الناجون من هيروشيما وناكازاكي‮:‬ماأشبه‮ ‬غزة بِيابان القنبلتين الذريتين‮ !‬

عبد الحميد جماهري

… ‬ومثل الشاعر درويش‮ ‬،‮ ‬صدق وصف الناجين من القيامة‮..‬

في‮ ‬لحظة من اللحظات،‮ ‬كان‮ ‬يبدو أن منح جائزة نوبل للسلام،‮ ‬قد‮ ‬يكون طريقة في‮ ‬السخرية السوداء من لوحة العالم القاتمة‮. ‬وبدا‮ ‬في‮ ‬كثير من الأحيان،‮ ‬وملايير البشر‮ ‬يتابعون‮ ‬نشرات الأخبار،‮ ‬أن‮ ‬الحديث عن نوبل‮ ‬وسط مشهد‮ ‬يطغى فيه الدم والخراب‮..‬والقتلة،‮ ‬قد‮ ‬يفسر بأنه استخفاف إن لم‮ ‬يكن تبخيسا لكل الذين‮ ‬يُقتلون‮ ‬يوميا،‮ ‬لاسيما في‮ ‬غزة وفي‮ ‬لبنان‮..‬
لكن اختيار اللجنة‮ ‬لمنظمة‮ «‬نيهون هيدانكيو‮» ‬اليابانية المناهضة للأسلحة النووية،‮ ‬جاء ليعطي‮ ‬الكلمة للناجين من القنبلتين الذريتين اللتين ألقيتا على هيروشيما وناغازاكي‮ ‬عام‮ ‬1945‮. ‬وفتح الطريق لأصحابها ليحكموا على العالم الحاضر،‮ ‬والشرق الأوسط بالضبط‮. ‬جاء الحكم‮ ‬حاسما‮: ‬الوضع في‮ ‬غزة‮ ‬يشبه الوضع‮ ‬في‮ «‬اليابان قبل‮ ‬80‮ ‬عاما‮»‬،‮ ‬أي‮ ‬لحظة قصف المدينتين‮ ‬من طرف الولايات المتحدة‮ ‬في‮ ‬غشت‮ ‬1945‮ . ‬أعادت تصريحات الناجين من القنبلتين،‮ ‬التذكير بالأمر التنفيذي‮ ‬الذي‮ ‬أصدره الرئيس هاري‮ ‬ترومان،‮ ‬الذي‮ ‬يصنف بأنه أحد مجانين التاريخ الكبار،‮ ‬قامت الولايات المتحدة بإطلاق السلاح الذري‮ «‬‭»‬الولد الصغير‭»‬‮» ‬على مدينة هيروشيما‮ (‬يوم الاثنين‮ ‬6‮ ‬غشت‮ ‬1945‮ ). ‬ثمَّ‮ ‬تلاها إطلاق قنبلة‮ «‬‭»‬الرجل البدين‮» ‬‭»‬على مدينة ناجازاكي‮ ‬في‮ ‬التاسع من الشهر نفسه والسنة نفسها‮. ‬وكانت هذه الهجمات هي‮ ‬الوحيدة التي‮ ‬تمَّت باستخدام الأسلحة الذرية في‮ ‬تاريخ الحرب‮.‬
لكن تشبيه‮ ‬غزة باليابان تلك الفترة‮ ‬يعني‮ ‬أن الخراب والخسائر وعدد القتلى،‮ ‬قد‮ ‬يكون هو نفسه بدون سلاح نووي‮ ‬أو ذري‮. ‬بل إن حجم‮ ‬ما نزل وينزل على‮ ‬غزة،‮ ‬ثم لبنان،‮ ‬يعادل‮ ‬قنابل ذرية‮ ‬عديدة‮.‬
لقد‮ ‬اعتادت الشخصيات أو المنظمات الحاصلة على‮ ‬‭»‬نوبل السلام‭»‬‮ ‬أن تقدم شهادتها الأخلاقية عن العالم وعن جدوى السلام نفسه،‮ ‬لهذا اعتبرت المنظمة أن‮ ‬غزة اليوم هي‮ ‬التوأم الراهن‮ ‬لليابان التي‮ ‬تلقت قنبلتين،اثنتين‮… ‬مع فارق كبير للغاية وهو أن إسرائيل لم تكن في‮ ‬حاجة إلى القنابل الذرية أو مثيلاتها،‮ ‬كالهيدروجينية‮ ‬لكي‮ ‬تخلف خرابا مهولا ولا إنسانيا في‮ ‬غزة‮. ‬في‮ ‬مساحة أقل بكثير من مساحة المدينتين المنكوبتين‮!‬
قبل شهادة الناجين من الدمار الياباني،‮ ‬كان الشاعر محمود درويش قد أقام التوازي‮ ‬التراجيدي‮ ‬بين هيروشيما وبيروت،‮ ‬في‮ ‬زمن ما قبل‮ ‬غزة‮.. ‬قبل قيامة فلسطين الجديدة عندما تحدث في‮ ‬قصيدته مديح الظل العالي‮ :‬
هيروشيما هيروشيما
وحدنا نُصغي‮ ‬إلى رعْد الحجارة؛ هيروشيما
وحدنا نُصغي‮ ‬لما في‮ ‬الروحِ‮ ‬من عبثٍ‮ ‬ومن جدوى
وأمريكا على الأسوارِ‮ ‬تهدي‮ ‬كلّ‮ ‬طفل لعبةً‮ ‬للموتِ‮ ‬عنقوديَّةً
يا هيروشيما العاشقِ‮ ‬العربي‮ ‬أمريكا هي‮ ‬الطاعون والطاعونُ‮ ‬أمريكا
نعسنا،‮ ‬أيقظتنا الطائرات وصوتُ‮ ‬أمريكا
وأَمريكا لأمريكا
وهذا الأفق إسمنتٌ‮ ‬لوحشِ‮ ‬الجوِّ
نفتحُ‮ ‬علبةَ‮ ‬السردين تقصفها المدافعُ
نحتمي‮ ‬بستارةِ‮ ‬الشباك،‮ ‬تهتز البناية‮. ‬تقفزُ‮ ‬الأبوابُ‮. ‬أُمريكا
وراء الباب أمريكا
ونمشي‮ ‬في‮ ‬الشوارعِ‮ ‬باحثين عن السلامة،
من سيدفننا إذا متنا؟
عرايا نحن،‮ ‬لا أُفقٌ‮ ‬يُغَطينا ولا قبرٌ‮ ‬يوارينا
‮‬لقد‮. ‬تم اختيار المنظمة اليابانية‮ ‬وتكريمها‮ «‬لجهودها المبذولة من أجل عالم خال من الأسلحة النووية،‮ ‬ولإثباتها،‮ ‬عبر شهادات،‮ ‬أن الأسلحة النووية‮ ‬يجب ألا تستخدم مجددا بتاتا‮»‬،‮ ‬لكن الناجين من قنابل هيروشيما‮ ‬لم‮ ‬يقفوا‭ ‬طويلا عند التسمية،‮ ‬بل انتبها إلى ما خلفته هاته القنابل من خراب ودمار،‮ ‬بشريا وعمرانيا‮..‬ما زال مسجلا في‮ ‬هواء الكرة الأرضية وفي‮ ‬تقاسيم شعب اليابان‮..‬
‮ ‬ومن المفارقات‮ ‬غير المسلية أن الأسماء التي‮ ‬تم تداولها،‮ ‬لها علاقة،‮ ‬بهذا القدر‮ ‬أو ذاك بفلسطين وغزة تحديدا،ومنها محكمة العدل الدولية أو الأونروا أو الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو‮ ‬غوتيريش بصفتهم المرشحين الأوفر حظا للفوز،‮ ‬لكن الذين دافعوا عن هاته الأسماء سرعان ما انتبهوا إلى المعارضة التي‮ ‬ترفعها إسرائيل في‮ ‬وجهها‮!!‬
فقد تم استهداف وكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين‮ (‬الأونروا‮) ‬منذ بداية الحرب‮ ‬وبعدها‮..‬
‮ ‬واعتبرت‮ ‬غوتيريس شخصا‮ ‬غير مرغوب فيه‮..‬ومحكمة العدل الدولية عدوا قانونيا لأحكامها في‮ ‬القضية المرفوعة ضد حكومة نتانياهو‮..‬
نوبل لهذا العام تذكرنا بما مضى منذ ثلاثين عاما أيضا،‮ ‬عندما كان السلام مازال ممكنا بين‮ ‬الفسلطينيين والإسرائيليين،‮ ‬يوم نالها‮ ‬ياسر عرفات وإسحق رابين وشيمون بيريز قبل ثلاثين عاما‮…‬
ويومها كتبت‮ ‬لجنة نوبل النرويجية،‮ ‬لقد‮ « ‬قدم السادة عرفات وبيريز ورابين مساهمة كبيرة في‮ ‬عملية‮ ‬يمكن من خلالها أن‮ ‬يحل السلام والتعاون محل الحرب والكراهية‮»…‬
‮ ‬كان حلما من خيال فهوى‮ :‬مات عرفات شهيدا مسموما وقتل رابين من طرف‮.. ‬شاب‮ ‬يهودي‮ ‬متطرف‮ ‬ينتمي‮ ‬الى تيار‮ ‬يمثله اليوم في‮ ‬حكومة نتانياهو،‮ ‬الوزير بن عفير اليميني‮ ‬المتطرف‮!‬
‮ ‬لكن هيروشيما تتناسل وتتضاعف في‮ ‬حيز مكاني‮ ‬ضيق،‮ ‬بشاعة تراجيديا لا‮ ‬يحدها الأفق المنظور‮..‬
ومثل الشاعر،‮ ‬صدق‮ ‬وصف الناجين من القيامة‮..‬

الكاتب : عبد الحميد جماهري - بتاريخ : 12/10/2024