أحداث غزة وضعت الغرب في مأزق أخلاقي

هل تستقيم قيم العدالة بمنظورها الكوني مع ازدواجية المعايير عند الغرب، وكيف يبرر الغرب اليوم المأزق الأخلاقي لمنظومته القيمية الفكرية بعد الموقف من حرب غزة؟ هل تشكل حركية العولمة اليوم إطارا موضوعيا لفكرة التضامن الإنساني وفق مبدأ العدالة الجماعية؟ وإلى أي حد استطاعت المؤسسات الدولية ضبط الصراعات الجارية في عالم اليوم وفق منطق ديبلوماسية العدل والمساواة دون تحيز ونهج سياسة الكيل بمكيالين؟

موراتينوس: حل القضية الفلسطينية يمر عبر الاعتراف بها كدولة

أكد محمد بنعيسى الأمين العام لمؤسسة منتدى أصيلة، وهو يفتتح الندوة الرابعة من ندوات الموسم 45 لمنتدى أصيلة يوم الجمعة 25 أكتوبر الجاري والتي ناقشت موضوع « قيم العدالة ونظم الديمقراطية»، أكد أن الهدف من طرح هذا الموضوع هو «تشخيص الاختلال الصارخ بين الحرص على تعزيز قيم العدالة في المجتمعات الغربية كمجتمعات ديمقراطية، وبين المنطق الغربي الذي يقصي منها شعوبا أخرى تقع، سياسيا وحضاريا، خارج المنظومة الغربية».
هذه الازدواجية، حسب بنعيسى، «تعكس مظهرا من مظاهر الانفصام الأخلاقي في مواقف الغرب السياسية إزاء مظالم ومآسي وأعمال عدوانية توسعية تقع اليوم أمام أنظار العالم» . ولعل أبلغ مثال على هذه الازدواجية ،يقول بنعيسى، هو «اصطفاف الغرب ضد الحق الفلسطيني في الوجود ، وتبرير الإبادة الجماعية ضد الشعب الفلسطيني في غزة».
وإذا كان الوزير السابق في العدل ومنسق الندوة، محمد أوجار، قد تحدث بنبرة مشوبة بمرارة مضاعفة حول مآل العدالة الكونية التي ناضل هو وجيله من أجل تبنيها في شموليتها، والتي يراها اليوم عاجزة عن كبح جماح الهمجية التي ينعشها الصمت العربي والتواطؤ الغربي، فإن وزير العدل الحالي عبد اللطيف وهبي لا يربط، لزوما، سيادة الديمقراطية في نظام سياسي معين بتحقيق العدالة لأن هذه الأخيرة «لا يمكن أن تبقى قيما أخلاقية مجردة تتقن الخطاب، بل عليها أن تمؤسس قيمها في الواقع المعيش للمواطنين»، معتبرا أن «الديمقراطية والعدالة سيرورتان متلازمتان لبناء المجتمع الحديث». ولفت وهبي الى أن الوضع الدولي يسمح باستخلاص وحيد يتمثل في كون «القانون الدولي هو قانون القوة والأقوياء وأن العدالة تبقى مطلب وحلم الضعفاء».
إن خطورة تبني ازدواجية المعايير من طرف الغرب والنكوص عن القيم الذي بدا واضحا أكثر بعد أحداث طوفان الأقصى والموقف منها، كما يرى الباحث والمفكر العراقي حسين شعبان، تستمد خصوصيتها اليوم من كون هذا النكوص والتراجع عن تبني هذه القيم « لم يعد يقتصر على القوى اليمينية العنصرية بل امتد الى قوى اليسار ورموزه الفكرية في الغرب»، مقدما المثال بالسقطة الأخلاقية للمفكر هابرماس وانحيازه الى نظرية الدفاع عن النفس الإسرائيلية وشيطنة وتجريم المقاومة الفلسطينية. هذا المأزق الأخلاقي أظهر أن الغرب الذي تخلى عن قيمه الإنسانية هو نفسه «الغرب الذي كان يضغط على الشعوب المستضعفة باسم الديمقراطية، وهو ما يؤكد أننا اليوم أمام تجذر قوي، داخله، لمفهوم الدولة العميقة التي يتحكم فيها المجمع الصناعي والحربي».
النكوص أو التواطؤ يظهر أيضا « في تجاهل الغرب لقيم العدلة ممثلة في قرارات المحكمة الجنائية الدولية ومحكمة العدل والتغول عليها، نكوص زاد من مرارة تقبله، الصمت العربي على المستويات الرسمية والشعبية، «ما جعل الفرصة سانحة أمام المشككين في هذه القيم وأولها حقوق الانسان باعتبارها مستوردة ولا تصلح للاستنبات في تربة عربية إسلامية».
ولتجاوز حالة التنكر لتاريخ طويل من إنجازات الحركة الحقوقية العالمية، دعا شعبان إلى العمل على المشتركات الإنسانية، والتي أظهرت أنه مقابل التخلي الرسمي للغرب عن هذه القيم، ظهرت نقلة نوعية على مستوى الشارع الغربي الذي قاد حملة تضامنية واسعة مع الحق الفلسطيني وصلت الى الجامعات الأمريكية، مشددا على ضرورة «إعادة الاعتبار للقانون الدولي الإنساني» الذي ينتهك اليوم دون رد فعل يذكر.
ورغم الهزيمة الأخلاقية للغرب الرسمي، فإن دولا قليلة اختارت السباحة ضد تيار تبرير الهمجية الإسرائيلي، وفي هذا السياق أشاد الممثل السامي لتحالف الحضارات بالأمم المتحدة ووزير الخارجية الاسباني السابق أنخيل موراتينوس، بموقف بلاده «الشجاع والعادل» الذي اختار الاصطفاف إلى الشرعية والاعتراف بالدولة الفلسطينية، موقف أرادت من خلاله مدريد إيصال رسالة الى المجتمع الدولي مفادها أن حل القضية الفلسطينية يمر عبر الاعتراف بالدولة أولا ، معتبرا أن المقاربة السابقة التي كانت تؤجل خطوة الاعتراف الى ما بعد نجاح مسلسل التسوية والمفاوضات، كانت خطأ استراتيجيا وسياسيا، وترجمة فعلية لازدواجية المعايير في القانون الدولي، حيث اعترفت الأمم المتحدة بإسرائيل في حين تطلب من الفلسطينيين أن تكون «دولتهم نتيجة مسلسل طويل من المفاوضات، وهو ما لا يستقيم والفكرة القائلة بحل الدولتين، فبدون هذا الاعتراف الذي تضغط إسرائيل لمنع حدوثه لن يتحقق السلام مستقبلا»، كما أن استمرار إسرائيل في أعمالها الوحشية يسائلنا عن إمكانية وجودها وتعايشها وسط الدول الأخرى».

 

عمرو موسى: نعيش اليوم مذلة قومية

«الدول والشعوب العربية تعيش اليوم مذلة قومية وتواجه انحطاطا أخلاقيا وسياسيا». بهذه العبارة الموجعة، لخص الأمين العام السابق لجامعة الدول العربية عمرو موسى، الوضع العربي اليوم. وضع زاد من تأزيمه الانتهاك الصارخ للقانون الدولي من طرف ما تسمى ب»الدولة الديمقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط»، ديمقراطية من آلياتها الدمار والإبادة والتقتيل والتجويع، عجز مجلس الأمن عن استصدار قرار بوقف مجازرها الدموية التي جعلتنا «نشعر جميعا بالذنب إزاء هذا الصمت وعدم التحرك» بعد أن انبرت الديمقراطيات العريقة في الغرب لحماية هذه الديمقراطية الوحيدة في المنطقة «الديمقراطية في الظاهر والعميقة والدموية في الحقيقة».
ولفت موسى، الذي خبر طويلا دواليب الديبلوماسية، إلى أن هذه المواقف الغربية ساهمت في تراجع الاقتناع بهذه القيم وبوجودها وفلسفتها التي أصبحت اليوم هي خرق القانون الدولي، خرق تقف المؤسسات الموكول لها حماية الأمن الجماعي وحفظ السلام الدولي عاجزة أمامه وأمام ازدواجية خطاب الغرب، والتي «دمرت سلطة مجلس الأمن ومصداقيته ونصوص ومواثيق الأمم المتحدة». وأشار وزير الخارجية المصري سابقا الى أن ما يعمق هذا العجز هو «الصمت العربي الذي يضعنا كشعوب في حالة انحطاط سياسي، يزيده من هشاشته الانقسام الفلسطيني – الفلسطيني في وقت يتطلب الوحدة ورص الصفوف للخروج بموقف موحد في هذه المرحلة الدقيقة من عمر القضية» والتي من أهدافها المبيتة «إخراج القضية الفلسطينية من دائرة القضايا الملحة»، وهو ما يتبين من قراءة مخرجات قمة المستقبل بالأمم المتحدة في شتنبر الماضي، والتي «لم تقدم وصفة لإنهاء الوضع الخطير الذي ساهمت فيه دول تتشدق بالديمقراطية لكنها بممارساتها الانحيازية «تضرب الديمقراطية في مقتل» وتجعلها «مجرد مسرحية».
وشدد موسى على أن حل الدولتين المطروح لا يمكن قبوله دون الاعتراف بدولة فلسطين مستقلة وقائمة في حدود يونيو 1967 ،والتي تشمل القدس الشرقية وقطاع غزة والضفة.

 

محمد المعزوز: نحن إزاء تشكل وعي جديد بـ «اللاعالم»

وضع الأكاديمي والروائي المغربي محمد المعزوز الأصبع المشرط على الجرح النازف، وهو يقارب موضوع “الديبلوماسية الدولية الجديدة والعدالة الكونية” بمنتدى أصيلة، أول أمس السبت 26 أكتوبر، في ظرفية دولية دقيقة ميسمها الرئيس ما يحدث اليوم في غزة من إبادة جماعية. ولفت المعزوز إلى أن تاريخ الأزمات يعلمنا أنه “كلما حدثت أزمة عالمية إلا وتتحول الى تراكم فكري يؤطرها ويحاول تجاوزها”. وأبدى المعزوز عدة ملاحظات بخصوص وضع الدبلوماسية الدولية اليوم أجملها في :
1-حصول إجماع دولي على كون القوانين الدولية “أصيبت بسكتة دماغية جعلت العالم في حيرة وتشكك من جدوى حقوق الإنسان ومعاني العدالة وأدوار الديبلوماسية الجديدة”، مشددا على أن هذه السكتة “تضعنا أمام إشكالية تحديد أدوات مقاربتها: هل بالمنطق الفكري لما قبل 7 أكتوبر2023، أم بعدة معرفية ومفاهيمية جديدة تقطع ما كل ما سبق؟” لأن كل ما حدث اليوم وكل ما ارتبط به كحصيلة في النظام العالمي،منذ بداية القرن 21 ، يتصل أساسا بمظاهر الأزمات كانتشار الأوبئة والحروب وأزمة المناخ، الشيء الذي بشر بتسويق النموذج الأمريكي الذي يحاول فرض قيمه كقيم إنسانية ، معتبرا أن هذا الفرض “يشرعن للقوة” .
2- القانون الدولي لم يعد بناء قانونيا تنظيميا بل بناء فكريا ينتصر لليبرالية الجديدة، بحث لا يمكننا اليوم عزل اهداف القانون الدولي عن أهداف النيو – ليبرالية التي تدعو إلى تبني النموذج الأمريكي كنموذج كوني للقيم، معتبرا أن هذا الوضع يفرض وقفة فكرية لقراءته بعيدا عن التأويلات القانونية، بل قراءة إبستيمولوجية فكرية وتاريخية، دون إغفال دور الإعلام التيولوجي الذي يروج للقراءات الدينية والتاريخية المؤسطرة. وأكد المعزوز على أن “محتوى العدالة، بعد 7 أكتوبر، نزل من دائرة البديهيات ليلتبس بالديمقراطية ليصبح من المسلمات، ثم لينحدر اليوم إلى دائرة الجدليات”، مسجلا أنه “لأول مرة يصل هذا المفهوم الى الحضيض الذي يعني التحيز والتموقف المسبق.”
3- زعزعة الثقة في آلية الحوار كبعد من أبعاد الدبلوماسية الجديدة وأداة للتفاوض، حيث لم يعد له دور في الاقناع خاصة مع أمريكا وإسرائيل.
4- تسيد الحقيقة العارية التي تمثلها تكنولوجيا الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي، حيث تم التطبيع مع صور الدم والخراب، حتى أصبحت هذه الوسائل هي النقد الموضوعي لمعنى العدالة، وهو ما يضعنا أمام حقيقة مرعبة تتمثل في كوننا “أمام هدر فاضح لآدمية الإنسان”، لافتا الى ان خطاب التكنولوجيا اليوم هو الذي عرى المستور وفكك الشرعيات بكل الدلات التي تحملها.
وخلص المعزوز الى أن هذا الوضع المأزوم كان من خلاصاته، تشكل وعي جيلي جديد بـ”اللاعالم”، الذي يقوم على منطق العنف وحده والذي لم يجد الجيل الجديد مهربا منه إلا بالانفصال عنه واللجوء الى العالم الافتراضي، عالم حين الخروج منه تبدأ فقط دلالة العنف أو انبعاث المقاومة.

نبيل لحمر : القادم هو الانفلات في استخدام القوة والقوة المضادة

ناقشت الجلسة الثانية من ندوة العدالة ونظم الديمقراطية» والتي سيرها أستاذ العلاقات الدولية تاج الدين الحسيني «مكونات البينة القانونية الجديدة للعدالة»، التي لا تزال المؤسسات الموكول لها حماية القانون الدولي، تؤطر وتسيّر وفق البنية القديمة التي وضعت بعد الحرب العالمية الثانية. وفي هذا الإطار تبقى المبادئ النظرية للعدالة والديمقراطية وحقوق الإنسان، حسب مستشار ملك البحرين في الإعلام نبيل الحمر، مجرد «شعارات يوظفها الأقوياء تبعا لمصالحهم وللهيمنة على شعوب العالم»، معتبرا أننا نعاني في الشرق الأوسط وإفريقيا من التعامل مع الأنظمة ذات النفوذ السياسي والعسكري، وهو ما يظهر بجلاء وقت الأزمات، حيث تتبدى ازدواجية المعايير بوجهها الفج خاصة عندما يتعلق الأمر بقضايا العالم العربي.
وفي نفس السياق، لفت الحمر الى ان قيم العدالة وحقوق الإنسان كلها «عناوين جذابة ومغرية، لكنها في الواقع تمارس كما يريد الآخر الغربي، لا كما نريد نحن كشعوب» حين يتم تجاهل خرق القانون في بلدان وأنظمة معينة تلتقي أو تتقاطع مصالحها مع هذا الغرب» مقابل «توجيه الاتهامات وتدبيج التقارير الدولية عن خرقها في العالم العربي والإسلامي» الذي يتم الضغط عليه واحتواؤه، بل يصل الامر أحيانا الى مرحلة التدخل العسكري وتهديد سيادته.
ولم يغفل الحمر دور وسائل الإعلام الغربية التي «تلعب دورا مهما في تشكيل وصناعة الرأي العام الغربي حول القضايا العربية عبر «تسليط الضوء على بعض الصراعات وإغفال أخرى» في عملية تضليلية للرأي العام الغربي، مقدما المثال بالحرب الروسية – الأوكرانية والحرب الإسرائيلية – الفلسطينية. وخلص الحمر الى أن هذه الازدواجية اليوم تضعنا «أمام تحد كبير للقيم الإنسانية، تحد يتطلب «شجاعة وإرادة حقيقية لإعادة النظر في السياسات والممارسات التي لن تؤدي إلا الى عنف مضاعف جوابا على تلك الجرائم الوحشية التي ترتكب اليوم في غزة».
السفير اليمني السابق مصطفى نعمان، يرى أنه من العبث والسخرية القاتمة أن «يستمر الخطاب الغربي في تقديم الدروس حول العدالة والحريات»، خاصة أن وسائل التواصل الاجتماعي عرت زيف هذه الشعارات، وكشفت تحيز وسائل الإعلام الغربية لوجهة النظر الإسرائيلية، لافتا إلى أن كل هذا الانحياز وتبرير جرائم المحتل سيخلق لا محالة «جيلا متطرفا تحدوه رغبة الانتقام».
أمام بخصوص البنيات القانونية الجديدة للعدالة، فجزم نعمان بأن لا لغة تنتصر على لغة القوة اليوم، محذرا من أن «القادم هو الانفلات في استخدام القوة والقوة المضادة».


الكاتب : أصيلة: حفيظة الفارسي

  

بتاريخ : 28/10/2024