أعترف بأن هوايَ لبناني: الحديقة الخلفية للشهداء!

عبد الحميد جماهري

اطردِ الغزاة سريعا وعُدْ إلينا..
بُحة في صوت فيروز

تدربنا على توصيف قوة لبنان بضدها:هكذا تعودنا القول بأن قوة بلاد الأرز في ضعفها، كما لو أن اسم الشجرة لوحده رقيقة تحصين بالاسم الأعلى.
كل الذين زاروا لبنان يتفاجأون: كيف لهذا البلد الجميل للغاية أن يدخر كل هاته التراجيديات.
كل الذين ربت فيروز هويتهم العاطفية، وربت ذائقتهم الفنية، لا يصدقون أن هذا الصوت السماوي نبت في أرض مليئة بالأعشاب الضارة في تضاريس الملحمة!
لهذا، حين نريد أن نفكر ببعض من الواقعية، تقفز إلى ذهننا الطوائف، وكلما حاولنا أن نعرف لبنان في الجيوسياسة، يلزمنا كلاشنيكوف، وأن ننسى أنسي الحاج وخليل حاوي وننسى فيروز!
كان الأولى بالعرب، أو بالعالم كله ألا يجعلا من لبنان أرضا للسياسة، بعيدا عن توازنات القوة والوسواس الإسرائيلي…
لبنان في تقسيم العمل الديني، توجد بالقرب من الجنة!
الفردوس الذي لا يختصم حوله الأنبياء، كان أتباعهم يغادرون القدس وأورشليم لكي يشهروا السلاح على بعضهم في لبنان.
لكن لبنان يريد أن يكون وطن القصائد والجميلات والأغنيات…طالما فاجأني السؤال: كيف تحب لبنان وتفكر في الحرب؟
حتى الغزاة الذين زاروها في تاريخ بعيد: كانوا يدركون أن بلاد الفنيقيين مرفأ للتوجه إلى العالم. وأنها بلاد لا يمكن أن تصنع شيئا آخر غير. الشموع والجميلات..
لكن لبنان الذي وضعته فيروز جارا للقمر، اختاروا له جوار الجحيم؟ كيف تطل من شرفة عامرة بالورود على الدرك الأسفل من الجحيم؟
الجواب: أن تكون جار فلسطين. وجار المقدسات، وأن تكون ملتقى الطرق بين الماضي والحاضر والمستقبل.
وأن يكون الغد احتمالا من بين احتمالات أخرى كثيرة: حرب أهلية، الطوائف، الاحتلال المدجج بالحضارة الغربية، الثوابت، المقدسة وغير المقدسة، الكتاب الرائعون، الفنانون المهيأون للاغتيال..
من لا يشعر بأن عليه أن يعود بسرعة إلى السماء وهو يقرأ تاريخ لبنان، عليه أن يتأكد بأن الخطيئة التي لن ينساها هي أن يبقى بعيدا عن الجوهر من الحياة: لبنان هو هذا الطريق المرصوف من قصيدة إيليا أبو ماضي إلى جوار الله!
كلما اندلعت الحرب في لبنان فقدت القدرة على التحليل، لأنني في الواقع أشعر بأننا ابتعدنا أكثر عن .. فلسطين!
الحرب في لبنان يعني أن فلسطين نزلت دركا آخر في بطن التنين! لهذا يجب أن تنتهي الحرب في لبنان لكي يصبح الأمل في فلسطين ممكنا.
من غريب الحواس عندي أنني لا أشبه سحب قريتي البعيدة، الصغيرة بين جبلين ، إلا بهواء لبنان: الأرsز نفسه والسحب نفسها فوقها راية الضوء نفسه أيضا، في صوت فيروز وفي قصيدة جبران خليل جبران،..من بيروت، يعود الزوار بالمشتريات لكني عدت منها بورود شارع الحمراء، ومطعم الصياد، ولكنة الجميلات في حانة الماندالون.
آه يا بيروت، أيها المكان الهوية،في وعي الرومانسية، أكبر أنت من جدول الحرب في السياسة!
وأطهر من نشيد طفولي ومن . ضوء العنب، . ومن برد قاسيون المنعش في موسم للعزاء!
وكم يحسن ترديدها على لسان الفلسطيني الشاعر أو القائد،
كما لو أنك الجلجلة الضرورية ليجد المسيح طريقه إلى التقديس..والناصري سبيله إلى الكرسي في الأعالي.
لهذا كانت بيروت دوما صدى الحصار عند محمود درويش، وانصهار الأنواء في اللغة عند معين بسيسو..
وإن لبنان جار فلسطين، نريده دوما، شعوريا أو لاشعوريا، الجنة الخلفية ليرتاح الشهداء،
حديقة البيت التي تستقبل المسنين والأطفال الذين قتلوا قبل أقدارهم التامة..كما كل دول العالم لازلت أشعر أنني لم أستنفد كل الضوء في لبنان ولم ألتهم كل التفاح ولا استوفيت كل الحب.. أنني لم أحتفظ من التراب بكل معادنه!
من كل القصص أذكر رحلاتي إلى لبنان، بعواطف خاصة، متشابكة مثل دغل أبوي، ومتصادمة مع بعضها مثل شلال..لي فيها قصائد تنتظر مني أن أسرقها بشعور لص ظريف مثل أرسين ليبان، أوزعها من بعد على العشيقات. وكل المصابين بفقر العاطفة!
إني أنزهك يا لبنان عن قاموس السياسة، وعن مرادفات الطوائف، إني اخترتك يا لبنان، شرفة للملائكة.
اطرد الغزاة سريعا وعد إلينا.. بحة في صوت فيروز..

الكاتب : عبد الحميد جماهري - بتاريخ : 03/10/2024