المسرح الأحمر

المسرح الأحمر تجربة ثقافية عرفت توهجها في بداية السبعينات، مبادرة فنية احتضنها مجموعة من الشباب المهتم بمجال المسرح، بعد فترة قصيرة من خوضهم لتجربة نشيطة بإحدى فرق الهواة التي تميزت بإسهاماتها المتعددة والمتنوعة.
ففي تفاعل مع ابداعات الأساتذة عبد القادر البدوي وعبد العظيم الشناوي إلى جانب محمد التسولي ومصطفى التومي، وغيرهم من مبدعي تلك المرحلة بمدينة الدارالبيضاء، وما تميزت به من تباين في الأشكال التعبيرية والتميز الفنية، في وسط مناخ ثقافي مشحون بالنزوع نحو التجديد وكشف وسائل التعبير الأكثر جاذبية وتأثيرا.
كانت المجموعةعبارة عن ثلة من الشباب التواق للفعل الجاد، في فورة بداية عطاءاتهم، شديدة التفاعل مع المتغيرات الثقافية ومختلف التطورات المجتمعية، بتعبيراتها المتعددة والمتباينة فكريا وسياسيا، قبل أن تختار إطارها الخاص وأسلوبها المتميز في تحقيق نوع من استقراء الواقع ورصد بعض تحولاته وزوايا التأثير فيه. كانت البداية محاولات متعددة للخروج عن المألوف في الكتابة التي تعتمد الحكي المباشر في سرد الوقائع وتقديم الأحداث. فكان أول ما أثار انتباه المهتمين بالمجال الثقافي والمسرحي على وجه التحديد، هو أسلوب المجموعة في كتابة النصوص وعرضها بأشكال فيها الكثير من الإيحاء والتأشير لما يعتريه الواقع من اختلالات متعددة الجوانب.
فكان أول عمل مسرحي لفت الأنظار لهذه الثلة من الشباب،هو نص كتبه يوسف فاضل تحت عنوان « وراء الباب» والذي قدم كعرض في بعض دور الشباب تحت لافتة» رواد النادي الثقافي». يتناول النص موضوع الاستبداد والتسلط بصيغة غير مباشرة….فهو حكاية لص يتسلل إلى مقبرة لسرقة رجل أحد الموتى، شاع بين الناس أنها من دهب.يتسلل إلى المقبرة بكثير من الحذر والخوف، لكن ما لبت أن حاصره الأموات، ليحاكموه عن كل الجرائم التي اقترفها ضد كل واحد منهم وما مارسه عليهم من تسلط وإرهاب.كان تقديم هذا العرض أول تجربة لي في الإخراج، وكنت لحظتها أعمل مساعدا لمحمد التسولي بفرقة الشهاب المسرحية. الذي تميز بنوعية عروضه وتعامله مع أشهر الكتاب العالميين.
العرض الثاني كان مسرحية «الصفر» لمحمد جبران، والتي قدمت باسم «المسرح الباسم»، وأخرجها الفقيد محمد السحماوي، وهي تعرض يوميات عاملي نظافة وهما يستعرضان ما يصادفانه أثناء يومهما في نظافة الشارع، وقائع من أحوال الناس ومعاناتهم وتشابه مشاكلهم في مواجهة واقع لا يستجيب لتطلعاتهم. المسرحية حققت نجاحا لافتا كان فوق كل التوقعات، لكنها أثارت جدلا داخليا وكشفت على نوع من الخلاف بين العناصر المكوة للمجموعة، حول نوع المسرح الذي نسعى إلى تحقيه والغاية من تعقيدات طروحاته، خلاف اتسعت دائرته وأدى إلى انفصال المجموعة ليشكل المنفصلون فرقة «المسرح الأحمر». فالتباين في وجهات النظر وسع المسافة بين الغايات بين تصورين. كانت أول مسرحية عرضت باسم «المسرح الأحمر» لمحمد جبران «قصة حديقة الحيوان» قام بإخراجها المرحوم عبد اللطيف نور، وهي نص مقتبس من عمل لكاتب انجليزي لا أذكر اسمه، يعرض جوانب من صراع بين شخصين من طبقتين اجتماعيتين مختلفتين، يلتقيان صدفة بإحدى الحدائق وينشب بينهما صراع حول من له الحق في الجلوس على الكرسي الوحيد الموجود بالحديقة، تتحول مشاداتهما الكلامية إلى شجار يؤدي إلى إصابة الشخص الأقل مستوى اجتماعيا، فيتمدد فوق الكرسي منتشيا بانتصاره بعد أن فر غريمه مدعورا. العمل الثاني الذي قدمته الفرقة كان تحت عنوان « الطفل في المدينة» ليوسف فاضل واخراج نور عبد اللطيف، مشاهد المسرحية تعرض تفاصيل البحث عن طفل مطارد تتعقب السلطات أثاره من أجل محاكمته، وفي إطار المطاردة يتعرض محيطه الأسري وساكنة الحي إلى اضطهاد ومحاكمات الغاية منها الترهيب والادلال. كان هذا العرص هو آخر عمل مشترك بين أفراد المجموعة، إذا ظهر بينهم خلاف حول نص كتبه المرحوم محمد جبران، اختار له عنوان « الفوضى» تناول من خلاله واقع قرية تتخبط في مشاكل متعددة بعد أن حل بها الجفاف، تأزمت أوضاع الساكنةوتدهورت أحوالهم، وأصبحوا على أبواب اعلان العصيان، محملين الدولة مسؤولية معاناتهم، وكان الذي يحد من فورة استيائهم وتنامي صولة غضبهم فقيه القرية، الذي كان يدعوهم إلى الصير وتقبل واقعهم كقدر محتوم وارادة إلهية، حيث لا رد لقدر الله. اختلفنا أثناء نقاش النص حول ربط موت الفقيه بحل كل مشاكل القرية، حيث ستنزل الأمطار وتتوفر كل الحاجيات، وتستعيد الساكنة هدوءها وتعود الحياة إلى انسيابها المعتاد بما يضمن النظام والاستقرار. تشبت محمد جبران بالصيغة التي جاء بها النص دون أي تعديل، آزره في ذلك عبد اللطيف نور الذي كان كله حماس لإخراج المسرحية. دام النقاش أياما غير أن الأمور بينا ستأخذ منحى اخر بعد اندلاع حرب أكتوبر 1973، إذ أصبح نقاش الساعة هو « لماذا توقفت الحرب؟» كانت الأجواء مبتهجة بما حققه الجيش المصري من انتصار في استرجاع ما سبق واحتله الكيان الصهيوني في حرب 1967، خضنا في نقاش متعدد الجوانب، كيف يتم عرض وجهة نظرنا في الموضوع مسرحيا، وكيف صياغة السؤال ليصبح نقاشا عموميا. فكان التفكير في كتابة مسرحية « كيبور» أو « الكيرة» كما قدمتها فرقة مسرح الباسم، بعد فشلنا في الحفاظ على مستوى العلاقة التي كانت تربطنا وتطورت الأمور إلى نوع من القطيعة. المسرحية تأليف جماعي، كتب فاضل يوسف الفصل الأول الذي تم التركيز فيه على طرح السؤال من طرف كل المواطنين، لماذا توقفت الحرب؟ ( علاش وقفات الحرب) السؤال شغل المتطوعين من كل الفئات الذين هرعوا إلى الثكنات العسكرية قصد التسجيل من أجل الالتحاق بساحة المعركة. نفس السؤال طرح في أحد أسواق البادية، وهو الفصل الذي كتبه محمد جبران. انسحبت من المجموعة بعد أن تجاوزنا في النقاش الجانبي كل حدود اللياقة والاحترام الذي توجبه العلاقات، حيث التحق يوسف فاضل بمجموعة «المسرح الباسم» واقترح عليهم المسرحية فكانت مساهمة شفيق السحيمي في الكتابة، فعرضت المسرحية في يونيو 1974 بالمسرح البلدي بالدارالبيضاء، اعتقل على أثرها يوسف فاضل حيث قضى شهرا كاملا بالمعتقل السري بدرب مولاي شريف، كان التركيز في التحقيق معه حول من كان وراء الإيحاء بكتابة النص وفكرة العرض وتقديمه، ثم أفرج عنه دون عرضه على أنظار القضاء.
كان من بين المساهمين في تشكيل مجموعة المسرح الأحمر: يوسف فاضل. محمد جبران. حميد نجاح. عبد العزيز سليم. محمد شكير. عبد اللطيف نور. فؤاد المهاوتي. محمد مداد. عزالدين رفقي. أحمد حبشي. رشيد كنون،عبد العزيز نجيم وعبد السلام حضيري ومحمد الريتوني إلى جانب فاطمة الناجي ومحمد فخر، وآخرين استعصى علي استحضار أسمائهم.


الكاتب : أحمد حبشي

  

بتاريخ : 19/10/2024