كانت القرية هادئة في ذلك الصباح الذي فرش زواله لأوجاع الموت… كان كل شيء يسير على طبيعته إلى أن زمجرت السماء وأطلقت خياشيمها سيولا وبردا زمهريرا في الأعالي… من كان يدري أن العجوزين السبعينيين اللذين كانا ينتظران قدوم ابنهما من الدار البيضاء ليزودهما بمؤونة الشتاء كانت مكالمتهما الهاتفية الصباحية معه آخر عهد لهما بصوته! وكأن بالصباح كان يعلم أن القدر سيخطفها فصفى لهما أجواء الحديث مع الابن البعيد دون أن ينقطع «الريزو»… كانت طلبات الأم المسكينة أن لا يثقل زيارته بالأحمال الزائدة إذ يكفيها أن ترى وجهه فقط وأن يلثم جبهتها، بينما كان الوالد يردد مرارا على مسمعه أن لا ينسى إحضار مكبر الصوت لمسجد القرية المنسية…
وعلى الطرف الآخر من الوادي المتقلب كانت أحلام طفل زفه عمره ليكون له أول موعد مع مقعد في المدرسة تتهادى إلى نهايتها غير المنتظرة، في الوقت الذي زفه الوادي عريسا غريقا إلى جانب والديه بينما الشاهد محفظته البسيطة التي تشبثت بآخر خيوط الأمل وهي متعلقة بأغصان شجرة جردتها السيول من أوراقها…
وفي عمق الوادي إلى الأسفل قليلا انكسرت أحلام فلاح بسيط كان قد أعد قطعته الأرضية الصغيرة ليبذرها ببعض الخضر الذي سيعتاش بها، فلا القطعة سلمت ولا روحه البريئة نجت، ولم يعد في قلب القطعة إلا معول يقف مائلا دليلا على خنجر أصاب كبد القرية بمجملها ، وحول أفراحها البسيطة إلى حزن مسترسل لم تسلم منه حتى تلك السيدة البسيطة التي كانت تتعاضد مع ابنتيها ليصمدن أمام عوادي الزمن، وهن ينقشن بأناملهن الجميلة زرابي ونمارق ليسوقنها، لكن الوادي ذي السيل الجارف جرف الحلم البسيط ونفش الصوف ونثر الأصباغ معلنا عن نهاية مأساوية أخرى صار الموت معها ميليمترا في تجاعيد البقعة المنكوبة ….
ليلة ليست كالليالي استعارت من الثامن من شتنبر ألمه الزائد لتوزعه على بسطاء الوطن مجددا، إذ بين زلزال وفيضان، تزايدت رائحة الثعالب النتنة التي لا تتذكر المنسيين إلا مع الفواجع… ذلك الأمل المشع من تلابيب الوديان الموحلة تضاءل مع تحول القرية إلى ما يشبه المقبرة الجماعية، فلم تعد معالم التجمع السكني البسيط قائمة، وصارت أنصاف المنازل في هوامش الوادي ترتكن على زاويتين: زاوية تتآكل أقرب إلى الانفصال على المنحدر، وأخرى في الهواء توهم الناظر أن المنزل قادر على الصمود كما سبق لتجار الانتخابات أن أوهموا عموم الساكنة المقبورة بغد أفضل، لن يكون، في الحقيقة، إلا ذلك الغد الذي عاشوا الألم قبله فتحقق لهم، وهم الآن في دار البقاء…
لم يكن حجم المأساة المسجلة تهمة على ظهر القدر بقدر ما كان تهما ثقيلة على ظهور من اغتنوا وفاتوا الاغتناء فحشا من بواطن هذه الأرض المكلومة، وهم ينخرون خيرات المناجم ويطلون من أبراجهم العاجية على المقابر الجماعية التي تحدث مرارا وتكرارا مع فواجع الطبيعة التي تغذيها، ويزيد من وقعها انعدام المسؤولية لدى القائمين على تدبير الشأن العام، إذ كلما ردمت هذه الفواجع قرية ومحتها من الوجود استأنفت نشاطها بمباركة الثعالب النتنة لتردم قرى أخرى، فتضيع أحلام البسطاء وتتكسر كما تكسرت أحلام العجوزين السبعينيين دون لقاء الوداع مع الولد البعيد، وأحلام طفل حلم بمقعد في المدرسة فأُقبر، وأحلام الفلاح البسيط والناسجات سياج الصمود بينما القدر والثعالب قد نسجوا أكفانهن… وفي جدران قلبي صوت يدوي: في أرض الذهب كل حلم مع الوادي ذهبَ.
(°)فاعل تربوي ومهتم بالإبداع الإجتماعي