أسمعُ في بلدٍ بعيد
مرثيّةً عن نفسي، كأنما القَدرُ
يعود إلى الوراء،
إلى أرض العواصف
هناك
حيث يترمّد العالم.
أستعير قوة النسيان
حجرَ اللطافةِ هذا- وأنا أسيرُ
صامتاً كما لو كان الكلامُ
يغفو في فمي.
أرضُ الحقيقة لا تُضاء إلا باللمس
بجرح يشقُّ صدر الليل
إلى أن يُـسمَعَ الصدى
تحت اللسان.
أسيرُ نائماً، أسيراً، بين نهرين
معذّبين،
تحت سماء لم تعد تقول شيئاً.
لا شمعةٌ في الطريق
ومرآتي تحطمت.
أمشي في ضوء أحلامي المراوغة
في كفّي رمادُ الندم
وعلى ظهري كيسٌ من الأسرار
يلمعُ كالذهب.
أجهلُ الكلمةَ
وتعلّمتُ الإشارةَ من كاهنٍ
حين قال لي:
«هناك
حيث يستيقظ الفجرُ
على طفولةِ الصحراء
ستكتشفُ في أحلامكَ بئراً فارغة
وخاتماً غريباً
في يد غريبة.
تمضي وأنت تجهلُ طريقَ العودة
وموتكَ هذه الليلة يابُنيّ
موتُكَ هذه الليلة
خال من الأزهار».
وعندما اختفى الكاهنُ فجأة، وتعلّق
ربما بغصن الأبدية، عرفتُ أنني
وُلدت
من ليل المغفرة
وأن المتاهة مازالت هناك
تطفو فوق بحيرةٍ عارية
وأن
لا أرض
تأويني
بعد
اليوم.
هكذا إذن
مصادفاتٌ تعكِسها حياتي التي
مَرتْ فوق سلالم نارية
في وديانٍ بعيدة، حتى فاضَ من صدري
دمُ الماضي
وأشرقتْ من قعر عينيّ
بروق الصبر.
كان الليلُ دليلي إلى الصّدفةِ، عندما ذهبَ
الجميعُ فاستيقظتُ على ملاكٍ يتأملُ في البرّيةِ
وحيداً،
يحُزّ عينيهِ خيطٌ رقيق من الإثمِ، يبوحُ
بسرّه، يبوحُ بسرّهِ طوال الوقت
في مرآة
أيامه الماضية.
وكنتُ خائفاً فحملني إلى جنة العصيان مُتمتماً:
«انظرِ الشجرةَ كيف تصغي إلى
طفولتها بقلبٍ صابر
انظر الأسماك كيف تُزهر في
مياه العزلة
وكيف يرنّ عند حافة النبعِ
خلخال الزمن».
أذهبُ إلى منتصف الأبدية وأعودُ لأسجدَ
على قمر الأقدمين، ناسياً بأن حياتي تعبرُ
كعُشب الليل
كنجمة
ضوؤها البعيد لا ينير حتى
سُرّة الأرض.
أمشي على حافة الجبل، في ظهيرة وديعة
أتذكرُ أسلافي العابرين، وكنتُ شبيههم
الأبعد. وكلما مشيتُ كنتُ أتعثر بظلالهم
الغريبة.
يمرُ أجملهم فلا يرى غيمتي
ذابلةً فوق السرير.
من نومي يرتفع عادةً
غبارُ الأرض
وتلك الذكرى الشبيهة الآن
بصدى يفتح الأبواب
ويضعُ الشعلة في فم
الطائر.
الفانوسُ تاج العائلة
وكنتُ أجهل أين يسقط الظل
وكيف تنسكب الحياةُ
مثل قطرة الزيت.
كنتُ أجهل أيضاً دمعة الراعي، حتى استفردتني
العزلةُ وأتاني المساء بأمومة حنونة وحملتُ
ذنوبي الكثيرة فوق أكتافي، حالماً بالوصول
إلى منفى الشمال.
بين عاصفة وأخرى، كان يظهرُ لي:
لهبُ الشمعة وأحلام الخشب القديم
تظهر الكلمةُ على باب مغلق.
الطرق المحرمةُ تظهر تحت أقدامي، يظهرُ
ملاكُ الفجر من النافذة.
يظهر الصمتُ في عينين نادمتين، يظهر
الزهّادُ المنفيون في
جبال بعيدة، يذكرونني بالمرأةِ التي
حلُمتْ بفردوس حياتها في أرض الأموات.
تظهرُ المرأة نفسها مثل حيوان جائع
يأكل عشب ماضيه.
تظهر حياتي كلها في مرآة الولادة.
أصلي كطائر الرّخِ في صحراء
لا يعرفها أحد.
يدي فوق سرير العالم ورأسي يرتطم
بالأبدية.
صرختي تعويذةٌ فوق قبر مفتوح وفي
عيون الآلهة يلمع غبار الأمومة.
هناك
في هدأة الليل، أسمعُ مرثيةً عن نفسي
صوتاً يرثُ كل آلامي على حافةٍ
تصّاعدُ منها
أنفاس القَدر