ملحمة جيل كامل من العراقيين في المنافي البعيدة
رواية» بابو» صدرت عن دار الشؤون الثقافية في بغداد 2024 وهي الرواية الثامنة للكاتب العراقي فيصل عبدالحسن بعد خمس مجاميع قصصية كتبت خلال ثلاثة عقود ماضي،ة وصدرت في العراق وخارجه.
حكاية بابو ليست حياة فرد عراقي عاش في المنفى بطاقات خارقة ذكرتنا بالشخصية العراقية المتحدية لظروفها الصعبة عبر التاريخ، وبدت لقارئ أخبارها والسامع تفصيلات حياتها أنها كانت حياة رجل يمتلك طاقات خارقة، وأنه نال مميزات فوق الطبيعية في طفولته أهلته ليقوم بكل تلك الأدوار خلال حياته القصيرة في ما بعد، ومن المتوقع لحياة هؤلاء الخارقين للعادة أن تكون مملوءة بالمغامرات والنجاحات والإخفاقات، لكنها في كثير من الأحيان تنتهي بشكل دراماتيكي.
يقول الناقد جمعة عبد الله عن رواية بابو « إنها ملحمة جيل كامل من العراقيين الذين غادروا بلدهم العراق إلى المنافي البعيدة، وعانوا الحرمان وروَّضوا قدراتهم الذاتية ليفوزوا أخيراً بما حلموا به: الحب والمال والشهرة، وتذكرنا فصولها بقصة سيدنا يوسف (ع) وإخوته الذين رموه في البئر حسداً، لتمكنه من الفوز بقلب أبيه ولكن رسم الله له مصيراً آخر، ونهاية سعيدة غير تلك التي تمناها له إخوته. «
موقد الأمل
سحر شخصية بابو لا ينبع من إعاقاته المتعددة وحياته المملوءة بالفرص الصعبة والمغامرات والخسارات بسبب الخيانات التي يتعرض لها من أقرب المقربين له، بل إن سحره الشخصي يأتي من لطفه ورقته وحبه للناس، وعمله للخير في كل مناسبة، وباختصار إن الحياة تبقى بالنسبة لبابو وأمثاله الموقد الذي يصنع فيه الأمل والنجاح والفرح في النهاية، مهما بلغت فداحة الخطوب التي تواجهه، ليخرج بعد كل ذلك كالخبز الساخن طيب المذاق يحتاجه الجميع في كل زمان ومكان.
يقول الكاتب عن روايته:» بابو أهم عمل كتبته خلال الخمس سنوات الماضية عن حياة طفل مبارك يلقبه الأهل و الجيران «بابو»، الطفل المعجزة، الذي كبر وله قدرات تفوق قدرات البشر العادية، مما يسمى عند هذه الفئة من الأطفال في الغرب بالتأخر المعرفي، ونمو ظواهر معرفية خارقة للعادة لدى هذا النوع من الأطفال بدلاً مما فقدوا من حواس طبيعية. “ Cognitive Domain”
صُرّة الكليجة
يضيف الكاتب:»أمضيت الكثير من الوقت وبذلت الجهود المضنية، لدراسة ميدانية ومعرفية لهذه الحالات الغريبة والخارقة لدى هؤلاء الأطفال، ومنهم على سبيل المثال تجربتي الشخصية مع ولدي الصغير، الذي أصيب بالإعاقة بعد ولادته مباشرة، فكانت معاناتنا الطويلة في تتبع حالته الصحية والبحث عن علاج له، ومحاولة تقويم حالته وجعل آثارها أقل ما يمكن على حياته ومستقبله، وفي فرص تعليمه وخلق الأسباب لسعادته، وتمكينه للعيش وقد كانت من أشق المهمات في عالم لا يعيش فيه جيداً سوى الأقوياء والأصحاء، وفي بعض الأحيان في المجتمعات العربية حتى هؤلاء لا يتمكنون لظروف الحياة الصعبة من العيش الكريم، خصوصاً خلال غربتنا كأسرة وبصحبتنا هذا الطفل الذي يحتاج إلى رعاية خاصة، ومما زاد الصعوبات تنقلنا من بلد إلى آخر بسبب ظروف بلدنا العراق، التي امتدت لأكثر من ربع قرن في بلدان عربية من بينها مصر والمغرب.»
رواية»بابو» تنتمي إلى ما يسمى بالرواية القصيرة، short novel لكنها محملة بأريج ربع قرن من الفكر والمعاناة والأحداث المتتابعة، سواء في الوطن الأم ـ العراق ـ أو في الوطن البديل، الذي امتد على مساحة شمال أفريقيا ابتداء من مصر وليبيا وتونس وانتهاء بالمغرب.
إن الكتابة عن غربة العراقي وأسرته الذين تركوا وطنهم لأسباب خارجة عن إرادتهم مصطحبين معهم وطنهم المختصر بحقيبة سفر، فيها ملابسهم وكتبهم الأثيرة، وصُرّة الكليجة العراقية التي يحملونها معهم كحرز أينما حلوا، ففيها رائحة الأهل والوطن والعادات والتقاليد وأضافوا إلى هذا الكم من المعاناة: طفلا يعاني من إعاقات مختلفة..
الحب المستحيل
ومن أكثر فصول الرواية دينامية ورومانسية عشق بابو لصفاء، الفتاة الجميلة الهادئة التي تعيش وأسرتها في جوارهم.
سطور رقيقة من الكلمات تحكي قصة الحب المستحيل، بين فتى معاق وفتاة جميلة في كامل أنوثتها وجمالها، تذكرنا مشاهدها السردية بقصص حب مشهورة غير متكافئة، كقصة حب الطبيب والمفكر الفرنسي الكسيس كاريل، الذي نال جائزة نوبل سنة 1912 والذي أحب زوجته حباً جماً، لكنها ماتت عذراء، والفيلسوف الألماني أيمانويل كانط، الذي لم يعط وعداً لفتاة، ولم يرتبط بأي علاقة مع امرأة طول عمره إلا واحدة أنكرته، والكاتب الساخر جورج برنارد شو، والشاعر الايطالي المشهور دانتي، صاحب كتاب «الكوميديا الإلهية» الذي كان يحب فتاة ففضلت عليه عمدة البلد، وقضى علاقته الطويلة معها وهو لم يلمس كفها، أما العرب، فهناك الكثيرون من هؤلاء العاشقين كقيس بن الملوح عاشق ليلى، وقيس بن ذريح عاشق لبنى، وجميل بثينة وكثير عزة وغيرهم، وكلهم قضوا ولم ينالوا من حبيباتهم ما كانوا يتمنونه.
تتناول الرواية طفولة بابو التي اتصفت بالظواهر الخارقة، وقد اعتقد الجيران أن بابو يمتلكها كقدرته على شفاء المرضى، بالخط بعود كبريت على ذراع المريض منهم، فيشفى من علته، وكذلك خوف أسرته على بابو من الذين يمارسون السحر والشعوذة كونه يملك عينين زهريتين، وهما ما يبحث المشعوذون عنهما لدى الأطفال، ليقوموا بخطفهم لاستخدامهم في سحرهم الأسود، فرافقته هذه المخاوف من الغير حتى كبر وصار شاباً مباركاً يملك من القدرات التي لا يملكها غيره.
العودة للوطن
يعود بابو سنة 2006 إلى وطنه العراق مع أسرته بعد تحقيقه ثروة و بعد أن صار مليونيراً من استخدامه لوسائل التواصل التي برع باستخدامها منذ يفاعته، ليواصل عمله التجاري في وطنه، مما جعله يقع في ظروف بلد يعاني من انعدام الأمن وتغيير في كل القيم والعادات التي كان يتحدث عنها والده الحاج ناجي وخالته سعاد، كالمحبة وقيم الوفاء بين أفراد الأسرة، والتكافل. فقد وجدت الأسرة نفسها وجهاً لوجه أمام جشع غير مسبوق لجمع المال بكل السبل المشروعة وغير المشروعة من قبل كل الذين صادفوهم، مما جعل أسرة بابو ذاتها تقع في ذات الصراع بين أفرادها، وفقدت الأسرة بابو المبروك للمرة الثانية بعد أن فقدته في الزمن الأول حين كان طفلاً للمرة الأولى لكنهم وجدوه ، ومرة ثانية فقدوه لكنهم وجدوه هذه المرة بشخصية أخرى مختلفة في زمن جديد تغير فيه كل شيء.