عند الحديث عن راهن البيئة المقلق وآفاقها المريبة والملتبسة بالعاصمة العلمية فاس، عند الحديث عن قفر المساحات الخضراء، وسبل حماية الجكرندا وصلاحيات الغرس وفلسفة التعامل مع الشجرة وكل أشكال النبات من أزهار وورود ورياحين، وأسماء ومسميات الشوارع والأحياء ودهاليز اللغة العربية، لا يمكن بأي حال من الأحوال تجاهل ونسيان عبد الحي الرايس، الرجل الذي سكنته البيئة حتى النخاع، واستدامته بعد أن عمرت في دمائه سنوات طويلة، أستاذ رائد من الرواد وخبير بالاخضرار المجالي تربة كانت أم لغة، وبكل تأكيد، ضليع في التعامل مع مختلف جوانبهما وتجلياتهما تأسيسا وتفاعلا.
إن الاستماع إلى آراء رجل حكيم متخم بالبيئة واللغة في العاصمة العلمية والاستئناس بملاحظاته وأوجاعه وارتباكاته وآفاق ارتياداته فضل عظيم في التواصل الاجتماعي، فضلا عن كونه مسلكا حيويا نحو فهم الظاهرة البيئية المعقدة من جميع جوانبها وأبعادها.
بيئة وتنمية مستدامة
ذ عبد الحي الرايس من مواليد 1944 بفاس خريج كلية الآداب والعلوم الإنسانية جامعة سيدي محمد بن عبد الله فاس، عمل كأستاذ لمادة الرياضيات ثم اللغة العربية، ثم مفتشا للغة عربية، فمفتشا مركزيا. أستاذ ومثقف كرس حياته لخدمة فاس كبيئة ومجال للتنمية المستدامة. وحمل مشعل الترافع عنها والدفاع عن تطلعات أبنائها وانتظاراتهم في كل المحافل داخل وخارج الوطن. ينير يقوي ويدعم المبادرات لتنهض وتواصل المسير. ولعل هذا ما يمكن رصده، وما لمسته شخصيا من خلال تدويناته وإسهاماته على حسابه الخاص بالفايسبوك، فالرجل موسوعي بكل ما في الكلمة من معنى، يحث على الاستمرار ومواصلة الطريق، يختار بثقة وحزم مسالك شفافة وآفاقا واضحة ومفيدة للغاية، سواء من الحياة أو قواميس اللغة.
بين الاحتضان والرعاية
لم يكتف الرجل بالمعاينة والنظر من بعيد، بل أنشأ وساهم على مسافة صفر، وعمل بقرب على تحفيز كل المبادرات البيئية النبيل، مؤسسا مجموعة من التجارب البيئية الخالدة، وله حضور وازن كفاعل أو شاهد في أغلب المحطات الخضراء. لقد كان وما يزال مواظبا على الحضور الفعلي والمساهمة الجادة بكثير من البذل والاجتهاد، ويمارس هوايته المفضلة في المقارنة بيننا وبين الآخر بيئة، ثقافة، لغة وحضارة. حاضنا تارة، وراعيا للعديد من الأنشطة الثقافية البيئية بالمنتدى المغربي للمبادرات البيئية تارة أخرى، مكرسا حياته لهذا المشتل الوطني العتيد الحاضن لكل فعل بيئي نبيل والحامل لمشاريع جالت سمعتها الآفاق.
فاس .. الأولويات والانتظارات
يتأسس منظور الأستاذ عبد الحي للبيئة بفاس على قاعدة أولويات وانتظارات، ناسجا على منوال شعار المنتظم الدولي شعار فاس «لا نَمْلكُ إلا أرضاً واحدة، ويُمكننا معاً حمايتها» نتساكن في مدينة واحدة، ويُمكننا معا الارتقاء بها». وانسجاما مع ذلك لا يكف عبد الحي عن مواصلة التذكير بانتظارات الساكنة الفاسية، وتحفيز طموحاتها في بيئة طبيعية مستدامة عبر لوحات موضوعاتية تتخذ الصورة والكلمة مطية لإيصال الخطاب إلى مُختلف الفاعلين وهو إلى جانب ذلك أحد المهتمين بالشأن البيئي، والغيورين على فاس، والطامحين إلى السير بها قدماً نحو استرجاع مكانتها كعاصمة علمية، ومدينة مستدامة خضراء. ومن طموحاته وأحلامه حديقة النبات بفاس كما يتصورها «مُتْحَفْ حَيٍّ، ومَعْرِضُ مُتجَدَدٌ للنباتات يشتغل عليه المُتخصّص الباحث، ويستفيد منه الطالب والمواطن، ويقصده المُولَعُ السائح تتنافس الدول والمدن في إحداثها، ورصد الأرض والاعتمادات لتهيئتها وتجهيزها وإبرام الاتفاقيات لتدبيرها، واستدامة صيانتها. وفي حديث آخر. مشروع حديقة النبات لفاسJardin Botanique de Fès) ) خُصصت له الأرض ورصدت له الاعتمادات وظلت اتفاقية التدبير والصيانة تراوح مكانها في انتظار إرادة جادة لوضعها موضع التنزيل والتفعيل. ومن محاور اهتمامه استرجاع صفاء مياه واد فاس تحويل ما بين اللواجريين والرصيف من طريق موحش إلى مسار مؤنس، تأهيل النقل والتنقل بفاس، وتحقيق مشروع تلفريك يصل بين البرجين، استثمار مكسب الغابات الحضرية العناية بأشجار التصفيف، استدامة الصيانة، وإحياء مكسب «فاس: صوت وضوء» رهان الشرفات المزهرة والإقامات الخضراء، افتقاد جداريات بمحيط مقر جماعة فاس مرجعيات لِلتَّمَلّي والتفعيل.
حكامة بيئية
أذكر أنه قال يوما خلال لقاء تواصلي بأحد الفضاءات بمدينة فاس» منذ أن تقلد مسؤولية المنتدى الذي تأسس سنة 2003 بعد أن كان يحمل اسم المنتدى الجهوي « ثم المغربي» للمبادرات البيئية، أن الهدف الأساسي هو تدبير الشأن البيئي بطريقة ناجعة سواء على المستوى الجهوي أو الوطني، مؤكدا أكثر من مرة أن الهاجس الأول هو تطوير المنظومة البيئية على عدة مستويات والرفع من مستوى الوعي بالشأن البيئي عبر إحداث أندية تربوية بيئية بالمؤسسات التعليمية العمومية والخصوصية عبر التواصل مع مكونات المجتمع المدني وكل المهتمين بالحقل البيئي محليا ووطنيا. ومنذ ذلك الوقت، لا يزال يشتغل وفق استراتيجية محكمة تسعى إلى تفعيل دور الشراكات والإسهام في إنجاح الحكامة المحلية مع جميع المهتمين والفاعلين كقوة اقتراحية في تنزيل كل ما يخدم البيئة ويساهم في الحفاظ عليها، رغم الإحباطات وغياب الدعم الكافي وإخلال بعض الأطراف بالتزاماتها.
تدبير للشأن المحلي بطعم بيئي
خلال انتخابه نائبا لرئيس المجلس البلدي لفاس 1983/1992، ثم نائبا لرئيس جماعة أكدال والمجموعة الحضرية لفاس 1997/2003. تقلد صفة مسؤول عن المساحات الخضراء، وأحدث ثورة في المجال بإطلاقه شعار»لكل حي حديقة» كما أنجز وساهم في إنشاء أغلب حدائق فاس، وأعاد الحياة لمستنبت الجماعة. وإلى جانب ما سبق فقد أطلق الأستاذ عبد الحي دينامية اللجنة المحلية والجهوية للسير والجولان، وأسس جمعية المنتدى المغربي للمبادرات البيئية وجائزته البيئية السنوية، وأحدث مع رفاقه مبادرة شرفات مزهرة.
وفي مجال فاس والسلامة الطرقية أسس جمعية موضوعاتية، ويعتبر الرئيس المؤسس لفيدرالية جمعيات السلامة الطرقية بالمغرب، كما أنه كان وراء توحيد تسمية شوارع وأزقة فاس، كل حي تحمل أزقته أسماء تيمة معينة الأزهار، المدن، الدول، الأئمة، الكتاب والفنانين…. وشارك في جميع محطات تجديد مدونة السير والندوات حول السلامة الطرقية والبيئة واللغة العربية.
وسطر المنتدى طريقة هادفة إلى تطوير خدماته عبر إحداث أدوات التواصل كالعهد البيئي التي تتضمن 10 وصايا موجهة للصغار والكبار، والتي تتوج بشعار «علي أن أبدا بنفسي ولا أنتظر». وقام بإصدار يومية سنوية تذكر بالأيام الوطنية والعربية والعالمية، وتبرز في الآن ذاته أعمال المتوجين بجائزة المنتدى السنوي التي يحرص على تنظيمها تزامنا مع اليوم العالمي للبيئة أو اليوم العربي للبيئة التي انطلقت سنة 2005، وقد تم تخليدها مؤخرا بجنان السبيل وحظيت بالفوز منها فعاليات مثل الإعلام الأخضر والإبداع الأخضر والمربي الأخضر. وقد سبق لي أن ظفرت بإحدى هذه الجوائز لعلها الحديقة الخضراء بالأكاديمية.
كما سبق للمنتدى كذلك أن قام بتوثيق كل الأعمال الذي قام بها من أشرطة وثائقية، كما اعتمد المرجعية التاريخية في الإعلان عن رابع يناير يوما سنويا لفاس وقعته عدة مؤسسات، الولاية، مجلس الجهة، والمجلس الجماعي، ومجلس عمالة فاس، وجامعة سيدي محمد بن عبد الله، والمجلس العلمي، والمنتدى. ويؤكد المنتدى المغربي حرصه على عقد شراكات مع مختلف المؤسسات التي تلتزم بالقضية البيئية من بينها جامعة سيدي محمد بن عبد الله بفاس والمديرية الإقليمية للتربية والتكوين والمنتدى العربي للبيئة والتنمية، علما أن المنتدى شارك في المؤتمر العاشر بالمنتدى العربي للبيئة والتنمية ببيروت يومي 2 و 3 نونبر 2017.
تدوينات ورسائل
تحبل الصفحة الرسمية على الفايسبوك للأساتذ عبد الحي بالعديد من التدوينات والرسائب بحمولاتها الغنية ومن بينها « لِلْمَرَّةِ الألْفِ نقولها: لن يتغيَّر ترتيبنا على سُلَّم التنمية، إلا إذا جعلنا التعليم أَوْلَويتنا، واللغة الوطنية أولى أدواتنا»، إلى جانب معادلتين وهما «تعليمٌ وتطْبِيبٌ وتشغيل = تَبَوُّؤٌ لأعلى مواقع التَّرْتيب» ثم « رِيعٌ وتجهيلٌ وتفقير = احتلالٌ لِأَدْنى درجاتِ التَّرْتيب».
ولأن الكلام بغنى مدلوله فقد كتب أيضا «المصائب مِحَك الرجال والكوارث مِحكُّ الدول»، مضيفا «على سبيل المقارنة: إثيوبيا اشتكت المجاعة في أواخر ق 20، وَفَّرَت الاكتفاء وصارت مُصَدِّرة للقمح في مطلع ق 21». ومن إشاراته الدالة نقتبس أيضا « صُرِفَ الكثيرُ على مسارٍ مُوحِشٍ في غابة ظهر المهراز، وَلَوْ صُرِفَ بَعْضُهُ في المسار المقابل لاَنْتَعَشتِ السياحةُ والاِقْتصاد».
لقد انخرط ذ عبد الحي مبكرا في العمل النقابي والسياسي (ن.و.ت، ات ش ق ش)، وكان كاتبا عاما للجمعية المغربية لخدمة اللغة العربية. مثّل المغرب في الجائزة الدولية للغة العربية بالإمارات العربية، وشارك ومثل المغرب في مؤتمرات ولقاءات دولية حول البيئة ببيروت، وبرلين، وباريس، واستنبول وغيرها. له عشرات المقالات حول البيئة، والسلامة الطرقية، واللغة العربية، والشأن المحلي، وهيكلة المدن في مختلف المجلات والجرائد الورقية والإلكترونية والبرامج الإذاعية والتلفزية. ساعد في إنجاز هذه الورقة الإعلامي محمد الحداد.