منذ التحاقي بجريدة «الاتحاد الاشتراكي»، كمراسل من خنيفرة، خلال ثمانينيات القرن الماضي، تعرفت على الراحل المهدي الودغيري، ولم أكن أتوقع أن ترتقي علاقتنا المهنية إلى صداقة موشومة بكل ما هو إنساني عميق، سواء بخلفية الثقة المتبادلة أو بحكم النشاط الإعلامي لمَّا كانت البلاد تعج بالقضايا والتحولات والأحداث الكبرى، في ظروف وصراعات استثنائية كانت الكتابة فيها تشبه شكلاً من التزحلق على حد السيف أو اللعب بالجمر، ومن هنا يكون تخليد ذكرى رحيل الودغيري بمثابة استحضار لحكاية صحفية بطلها رجل رحل واقفا في مهمة إعلام القوات الشعبية.
في الثالث من أكتوبر من كل سنة، أتذكر، بمرارة وحزن، رحيل صديقي الصحفي، الزجال والقاص، المهدي الوغيري، الذي ودعنا مبكرا، صباح الخميس 3 أكتوبر 2002، بإحدى مصحات الدارالبيضاء، إثر حادثة سير خطيرة تعرض لها، وهو في طريق عودته من تجمع خطابي نظمه «الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية»، بقاعة محمد زفزاف بالمعاريف، برئاسة المجاهد الراحل ذ. عبد الرحمان اليوسفي، حيث ظل الفقيد المهدي في غيبوبة تامة، لحوالي أسبوع، قبل أن يفارق الحياة بعد عمر قصيرلم يتجاوز 52 سنة زمنياً فيما لم يتجاوز ربيع الشباب قلبياً وروحياً.
ب «عمارة الأمير عبدالقادر»، بالدارالبيضاء، أو بين أسرته الصغيرة، أو بمطعم الجريدة، كان المهدي رحمه الله يشاركني أسراره وآماله وآلامه، ويطلعني على مسودات كتاباته قبل نزولها للناشر أو للقراء، وعلى مشاريعه وطموحاته التي لا تنتهي، ويحدثني كذلك عن علاقته بأصدقائه المقربين، من أبرزهم الزجال المغربي الراحل أحمد الطيب لعلج، تماما كما لم يكن يتردد في حديثه لي عن المختلفين معه، وخصوماته الشخصية، وحروبه الصغيرة التي كانت تستفز مزاجه الهادئ.
وأذكر يوم أهدى لي فيه الفقيد المهدي مجموعته القصصية «ثلاثية الملأ والألوان» التي أصدرها عام 1984، ووقتها كشف لي عن مسودة مجموعتة «جزيرة في الرأس» قبل إخراجها للنور عام 1988، ثم مسودة «موزار في الكنيسة» التي أطلقها عام 1995، وبعدها روايته «المارد» عام 2001، وفي كل مرة يهمس لي قولته المألوفة: «سأفاجئك يا أحمد بعمل رائع».
وبعد إصداره عام 1996 لديوانه الزجلي «عام الفول»، الذي اختار في رموزه تعرية واقعنا الثقافي، الاجتماعي والسياسي، أذكر يوم طلب مني أن أخط له باليد ديوانه «عسالة»، وفكرت في أن أشارك صديقي الفنان الفقيد سعيد أمين لرسم بعض صفحات هذا الديوان، وأنا أتكلف بكتابته بخط اليد، ليخرج في طبعة أنيقة عام 1997 الذي خرج فيه بمجموعته «بيوت من قلق»، وإصداره للجزء الأول من «كتاب المغاربة أحداث ووقائع» عام 1998، و»معايير قابلة للتغيير» عام 2000، فيما خلف مسودة تحت عنوان «الأوائل» لعلها بقيت خارج النور.
ولا يزال «فضاء التحرير»، بحضن الجريدة، يحمل آثار الفقيد المهدي الودغيري تماما مثل صورته التي تستقبلنا كل صباح ومساء برحاب التحرير، واسمه المنقوش على اللوحة المثبتة على الجدار بالطابق الثالث، تماما بالشكل المتميز الذي كان يستقبلنا به في حياته أنيقاً عفيفاً، مفعماً بالحيوية، صادقاً صارماً، مقاوماً صامداً، عاشقاً للوطن، وفياً للحياة، ومستقبِلا للمواطنين المظلومين، وممسكا بجوهر الأشياء، ومحباً للمهنة بحجم حبه ل «المراسلين النشيطين» و»المهووسين بأخبار الأقاليم» و»الملاحق الجهوية»، وفي كل مرة كان يصعب علينا الفصل بين الودغيري الكاتب، والودغيري الصحفي، والودغيري المناضل، والودغيري الإنسان، حين بقي حالة متكاملة لا يمكن تفكيكها.
أتذكره جيداً كما أتذكر باقي الوجوه التي كانت تتحرك بالجريدة كالنحل، البريني، الباعمراني، خيرات (محمد)، خيرات (ع. الهادي)، عليوة، مدن، قانية، شوقي، القرشاوي، الحيمر، بوهلال، نبزر، باهي، عليوات (حمودة)، الهادن، نجمي، لعسيبي، عاهد، العراقي، جبرو، مصباح، البهجة، صبري، مؤيد، العطار، بنداود، بهجاجي، بطل، جبران، عماد، الخوري، مفتاح، أريري، امشكح، لبشيريت، الحنوشي، هنودة، النحال، رامي وغيرهم ممن «مِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً»، وأعتذر لمن «سقطوا سهوا» وجميعهم أبانوا عن تفانيهم وعشقهم ل «مهنة المتاعب»..
رغم الذاكرة المشرفة على الخريف، أتذكر زوايا صفحات الجريدة التي لا تقل عن «بصراحة» و»كلمة العدد» و»على الطريق» و»ضيف الأسبوع» و»نقط على الحروف» و»لا بد من التفاصيل».. الخ، وأذكر «رسالة يوليوز 1995» التي ودعنا بها أستاذنا لبريني، و»نافذة» جواهري، «آخر الكلام» لجبرو، «عين العقل» للأشعري، «رسالة باريس» لباهي، «من يوم لآخر» للقرشاوي، «حديث المحرر» لنجمي، «لقاء الخميس» لأقصبي، «قضية الأسبوع» لهادن، «كل خميس» لشوقي، «من الضفتين» للخوري، وأتذكر جيداً «الاتحاد الأسبوعي» وما حققه من تفاعل واسع بقيادة وتنسيق لعسيبي…دون نسيان «الأبواب الخلفية» المتمثلة في «الرائد» و»النشرة» و»البلاغ المغربي» و»الديمقراطية العمالية» وغيرها من التي كنا نلتقي فيها.
لن أنسى الخيط الرفيع الذي كان يربطني بالزميل جماهري منذ التحاقه بيومية «ليبراسيون»، ومتابعته الحماسية لملف ضحايا ماضي الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان، أو ما يُعرف بأحداث مولاي بوعزة، فضلا عن متابعته لمستجدات ملف جز شعر المواطنتين، إيطو قسو وفاطمة تاوعيبات، عام 1989، على يد أحد الباشوات بأمر من وزير الداخلية، إدريس البصري، لكون المواطنتين رفضتا تلبية دعوة الأخير للرقص في بيته، وبعدها قضية وفاة المعطل مصطفى حمزاوي في مخفر الشرطة عام 1993..الخ..
وتشاء الصدف أن يكون لقائي الأخير بالفقيد المهدي الودغيري، في يوم زيارته لي، بخنيفرة، وهو بصدد إنجاز حلقات صحفية حول «عيون ومنابع المغرب»، والجريدة حينها في أوج عطائها وأرقام مبيعاتها القياسية، وما تحتوي عليه من ملفات حساسة واستطلاعات وتحقيقات ساخنة كان من البديهي أن تجر عليها وأقلامها الكثير من المخططات والمؤامرات والمضايقات وأعين المخبرين.
ويذكر أن الفقيد الودغيري كان قد تشبع بأحلام مهنة الصحافة منذ ترأسه تحرير مجلة «أصوات» التي كانت تصدر بفاس، سنة 1971، وإنتاجه لبرامج ثقافية بإذاعة فاس، قبل التحاقه، عام 1975، بجريدة «المحرر» التي كان يديرها الشهيد عمر بنجلون، وتم إيقافها بأمر من السلطات المغربية، وحينها كان الفقيد من بين الرافضين الاستسلام لبشاعة المنع والترهيب عندما حرص على مواصلة مسيرته الصحفية بجريدة «الاتحاد الاشتراكي» التي ظل يرأس «قسمها الاجتماعي» إلى حين رحيله الصادم الذي مرت عليه الآن 22 سنة بصورة تؤكد بقوة كم هي الأيام تجري جريان الماء تحت الجسر..
رحم الله صديقنا العزيز سي المهدي الذي لم يكن يسعى إلى الأضواء والبطولات…