يتعين على أحزاب اليسار تجاوز النقاشات الأيديولوجية والتركيز على المصلحة العامة، مع الاقتناع بأهمية التحالفات كآلية ضرورية في هذه المرحلة لتحقيق النضج السياسي
-الإصلاحات الهيكلية، التي عجزت عن تحقيقها الحكومات السابقة، تعد رهانا أساسيا للقطب الاشتراكي لتجنب التراجع، وتصحيح المسار نحو التنمية المستدامة وتحقيق العدالةالاجتماعية
على ضوء هذه الظواهر السلبية التي نعيشها ،إلى أي حد ساهمت الدولة الاجتماعية في تلبية التطلعات المشروعة للمواطنين؟
بخصوص الدولة الاجتماعية، بادئ ذي بدء، ينبغي التأكيد على أن الأمر لا يتعلق فقط بمفهوم يتم التسويق والترويج له لغايات دعائية، كما ينبغي الانكباب على تحديد مضمون واضح لهذا الشعار. تطبيق مفهوم الدولة الاجتماعية، يجب أن ينطلق من تسليط الضوء على الفجوات في السياسات الموجهة للفئات الفقيرة والمهمشة، والإخفاقات في تقديم الحماية الاجتماعية، التعليم، والرعاية الصحية.
فرغم «الضجيج» الذي تحدثه الحكومة وهي تتحدث بإسهاب مريب عن إنجازاتها في مجال تنزيل «الدولة الاجتماعية»، فإنه لا يمكن إلا الإقرار بأن التنفيذ الفعلي لم يرق إلى مستوى التطلعات، فبرامج الدعم للفئات الفقيرة والمهمشة ظلت محدودة، وبطء تنفيذ السياسات الشاملة أدى إلى تعميق الفوارق الاجتماعية، كما أدى ضعف التنسيق بين الوزارات إلى تعقيد المشهد.
ورغم تحقيق بعض الإنجازات، مثل التعميم الإجباري على المرض الذي شمل حوالي 11 مليون مواطن حتى منتصف سنة 2024, لا تزال تحديات كبيرة تواجه تنفيذ هذا المفهوم بشكل فعال. التركيز على الحد الأدنى للدخل وتجاهل دعم الطبقات الوسطى يبرز غياب استراتيجية شاملة لتحقيق العدالة الاجتماعية إضافة إلى ذلك، أدى ضعف الإدارة العامة في تدبير الموارد إلى عرقلة تحقيق التنمية المجالية المتوازنة التي وعدت بها الحكومة.
وفي المجمل، رغم الإصلاحات التي تم الإعلان عنها في مختلف القطاعات، مثل الحماية الاجتماعية، الصحة، التعليم، والتوظيف، لا تزال التحديات الهيكلية تعرقل التقدم. حوالي 12% من السكان يعيشون تحت خط الفقر، مما يبرز استمرار التفاوتات الاجتماعية والاقتصادية. هذه التحديات تتطلب إصلاحات جذرية، وتحركًا حكوميًا أكثر فاعلية وشفافية وأكثر تقربا من هموم المواطنين.
هذه التحديات تتطلب إصلاحات جذرية، وتحركًا حكوميًا أكثر فاعلية وشفافية لتحقيق العدالة الاجتماعية والتنمية المستدامة، وضمان توزيع عادل للموارد بما يساهم في تقليص الفوارق بين الفئات الاجتماعية والمناطق الجغرافية المختلفة.
كباحث مختص في القانون العام الإقتصادي و السياسات العمومية هل يكفي الإعتماد على مشروع القانون المالي لسنة 2025، لإنقاذ الاقتصاد الوطني؟
للإجابة على هذا السؤال، يجب استحضار التحديات الاقتصادية التي تواجه الحكومة، مثل التضخم والبطالة، والمديونية، ومدى قدرة مشروع القانون المالي الجديد في تحقيق التوازن المالي وتحفيز النمو الاقتصادي، بالإضافة إلى تحسين كفاءة الإنفاق العمومي والخاص.
يعاني الاقتصاد المغربي من ضغوطات كبيرة ناتجة عن ضعف الاستثمارات، ارتفاع التضخم، والعجز التجاري المتزايد، مما يجعل مشروع القانون المالي لسنة 2025 اختبارًا حقيقيًا للحكومة. رغم التوقعات الكبيرة المصاحبة لهذا المشروع، تثار تساؤلات حول قدرة الإصلاحات المقترحة على تحقيق نتائج ملموسة. المشروع يتضمن خططًا لتعزيز الاستثمار الخارجي وتحسين مناخ الأعمال، ولكن غياب استراتيجية واضحة لمعالجة البطالة والفقر قد يعوق تحقيق الأهداف المرجوة. كما أن معالجة الديون المتراكمة وضمان الشفافية في إدارة الموارد المالية يشكلان تحديات إضافية.
تسعى الحكومة من خلال مشروع القانون المالي والتعليم، والسكن، إلى جانب تطوير البنية التحتية لتحسين جودة الحياة وخلق بيئة جاذبة للاستثمار. السؤال المطروح هو: لماذا لم تلجأ الحكومة إلى هذه التدابير في القوانين المالية السابقة؟ وهل كانت الأولوية السابقة هي إثقال كاهل المواطنين بالضرائب المباشرة وغير المباشرة؟
إلى ترشيد الإنفاق العمومي، عبر تقليص النفقات التشغيلية غير الضرورية مثل استهلاك الماء والكهرباء في الإدارات، وتخفيض نفقات السفر والمؤتمرات، ليتم توجيه الموارد نحو قطاعات حيوية كالصحة
اقتصاديا الجواب بلا، لان الحكومة ما تزال تواجه تحديات في ضبط العجز المالي وتقليص الدين العمومي. رغم الجهود المبذولة، يبقى العجز بين الإيرادات والنفقات تحديًا كبيرًا. الحكومة تهدف إلى استثمار مستدام يدعم النمو الاقتصادي ويحسن الخدمات العامة.
فيما يتعلق بالتشغيل، يعاني المغرب من ارتفاع معدلات البطالة، خاصة بين الشباب، حيث تتجاوز نسبة البطالة 14 %. ورغم إطلاق برامج مثل «برنامج أوراش» الهادفة إلى توفير فرص عمل مؤقتة، إلا أن تأثيرها لم يكن كبير ًا نظرًا لاعتمادها على وظائف مؤقتة تفتقر إلى الاستقرار المهني المطلوب، مما يجعلها غير كافية لحل مشكلة البطالة بشكل مستدام.
تحسين البنية التحتية يعتبر جزءًا أساسيًا من استراتيجية التنمية، حيث خصصت الحكومة استثمارات كبيرة لمشاريع النقل والصحة والتعليم. ومع ذلك، لا يزال التفاوت الاجتماعي والاقتصادي بين المناطق الحضرية والقروية قائمًا، مما يعوق تحقيق التنمية الشاملة.
سعي الحكومة لمعالجة هذه التحديات يبقى رهين بالقيام بإصلاحات هيكلية متعددة، تتطلب موارد كبيرة لتحقيق نتائج ملموسة. في هذا الصدد، يشكل تحسين كفاءة الإدارة وتعزيز الحكامة جزءًا مهمًا من الحل، لكن التحدي الأكبر يبقى في تحويل هذه الخطط إلى نتائج فعلية تلبي تطلعات المواطنين وترفع من مستوى معيشتهم، وهو الامر الذي تفتقده الحكومة الحالية.
ما هي التداعيات أزمة الصحة والتعليم التي تتفاقم يوم بعد يوم ناهيك عن غياب الحوار الاجتماعي؟
يشهد كل من قطاع الصحة والتعليم في المغرب تدهورًا ملحوظًا نتيجة نقص الموارد وضعف الكفاءة في تسييرهما، مما ينعكس بشكل مباشر على جودة الخدمات المقدمة للمواطنين. في قطاع الصحة، يعاني المواطنون من نقص حاد في الخدمات الأساسية وضعف التجهيزات في المستشفيات. على سبيل المثال، يبلغ عدد الأسرة في المستشفيات العمومية حوالي 1.2 سرير لكل 1,000 نسمة، وهو رقم بعيد عن المعدلات الموصي بها دوليًا. كذلك، هناك نقص في الكوادر الطبية، حيث يبلغ عدد الممرضين حوالي 0.7 لكل 1,000 نسمة، مما يزيد من الضغط على المستشفيات ويؤدي إلى تأخير طويل في مواعيد العلاج. العاملون في القطاع الصحي يعانون أيضًا من غياب التقدير المادي والمعنوي، حيث لم تشهد أجورهم زيادات تتناسب مع حجم الجهد المبذول.
أما في قطاع التعليم، فتتفاقم الإشكاليات نتيجة تراجع جودة التعليم، وزيادة معدلات الهدر المدرسي، خاصة في المناطق القروية. تشير الإحصائيات إلى أن معدل الهدر في التعليم الإعدادي يبلغ حوالي 12% سنويًا، مع ارتفاع هذه النسبة بشكل ملحوظ في المناطق النائية. بالإضافة إلى ذلك، لا يزال 32% من السكان الذين تزيد أعمارهم عن 15 عامًا يعانون من الأمية، ما يعكس ضعف النظام التعليمي وعدم ملاءمة المناهج الدراسية لمتطلبات العصر الحديث وسوق العمل.
من جانبها، أظهرت الحكومة فشلًا واضحًا في فتح قنوات حوار جاد مع النقابات لحل هذه الأزمات، حيث لم يتم تفعيل الحوار الاجتماعي بالشكل المطلوب. هذا التجاهل لمطالب النقابات والعاملين في هذه القطاعات أدى إلى تعطل العديد من الإصلاحات الضرورية، وزيادة الاحتقان الاجتماعي، كما أسهم في تأجيج الاحتجاجات والإضرابات التي شملت قطاعات حيوية مثل التعليم والصحة. استمرار هذا التجاهل من شأنه أن يزيد من تفاقم الأوضاع ويعوق تنفيذ الإصلاحات المطلوبة لتحسين الخدمات العامة.
لنعرج على مسألة كأس العالم 2030، هل هو فرصة لتعزيز الاقتصاد أم اختبار صعب للحكومة ؟
في الواقع، الحديث عن هذا الموضوع مناسبة للتذكير بأهمية تنظيم كأس العالم 2030 للمغرب، مع ضرورة تسليط الضوء على الاستثمارات الضخمة المطلوبة في البنية التحتية والنقل والسياحة، والتحديات التي تواجه الحكومة في تلبية هذه المتطلبات في ظل الإخفاقات الحالية.
مع اقتراب تنظيم كأس العالم 2030 في المغرب، تزداد الحاجة الملحة لتحسين البنية التحتية على كافة المستويات لضمان نجاح هذا الحدث الدولي الكبير. يتطلب التنظيم تجهيز ما لا يقل عن 8 إلى 15 ملعبًا دوليًا موزعة بين المدن الكبرى مثل الرباط، الدار البيضاء، طنجة، مراكش وأكادير، وفاس، ومكناس، وتطوان، والحسيمة، والعيون بميزانية تقديرية تقدر بالمليارات درهم. بالإضافة إلى ذلك، يجب تطوير شبكات النقل العمومي والخاص بما في ذلك القطارات فائقة السرعة والنقل الجماعي الحضري، مع توقعات استثمارية تفوق المليارات من الدراهيم.، لتشمل محطات الحافلات، والسكك الحديدية ،والمطارات والطرق. من المتوقع أن تستقبل المدن المستضيفة ما يقرب من 2 إلى 3 ملايين زائر دولي، وهو ما سيستلزم استثمارات بمليارات الدراهم لتوسيع الفنادق وتحديث مرافق الضيافة والمنتجعات السياحية والترفيهية.
الجميع يراهن على الإنتخابات المقبلة لإعادة النظر في عدة إشكالات التي تواجه المغرب ماهو دور أحزاب اليسار والأحزاب الديمقراطية سيما الإتحاد الإشتراكي للقوات الشعبية في إنجاح هاته المحطة الإنتخابية ؟
مع اقتراب انتخابات 2026 و2027، تزداد أهمية أحزاب اليسار والأحزاب الديمقراطية في إعادة التوازن للمشهد السياسي المغربي. يأتي الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية في مقدمة هذه الأحزاب، لما له من تاريخ طويل في الدفاع عن العدالة الاجتماعية وحقوق المواطنين. في ظل تصاعد الاستياء الشعبي من السياسات الليبرالية، يمكن لأحزاب اليسار أن تلعب دورًا حاسمًا في إحداث التغيير المنشود، شريطة قدرتها على تقديم برامج اقتصادية واجتماعية تعزز العدالة وتحمي كرامة المواطنين، وتعيد ثقة الشعب في العملية السياسية. من الضروري أيضًا إشراك الشباب والفئات المهمشة في الحياة السياسية وتحفيزهم على المشاركة في الانتخابات.
الأزمات التي شهدتها مدينة الفنيدق تعكس حاجة ملحة لحلول اقتصادية فعالة، حيث أدى غياب التدخل الحكومي وتفاقم الأوضاع الاجتماعية إلى تصاعد الاحتقان وتعميق الرغبة في الهجرة. في هذا الإطار، يعد الاتحاد الاشتراكي قوة محورية في تحريك المشهد السياسي، وقد سبق له أن لعب دورًا رئيسيًا في الدفاع عن حقوق الفئات المهمشة وقيادة محطات مفصلية في تاريخ المغرب، مثل حكومة التناوب في التسعينيات. إلا أن التغيرات الراهنة تفرض عليه تقديم برامج مبتكرة تركز على العدالة الاجتماعية وتواكب تطلعات الأجيال الجديدة.
لتعزيز موقعه السياسي، يجب على الاتحاد الاشتراكي قيادة الحركات التقدمية والديمقراطية، مع بناء تحالفات قوية بين القوى اليسارية والديمقراطية، تعتمد على برنامج انتخابي مشترك يقدم بدائل للسياسات الليبرالية التي تزيد الفوارق الاجتماعية. لم تعد الوحدة بين أحزاب اليسار خيارًا، بل ضرورة استراتيجية لمواجهة التحديات الراهنة، خصوصًا مع تعمق معاناة الفئات الضعيفة نتيجة السياسات النيو ليبرالية.
لتحقيق النجاح في الانتخابات المقبلة، يجب على أحزاب اليسار تجاوز الخلافات الأيديولوجية والاتفاق على برنامج مشترك يُركز على العدالة الاجتماعية والاقتصادية. كما يتعين تعزيز الديمقراطية الداخلية والتواصل المستمر مع المجتمع المدني والنقابات، مع الاستفادة من التجارب الدولية الناجحة في الإصلاحات الاجتماعية والاقتصادية بما يناسب الخصوصية المغربية.
بالإضافة إلى التحالفات السياسية، يجب أن يلعب الاتحاد الاشتراكي دورًا فعالًا في البرلمان، سواء في الحكومة أو المعارضة، من خلال مساءلة الحكومة ومراقبة أدائها لضمان الشفافية والمساءلة، خاصة في ظل الأزمات الراهنة.
يجب استحضار منجزات حكومة التناوب التي قادها عبد الرحمان اليوسفي، التي نجحت في إنقاذ المغرب من «السكتة القلبية» في تسعينيات القرن الماضي، وتقديم إصلاحات هيكلية أعادت الثقة في المؤسسات. التحالف التاريخي بين الاتحاد الاشتراكي وحزب التقدم والاشتراكية يمثل نموذجًا لبناء قطب يساري تقدمي يمكنه تقديم بديل سياسي فعّال ومتكامل.
في هذا السياق، يتعين على أحزاب اليسار تجاوز النقاشات الأيديولوجية والتركيز على المصلحة العامة، مع الاقتناع بأهمية التحالفات كآلية ضرورية في هذه المرحلة لتحقيق النضج السياسي، والعمل بشكل مرحلي على توحيد الصفوف من أجل مواجهة التحديات وتحقيق العدالة الاجتماعية. خلاصة القول ان مواصلة تعزيز ركائز الدولة الاجتماعية وتوطيد دينامية الاستثمار وخلق فرص الشغل، إلى جانب المضي قدمًا في تنفيذ الإصلاحات الهيكلية التي عجزت عن تحقيقها الحكومات السابقة، يعدان رهانًا أساسيًا للقطب الاشتراكي لتجنب التراجع وتصحيح مسار البلاد نحو التنمية المستدامة وتحقيق العدالة الاجتماعية.