تدجين المثقف وترويضه يكرس اتساع نفوذ السلطة وأجهزتها الأيديولوجية
في ندوة فكرية نظمتها مؤسسة «كش بريس» الإعلامية بمراكش، يوم الخميس 31 أكتوبر 2024، على شرف المفكر العربي والأكاديمي العراقي الدكتور عبد الحسين شعبان، بحضور نخبة من علماء ومثقفي المدينة الحمراء، تسابقت أسئلة الراهن وتداعياته السوسيولوجية والتاريخية، لتعيد صياغة مجمل النظريات والآثار الفكرية التي وسمت رحلة الأكاديمي الموسوعي عبد الحسين شعبان، منهمرة على أنواء الفضاء الجمالي الذي التأمت فيه الندوة، بحديقة اوريكة للنباتات العطرية، مستزيدة من قابلية تفكيكها وتحليلها، على نحو يضاهي قيمة الرجل وعطاءاته في الفكر العربي الحديث والمعاصر.
ذاك ما جاء في تقديم الشاعر والإعلامي د مصطفى غلمان، وهو يوثق مسيرة الضيف ويبرز من خلالها، معالم الصيرورة والانتقالات المتواشجة مع أزمنة وأمكنة، تباهي خطواته الحثيثة، للإمساك بنظام حياة، مليئا بالتحديات والرهانات العصية.
وحيثما أضحى هذا المفكر العربي اللوذعي، يضيف غلمان، يتوقد عطاء ومثابرة ودينامية فكرية وثقافية لا تبلى ولا تركن إلى الخمول، حتى مع ارتداد سنوت العمر وتوالي نبضاته السريعة.
وأكد ذات المتحدث، على أن الدكتور عبد الحسين شعبان، الوجه المشع في سماء اليسار الأخلاقي، المكافح ضد «اللاعنف» و»اللاحرية» و»اللامساواة»، يفر بسنا النهار إلى العلياء، قابضا على جمر التحولات، قارئا عميقا لآثارها وتداعياتها على العقل والوجدان العربي. وأبرز الإعلامي غلمان، أن المفكر عبد الحسن شعبان، بات يشارك شرقا وغربا، في تفكيك بؤر انغلاقاته وتشتته، مؤمنا كعادته الأبدية في الإخلاص لفكره وطريقه وقناعاته، وهو ما يكرس حاجةالعقل العربي إلى جغرافياته المفتوحة وإمكاناته الفكرية والعلمية المجربة.
وعلى نحو يضع الموضوع في السياق ذاته، سرت كلمة الدكتور امحمد مالكي الفقيه الدستوري والعميد السابق لكلية العلوم القانونية بسلطنة عمان، حيث أحاط بمسار حياة الضيف، متنقلا بين نشأته في النجف، وتأثره بالقرآن الكريم، كرافد روحي قيمي، واطلاعه الواسع على المذاهب الفقهية وعلوم الفقه ومقارنة الأديان، ثم انبهاره باليسار الماركسي الإشكالي، والانتماء للحزب الشيوعي العراقي المحظور، ونقد التيار الاشتراكي واليساري.
هذا الاصطلاء المدلهم، في نيران كل هذه القوى الفكرية والسياسية المعقدة، أكسب عبد الحسين شعبان، تجربة حوارية تقدمية غير مسبوقة، أنتجت شخصية كارزمية نقدانية متنورة، أبدعت في شتى العلوم والفكر، والاهتمامات المتنوعة، من علوم السياسة إلى حقوق الإنسان، ومن الآداب والفنون إلى النقد والتحليل الخطابي. ومن مقارنة الأديان إلى العقلانية المنطقية وفلسفاتها المتشعبة.
الكلمة التي ألقاها ضيف المجلس الفكري، الدكتور عبد الحسين شعبان، كانت عبارة عن ردود لصدى ما تم تقييمه في كلمات التقدميين الأولين، محاولا التفاعل مع الأفكار الواردة في كليهما، حيث أكد انتماءه للفكر الماركسي الإشكالي، كمثقف عضوي ومتعدّد، تماهى مع الفكر الماركسي- منالكتب التأسيسيّة عند ماركس، وانجلز، وبليخانوف، وانتقاده لنسختي»الستالينيّة»، و»الجدانوفيّة»، شديدتي القمع والعدوانية والتقوقع.
وأشار شعبان إلى نفوق التجربة الديمقراطية في العالم العربي، بسبب سوء تدبير وفهم «السلطة»، التي تتأبد في يد الحاكم وأذياله، وتسحب كل عناصر الفعل الثقافي والفكري للنخب إلى قاع الاستسلام والخنوع والبهرجة، مؤكدا على أن ضعف مردودية المثقف ناتجة عن قابليته للمسخ والإيغال في تحويله عن أهدافه، ثم تشكيله كما يراد، وبتره عن مهامه ومسؤولياته المجتمعية، موجها انتقاداته تجاه ما اعتبره «رؤية ما بعد الحداثة للثقافة»، التي يرى بالحسم في أبعادها ومراميها،كوعي وكقيمة، متحدثا عنكون الجذر اللغوي للثقافة يعطي الأولوية للبعد العملي،مع ما يربطها بالحياة العملية والممارسة.
وأسقط شعبان بذلك، نظرية التعالي الثقافي، في شكله النافر والمبتور عن أسس بنائه وصيرورته، مردفا، أن مهمة المثقف هو التمرد على السؤال البدهي، وتعميق الرؤية للماوراء، للمغايرة وخلق الطفرة. مبديا رأيه في مفهومية الهوية المتقاطعة والمتجاوزة للحدود الثقافية والزوايا الفكرية الكلاسيكية.
وأكد شعبان، في هذا السياق، على أهمية إعادة قراءة الهوية، والجنسية، والمواطنة. معتبرا، كما ورد في العديد من آرائه التي ضمتها مؤلفاته، ك»تحطيم المرايا – في الماركسيّة والاختلاف» و»دين العقل وفقه الواقع.»، و»جدل الهويات في العراق: الدولة والمواطنة» و «الهوية والمواطنة: البدائل الملتبسة والحداثة»،مشيرا إلى انبثاقات متوالية حول استحضار أسئلة الهويات المتعددة،هل هي هوية ثابتة أو متكاملة دون تغيير، باعتبارها معطى ساكنا وسرمديا، حتى وإن كانت بعض عناصرها قابلة للثبات مثل الدين واللغة؟
ووضع شعبان في هذا النطاق الجدلي، ثلاثة مستويات لتشكيل الهوية : الفردي، الجماعي، والمستوى الوطني والقومي. مؤطرا ذلك بالفهم المقارباتي الذي يذهب إلى تحصينها بالوعي والإحساس بالذات والانتماء إلى الجماعة، كانت قومية أو دينية.
وشكل الدين والتدين والعلمانية محاور مهمة في مداخلة الدكتور شعبان، حيث أكد على أن أي أيديولوجية دينية أو علمانية ، هي بحاجة ماسة إلى إعادة تقييم وإعادة فهم عبر الزمن، فالحاضر كفيل بأن يكشف ما لا يستطيع الماضي أن يكشفه، مضيفا «أن الدين مقدس وعلوي وإلهي. لكن التدين منتج بشري لا قداسة له، والمشكلة ليست مع الدين وإنما مع التدين، معترفا أن إثارة الفكر الديني أو أي فكر لا يهم إلا قلة من الناس، غير هذه القلة هي القادرة على إحداث التغيير. وهذا لا يخص العرب أو المسلمين فقط، وإنما ظاهرة إنسانية يشترك بها كل البشر».