاة وعزلهم بشكل يحدده الوضع الدستوري للقاضي في بلجيكا.
وانطلاقا من هذا الوضع تقول السيدة كريستين دورين جاكوب CRISTINE DERENNE JACOBS ، وهي محامية وأستاذة بكلية الحقوق بلييج ببلجيكا، أن وزير العدل لا يمكنه أن يحل محل النيابة العامة في تحريك الدعوى العمومية، وأن تقاليد الاستقلالية هذه وصلت إلى حد منازعة وزير العدل في حقه في وضع خطوط للسياسة العدلية، على اعتبار أنها سياسة قضائية تدخل في اختصاص السلطة القضائية وليس السلطة التنفيذية.
غير أن التحولات التي عرفها العالم بعد سقوط الاتحاد السوفياتي، ونظرا لتحكم قطب وحيد في السياسة الدولية، وكذا بروز ظاهرة الإرهاب كعنف جديد عابر للقارات سيؤثر في إعادة صياغة نسق قانوني ومؤسساتي مختلف في اتجاه الحد من مجال تدخل السلطات القضائية لفائدة تدعيم تدخل السلطات التنفيذية.
وتقول الأستاذةASSAT في هذا الصدد إن تقرير لجنة التحقيق البرلمانية المؤرخ في30-04-1990 المتعلق بالإرهاب والجريمة قد قدم نظرة جديدة ونقدية بصفة خاصة للوضعية الحالية. معلنا انعدام وجود سياسة جنائية حقيقية وغياب المراقبة على النيابة العامة.
كما خلصت اللجنة إلى أن السياسات العامة المتعلقة بالأبحاث والمتابعات هي من مسؤولية الحكومة وعلى الخصوص وزير العدل، والتي يجب أن تكون مراقبة من قبل البرلمان وعلى وزير العدل انطلاقا من توجهات عامة أن يحدد للنيابة العامة الخطوط الموجة للسياسة الجنائية، وأنه يتحمل المسؤولية السياسية لذلك أمام البرلمان، بينما تطبيق هذه الخطوط الموجهة يرجع إلى النيابة العامة التي أعطاها القانون مهمة تحريك المتابعات، ويراقب وزير العدل حسن تطبيق تلك التوجهات.
وعندما ننتقل إلى ألمانيا سنلاحظ أن نفس النقاش بل وحتى الخلاصات التي انتهى إليها الفكر السياسي هناك هي متشابهة مع النقاش والخلاصات المشار إليها أعلاه. إذ يقول البروفسور هايك جانك
HEIKE JUNG، وهو أستاذ للقانون الجنائي في كلية الحقوق في ألمانيا، إن النيابة العامة يمكن أن تتوصل بتعليمات تتعلق بالتعامل الخاص مع قضية معينة وكذا السياسة الجنائية العامة. هذه التعليمات يمكن أن تكون داخلية كما يمكن أن تكون خارجية صادرة عن وزير العدل.
وعندما نطالع التقرير الذي أنجزه المجلس الوطني الفرنسي “البرلمان” المؤرخ في 18-06-1999 نلاحظ أنه أشار إلى أن لجنة TRUCHE قدمت توصيات إلى وزير العدل تدور حول الإشكالية التي نحن بصددها، إذ جاء في تلك التوجهات: أن وزير العدل هو الذي يحدد علنيا التوجهات العامة لسياسة الدعوى العمومية. ولكن لا يمكنه إعطاء تعليمات للوكلاء العامين في قضايا خاصة، لكن يمكنه التحاور DIALOGUER
معهم بخصوص هذه الملفات. كما يمكنه اللجوء إلى جميع الأجهزة القضائية وأن يبلغها ملاحظاته عن طريق قاضي أو محام عام.
كما نقرأ في تقرير لجنة القوانين، أنه من المشروع والضروري أن تحدد الحكومة تحت مراقبة البرلمان المبادئ الموجهة للسياسة الجنائية. وأن وزير العدل يخبر النيابة العامة بهذه التوجيهات قبل العمل على تطبيقها.
وأن هذا الفكر القانوني والسياسي هو الذي حكم التعديل الأخير للدستور الفرنسي الذي قدمه الرئيس ساركوزي سنة 2008 والذي أبقى على وزير العدل ضمن أعضاء المجلس الأعلى للقضاء.
هكذا نلاحظ أن النقاش حول من هي الجهة المؤهلة لوضع السياسة الجنائية، هل هي السلطة التنفيذية أم السلطة القضائية، قد حسم لفائدة الأولى.
أن هذا التوجه نجح بفضل استناده إلى مصدر الشرعية ومصدر السلطة أي إلى مصدر السيادة الذي هو الأمة.
وبما أن الحكومات في الدول المشار إليها أعلاه هي الممثلة للأغلبية البرلمانية، وبما أن البرلمان هو الممثل الشرعي لأفراد المجتمع، فإنه من المنطق الدستوري أن تتحمل السلطة التنفيذية مسؤولية وضع السياسة الجنائية والعدلية لتحاسب عليها أمام البرلمان، أي أمام ممثلي الأمة.
ويتبين من هذا النقاش أن التوجه انتهي إلى كون السلطة التنفيذية هي المكلفة والمسؤولة على وضع السياسة الجنائية لأنها هي التي ستسأل عنها أمام ممثلي الأمة.


الكاتب : عبد الكبير طبيح

  

بتاريخ : 21/09/2024