بقدر ما ساهم صلحاء الأطلس، حسب كلنير، في إجبار القبائل على الاحتفاظ بالاستقلالية السياسية والمجالية؛ بقدر ما ساهم هؤلاء في تشكل ما سماه ب»الجمهوريات الديمقراطية»
انشغلت الأنثربولوجيا الأنجلوساكسونية في مغرب الاستقلال بأسئلة السلطة والنفوذ. تُطلعنا التآليف الأولى على حقيقة الأسئلة التي طُرحت في هذا السياق. من يحكم في المغرب؟
في الحقيقة، لا يُمكن الوقوف عند حدود السؤال في حد ذاته، بل يمكن اعتباره مدخلا لفهم طقوس العبور التي بدأت تتشكل في المغرب خلال فترة الحماية؛ من المجتمع التقليدي إلى المجتمع العصري من جهة، ومن رصد مُجمل التحولات الاجتماعية والسياسية التي صاحبت الموجة التحديثية الكولونيالية في مغرب الحماية والمعيقات القبلية التي اعترضتها من جهة ثانية. والحديث عن سِجل الأنثربولوجيا الأنجلوساكسونية هو لحظة للتوقف عند واحد من أبرز أعلامها. يتعلق الأمر ب «إرنست ݣلنير» Ernest Gellner الذي سبق له أن عاين قبائل أيت عطا ونفوذ زاويتها الروحية «أحنصالة»…كلنير هو من أدخل لفظ المْرَابْط أو المارابو إلى قاموس علم الاجتماع القبلي في دراسته لصلحاء الأطلس…بين علاقة قبائل أيت عطا والزاوية الحنصالية وشائج قد تُشجع البعض على التسليم بوجود نموذج انقسامي مثالي على النحو الذي عثر عليه بريتشارد في قبائل النوير بالسودان، وكاميل لاكوست دي جاردان في القبايل بالجزائر…
وبالعودة إلى الواقع التاريخي، فقد تهيأ للزاوية الحنصالية حضور وازن في اتحادية أيت عطا، بحكم اتصالها الجغرافي، لأنها تقع في منطقة عبور واتصال؛ عبور بين السهل والجبل، واتصال مع نمطين مختلفين في العيش، نمط الاستقرار ونمط الرحل…تبعا لذلك، تكلفت الزاوية بتدبير الماء بين العالية والسافلة وأيضا بتدبير المراعي الخصبة في مستوى أعلى من التنظيم.
من يتعمق في ما كتبه كلنير لا يجد صعوبة في ضرورة الإقرار بأنه يأتي في سياق التراكم الأنثربولوجي الذي كان قد بدأه روبير مونتاني، لسبب وجيه، يتعلق باختبار ݣلنير لفرضية اللَّف من أجل تفسير حركية المجتمع المغربي…قبلها كان مونتاني مع منتصف الحماية في البلاد قد وضع الدعامات الأولى لنظرية اللَّف في ما وصفه ب»الجمهوريات البربرية» والتي تنتقل من أسفل إلى أعلى، أي من الوحدة الصغرى إلى الدوار، ومنها إلى الكونفدرالية…
طبيعي أن ينصرف الاهتمام في جانب من نظرية اللَّف صوب الأعيان المحليين في المجتمع القبلي الماقبل الكولونيالي.
يقترح ݣلنير وصفهم ب»أسياد الأطلس»، وهم أصحاب شطط ونفوذ، وجاهة وعلاقات…وبقدر ما ساهم صلحاء الأطلس حسب كلنير في إجبار القبائل على الاحتفاظ بالاستقلالية السياسية والمجالية؛ بقدر ما ساهم هؤلاء في تشكل ما سماه ݣلنير ب»الجمهوريات الديمقراطية».
مع كلنير يُمكن أن نَتلمس حدوث النقلة الأنثربولوجية في مدارات الانشغالات البحثية، من دولة الأسياد القبليين إلى دولة أسياد الأطلس القداسيين. باختصار، من دولة الأمغار القبلي إلى دولة الإݣرامن أو الصلحاء كما يقترح الباحث المغربي نور الدين الزاهي…
من خلال هذه الجُزئية الدقيقة، يُدقق ݣلنير أكثر في دراسة الزاوية الحنصالية بالتركيز على وظيفة التحكيم التي مارستها داخل النسيج القبلي. هنا بالذات، يتميز ݣلنير عن الآخرين، هنا أيضا يختلف عن مونتاني في النظرة إلى المجتمع الانقسامي، بحكم أنه عاين في قبائل أيت عطا مجتمعا يعترف بالتراتب، ويُؤمن بتقسيم العمل والزعامة، لكنه يدافع عن قيم المساواة، ويتفادى استعمال العنف حتى لا يسمح بتركز السلطة في اتجاه مُعين دون آخر…بهذا، يَظهر مجتمع أيت عطا وكأنه مجتمع مُشَيَّد من حيث البناء من صلحاء يراقبون سلطة الزعيم القبلي، ويتدخلون دوما لإعادة التوازن حتى تتحقق استمرارية النسق.
لقد كانت مهمة الحنصاليين، على النحو الذي يُحدده ݣلنير، ضمان سير النسق التجزيئي عبر القيام بمهمة التحكيم والوساطات.
يُشركنا ݣلنير في الفكرة التي تدعي بأن صلحاء الأطلس تكلفوا بمهمتين أساسيتين: الأولى سياسية من خلال الحفاظ على استقلالية القبيلة عن السلطة المركزية، والثانية ثقافية من خلال منح القبيلة إمكانية الحفاظ على ثقافتها وعوائدها المحلية.
الخلاصة العامة التي حاول ݣلنير أن يتقاسمها مع مجتمع البحث تُقر بأن الزاوية الحنصالية التي كانت مُختبر المعاينة والبحث كانت طرفا في عملية الانتخاب وليس التعيين، في الوساطة والتحكيم وليس التزكية والدعم…
حينما نُجَمع هذه الخلاصات نصل إلى أن البِنيات الانقسامية التي شَيَّدها ݣلنير كانت تتفادى تركيز السلط في يد الزعيم القبلي، وتُخضع سلطة الزعيم إلى سلطة الصلحاء. وهي علاقة تبادل مصلحي، حيث القبيلة تسند الزاوية، والزاوية تحمي القبيلة روحيا…
عموما، فرضية ݣلنير جديرة بالاهتمام، ويُمكن أن تعيد قراءة تاريخ المغرب قراءة جديدة، قراءة تنطلق من محورية حقل المقدس في ضبط انتظامات الحركية التاريخية في مجالات الهوامش والأطراف.