لجميع الحروب سردياتها، أقواها التي نُسجت عن الحربين العظميين، وقبلها صوّرتها واستعادت وطيسها أعمال أدبية كبرى أشهرها « الحرب والسلم»(1869) لتولستوي(1828ـ 1910)وفي القرن العشرين أكتفي برواية واحدة ل « فرديناند سلين (1894ـ 1961) « حرب» نُشرت بعد رحيله(2022) و» وداعًا للسلاح»(1929) لهمنغوي(1899ـ1961)، ولدينا مدونة عربية كبيرة ومتشعبة في هذا المضمار أقواها ما كتبه المصريون بعد هزيمة 1967، واللبنانيون بُعَيد الحرب الأهلية(1975ـ 1990) فيمكن القول إن الرواية اللبنانية في مجملها رواية حرب، من أبرز كتابها إلياس خوري وهدى بركات ورشيد الضعيف، كل برؤيته وطريقته.
وبطبيعة الحال، تحضر الرواية الجزائرية شاهدًا قويًّا في هذا الميدان، نظرًا لحرب التحرير خاضتها جبهة التحرير الوطني (من 1954 إلى الاستقلال 1962) التمثيل لها بنماذج بالفرنسية العربية، عند كاتب ياسين(1929ـ1989) في روايته الأشهر»نجمة»(1956) والطّاهر وطار(1936ـ2010) في شهيرته»اللاز»1974). تلاه رعيل كبير في هذا الدرب أبرزه مرزاق بقطاش(1945ـ2021). وما زالت الرواية الجزائرية وهي فتيّة، شأن نظيراتها في باقي بلدان المغرب العربي، تستمد حكاياتها وشخصياتها من هذا التاريخ، وبنسغه تصنع حبكاتها.
لم تكن الجزائر تتوقع بعد أن وضعت الحرب أوزارها أن تتلوّها أخرى ثانية وهذه داخلية تواجه الأخ بأخيه، سمّيت (العشرية السوداء) لامتداها عشر سنوات، من 26 كانون الأول، دجنبر 1991 إلى شباط، فبراير 2002، وقيل سالت فيها دماء مائتي ألف قتيل، بين عسكر رسمي ومواطنين أبرياء والمقاتلين المتمردين من الجبهة الإسلامية للإنقاذ تمردّوا ضد الدولة الحاكمة التي انتزعت منها انتصارها في الانتخابات، وتطورت المواجهات التي حولت البلاد حمام دم.
إلى هذه الحرب اللعينة عاد الكاتب الصحفي الجزائري كمال داود ليصنع في أتونها رواية قوية بمعمارها وقصتها وشخصياتها ونسيجها النثري الشعري، الواقعي والتخييلي، ويشحنها بطاقة تراجيدية عبر المحكيات والمصائر الأليمة التي ذهبت فيها مسارات رواية وضعتها لجنة جائزة غونكور على رأس قائمة الاختيار الأول(يليهما اثنان انتهاءً بإعلان الجائزة في مطلع نونبر)، وهي تمثيل جيد للرواية الفرنكفونية، فداود اليوم كاتب مرموق بالفرنسية، وما زالت أفضل الروايات الجزائرية تصدر عن كتّاب بهذه اللغة، وتستمر في امتصاص التاريخ الوطني واستكتابه على منوال تخييلي ينهض على ركائز واقعية، وبمنظور نقدي نفاذ لاذع يخترق جلده ويمسّ في الصميم إيديولوجية حكم، وهيمنة ثقافة ومخيال مجتمع.
تعالوا بنا إلى «Houris» جمع (حورية) وأترجمها ب(الحور العين) كما ورد في القرآن:» وزوّجناهم بِحُورٍ عِين» (الدخان/54) عنوان رواية داوود(غاليمار 2024) يريد كاتبُها أن يجعلها رجع صدى وكشفًا عن وديان من الدماء سالت قبل عشرين عاما، أي زمن العشرية السوداء، ساردها هو بطلتها نفسها تعلن عن اسمها(فجر) تنطلق بنا، لتروي قصتها من نهاياتها وبتراوح بين الآني والاسترجاع سنتعرف على مأساة فردية في قلب مجزرة جماعية تحكمت فيها ظروف سياسية وشاركت فيها قوى ظلامية وعسكرتارية، وراح ضحيتها عشرات الآلاف من الأبرياء. وإذ قررت السلطة طيّ صفحتها بمحوها من الذاكرة الجمعية بثمن شراء السلم والاستتباب في الحكم، يخرج في وجهها الروائي العاصي ليراجع فاتورة الدم.
تروي فجر وهي تقطن بمدينة وهران ما جرى لها ولأهلها ومحيطها في قرية في الطريق إلى بلدة غليزان باسم (حدّ شكالة) بتاريخ 31 كانون الثاني، دجنبر1999. تمهد له بصراعها مع الوسط الديني في حيّ بالمدينة، حيث تملك صالون حلاقة نسوي قبالة مسجد يناصبها فيه إمامه العداء لتحررها في الهندام واستقبالها النساء متبرّجات للزينة، فهي إذن خلية اجتماعية مضادة عنده للشريعة وما يراه حلالًا وحرامًا، وإذ تمعن في التحدي يحرّض عليها عصابة تتلف الصالون ولا قانون يحميها، وهي في ضعفها، ضحية إرهاب عمره عشرون عامًا وراءها لكن ندوبه، بل جراحه غائرةٌ مفتوحةٌ، فاضحة للعيان، وحدها تصرخ بما حدث لها بحديث صامت يسميه الكاتب(اللغة الداخلية) مقابل اللغة الخارجية، أي النطق الكلام كسائر الناس هي محرومة منهما منذ تلك الليلة الدموية المشؤومة، فحبالها الصوتية مقطوعة، وحنجرتُها مثقوبة وسطها أنبوب بلاستيكي تتنفس منه، لذلك يأتي سردها على مطية استعمال ضمير المخاطب، المرسّل إليه حمْل ٌ في بطنها من ثلاثة أشهر، تفترض أنه أنثى فتسميه (حورية) وحوريات أخرى هي مطمع غلاة الأصوليين الذين (جاهدوا) في ذبح الآلاف باسم فهم رجعيّ للدين وشريعة بتأويلهم الأعمى.
على امتداد 400 صفحة، تخاطب «فجر» ابنتها المحتملة حورية، تشكو لها فجيعتها، بقيت في البيت وحيدة حين سافرت الأم خديجة إلى بروكسيل لبحث جديد عن جرّاح يعيد لها حبالها الصوتية ، وتقرر هي فجأة أن تقوم بمغامرة سفر عشية عيد الأضحى، أن تذهب إلى مكان الجريمة الوحشية في قريتها قبل واحد وعشرين عامًا حين نزل الإرهابيون القتلة إليها وأبادوا أهلها، سيُحصًون ألفًا لاحقًا منهم أبوها وأمها وأختها تاتوموش، ذُبحوا ذبحًا وهي بدورها حزّها سكينٌ من الوريد إلى الوريد، ونجت من الموت لم يكن السّكين بمضاء كافٍ، ونقلت بعد حضور الجنود لتُسعف في مستشفى بوهران حيث ستعتني بها سيدة هي خديجة أمّها البديل وستظل تختلط علينا وعليها أيضًا، رعتها مباشرة من المستشفى حيث كانت موجودة متطوعة وأمامها طفلة في سنّ الخامسة مذبوحة.
هذه الطفلة وقد كبُرت، تعيش بصعوبة بعاهتها تخفيها إلى حد بمنديل حول عنقها ويفضحها نُدب كبير في وجهها في شكل ابتسامة مرعبة، لا مخاطب لها سوى الحمْل الذي في بطنها تسبب فيه شخص عابر تعرفت عليه في شاطئ وهران واختفى، حلمه عبور المتوسط إلى إسبانيا. وستخوض مغامرتها يوم عيد الأضحى حين قررت الذهاب إلى موضع الجريمة الشنعاء تسوق سيارتها، وتحدث لها مغامرات نوجزها في عطب سيارتها، واعتداء عليها بسرقة متاعها، وتعرّفها على شخص سيُقلها على متن شاحنته سيروي لها في الطريق حكايته العائلية والشخصية جرت له في مدينة باتنة هو وأهله يملكون مكتبة، ويرغمهم الإرهابيون على بيع كتب الطبخ وحدها ويتعرض عيسى السائق لعدوان منهم يعطب رجله اليسرى، هكذا يصبح الحاكي الثاني بعد فجر. سينضم إليهما حاكٍ ثالث هو حمرا، المرأة التي اختطفها متمردو الجبل ليلة عرسها، ومن لسانها نتعرف على شراسة هؤلاء شغلهم الذبح بلا تمييز، وتسام معهم النساء كل الويلات.
تصل فجر أخيرًا إلى قريتها(حد اشكالة) وتعيش مغامرة أخرى مع إمام مسجدها وتكاد يعتدي عليها السكان، إذ تعلن عن اسم عائلتها فينكر الجميع معرفته بأيّ شيء وهم في يوم العيد يتجادلون حول ذبيحة سرية خدعوا فيها، سيفتضح سرها الإمام صاحبُها، هو من ينصحها بالمغادرة والنسيان، فالناس لا يريدون تذكّر شيء، وهي مصرّة على الوصول إلى (موضع الموت) حيث ذُبحت أختها لتزورها. ثم في زمن لاحق نرى أنها أنجبت طفلتها وقد تراجعت عن مشروع إجهاضها كي تجنبها العيش في بلد الحياة فيه غير لائقة. ثم إننا نعلم استردادها لصوتها فلم تبق سجينة (اللغة الداخلية) وهو المونولوج الداخلي، شكّل مع خطابات أخرى بوليفونية كشّافة ومرآوية لأوضاع اجتماعية دينية أخلاقية سلطوية ، وأقواها خطابٌ نقديٌّ حادٌّ لتقاليد بالية موروثة وعقليات تهيمن عليها ثقافة رجعية، وسخرية من أنماط سلوك استعبادية، وتنديد بأشكال اضطهاد شنيع للمرأة.
في قلب هذا كلِّه، تنديدٌ مضمر بالنسيان الذي أريد فرضه رسميًا على جرائم العشرية السوداء عقب مصالحة الدولة مع الإرهابيين الجزارين. نعم، تنفتح الرواية على المستقبل، لكنها ترفض النسيان.
كتب كمال داود رواية طليعية خرق فيها أنساق السرد التقليدي جميعها، وسردها في ثلاثة أقسام، موزعة على فصول صغيرة، وأحيانًا فقرات مقتضبة، زمنها وجيز جدًا، في ذهاب وإياب بلا انقطاع، فتحتاج من القارئ إلى نباهة ونفَسُه يلهث خلفها بما امتلكته من تشويق وتبثّه مشاعرَ متفاعلة مع شخصية ضحية قصتها من الواقع ومرعبة فوق الخيال، لكاتبها لغةٌ تسمو به، اشتق منها لغاتٍ وصوّر استعارات، وذكّرنا بقوة وجدارة الأدب حين يتبنى القضايا الكبرى ويحوّلها إلى نشيد ملحمي يقطر هنا بالدماء.
الكتابة ضدّ النسيان أو كيف يخوض كمال داود حرب الرواية
الكاتب : أحمد المديني
بتاريخ : 18/10/2024