إسبانيا تهدد باستعمال السلاح والجزائر تتوعد بأنها لن تقطع مترا واحدا..!
كان يوم خميس. وكان السادس من نونبر. مثل هذا اليوم، من 49 سنة خلت.كانت سنة 1975. والحشود الملتهبة العواطف، المدججة بالصوت الرباني، والأناشيد الوطنية، تتأهب لالتهام الحدود.. ليلة الأربعاء الخميس، وكان مجلس الأمن يعقد اجتماعه رقم 1853. قضى الليل كله في «دراسة الحالة في الصحراء الغربية».. بدعوة من الممثل الدائم للاتحاد السوفياتي آنذاك، المدعو جاكوب ماليك. وكانت الجلسة المغلقة وقد أستدعي لها ممثلو المغرب وإسبانيا … والجزائر باعتبارهم يمثلون الدول المعنية والمهتمة. إذ وجه أعضاء مجلس الأمن الخمسة أسئلة إلى مندوبي الدول الثلاث.
تفاصيل الأجوبة، تكشف المواقف المعبر عنها. ثم تم رفع الجلسة بعد اتخاذ قرار بدون تصويت بتوجيه نداء إلى الملك المغربي : كان القرار. كالتالي: قرر المجلس. بدون تصويت، توجيه نداء إلى الملك الحسن الثاني، وتم تكليف رئيسه، مندوب روسيا بتنفيذه. اختار هذا الأخير صيغة نداء موجه إلى العاهل المغربي كانت ديباجته كالتالي: رخص لي مجلس الأمن أن أوجه لجلالتكم طلبا ملحا من أجل وضع حد حالا للمسيرة الخضراء المعلن عنها في الصحراء.
كان النداء بوقف المسيرة تتويجا لتحركات متعددة الأقطاب، ومتعددة السرعات، سقطت فيها الأقنعة واستنفدت فيها التكتيكات، وتراجعت وجوه وتقدمت أخرى.
إسبانيا تأرجحت في الفترة الفاصلة بين إعلان المسيرة ويوم اختراق الحدود، بين مواقف متضاربة:
أولها، كان التهديد باستعمال الأسلحة. وقد توالت التصريحات النارية لممثلها في الأمم المتحدة فرناندو ارياس سالفادور، تارة يهدد باستعمال القوة، وتارة يدعو إلى «استعمال السلاح لحماية الشعب الصحراوي».
يوم فاتح نونبر، مثلا وتبعا للتقليد الشهري، ووفق الترتيب الأبجدي، انتقلت رئاسة مجلس الأمن من ممثل السويد إلى مندوب الاتحاد السوفييتي، ياكوف ماليك. استمرت المشاورات المكثفة إلى وقت متأخر من الليل، وكان القائم بالأعمال الإسباني ، السيد أرياس-سالغادو قد أرسل رسالة جديدة تطلب بلاده من خلالها عقد اجتماع طارئ للمجلس بسبب التهديدات الخطيرة للسلم المتولدة عن عدم التراجع عن تنظيم المسيرة الخضراء. وكان مقررا أن يقوم الأمير خوان كارلوس، يوم 2 نونبر، بزيارة للصحراء الإسبانية لتفقد قوات بلاده هناك، علما أنه كان على هذه الأخيرة أن تكون مستعدة للتدخل في حالة تنظيم المسيرة الخضراء فعليا وتجاوزها لحدود الأراضي الصحراوية!
كان العاهل الإسباني خوان كارلوس دي بوربون، قد زار العيون يومين قبل ذلك التاريخ : وخرج بتصريح شديد اللهجة:« تحدث فيه عن شرف الجيش الاسباني الذي لا يمكن التخلي عنه واستحالة التخلي عن سكان الصحراء. في ربط قوي الدلالة بين الساكنة وشرف الجيش…( في وقت كانت الاتصالات بينه وبين الملك الراحل جارية ).
وكان صدى تدخلات ممثل إسبانيا يسمع عند ممثل الجزائر وقتها عبد اللطيف رحال (هو الذي سمي مركز الجزائر الدولي للمؤتمرات أو مجمع قاعات المؤتمرات الذي عقدت فيه القمة العربية الأخيرة باسمه؟)
المندوب المغربي وقتها السيد إدريس السلاوي تحدث عن مفاجأة الموقف الإسباني..
المسيرة الرمزية:
من مقترحات المفاوضات الأخيرة، في الأيام الأربعة السابقة للمسيرة . تم تداول مقترح مسيرة رمزية.
وهو المقترح الذي تقدم به مبعوث الأمين العام وقتها السيد اندري لوين، وهو بدوره روى القصة بالتفصيل: يوم 4 نونبر، وصلت إلى أكادير حيث كان كل شيء يوحي بالاستعدادات للمسيرة الخضراء، وحيث كان الملك الحسن الثاني قد استقر. تم استقبالي بسرعة من طرف وزير الشؤون الخارجية، أحمد لعراقي، وبعدها ذهبت إلى القصر الملكي ليستقبلني الملك بحضور الوزير الأول، أحمد عصمان (الذي كان قد عاد للتو من مدريد) والوزير أحمد لعراقي ووزير الإعلام، أحمد الطيب بنهيمة.
ولأن ملك المغرب كان قد أكد في عدة مناسبات على الطابع الرمزي الذي تمثله المسيرة بالنسبة لبلاده وشعبه، فقد قررت أن يأخذ تبادل وجهات النظر هذا المنحى.
بفعل قوة بصيرته وبعد نظره، انتبه الملك الحسن الثاني على التو لما أبتغي بلوغه. هل جعلته صفاته المميزة كاستراتيجي يفكر في هذا الحل من قبل، أم تراه أدرك فحسب أهمية هذا السبيل الذي يجعله يحافظ على المسيرة الخضراء دون المجازفة بأن تتحول إلى معركة قاتلة؟ هل كنت فعلا مقنعا، أم أنه أراد إكرام ممثل الأمم المتحدة عبر جعله يعتقد أنه صاحب هذه الفكرة التي سبق له شخصيا اتخاذها في قرارة نفسه؟ لست أدري، لكنني اقتنعت أن خطوة جبارة قد تحققت في اتجاه السلم: ستكتسي المسيرة الخضراء إذن طابعا رمزيا، وسيتوقف المشاركون فيها عن التقدم قبل الوصول إلى الخطوط العسكرية الإسبانية. ما تبقى الآن إذن هو «تسويق» هذا الحل لباقي العواصم.
«الآن، وأنت تعرف بشكل أفضل الوضعية، انس أنك دبلوماسي وموظف أممي؛ أعرف ما قمت به لإعادة العلاقات بين غينيا وفرنسا؛ سيكو توري صديقي مثلما كان صديق والدي محمد الخامس؛ ورئيسكم فاليري جيسكار ديستان صديقي أيضا. يمكنك أن تحدثني بصراحة، كما فعلت معهما خلال تلك المفاوضات الحساسة. هل تعتقد أنني كنت مصيبا حين تصرفت كما فعلت وأنا مقتنع بأن ذلك في مصلحة بلدي؟»
أجبته دون أن أمنح لنفسي وقتا للتفكير كما يقتضي ذلك السؤال.
«جلالة الملك، أعتقد أنك ستنجح آنيا في ما يمكن أن يبدو مثل رهان مدهش، وأن المستقبل القريب سيعطيك الحق. لكنه سيتم الاستناد إلى كثير من المبادئ، كما أن قوى كثيرة ستتحالف قصد حرمانكم من تأبيد نجاحكم وستسعى إلى جعلكم تدفعون ثمنه. إن الخطر بالنسبة لكم يتموقع إذن في المدى البعيد. فهل ستتوفر لديكم وسائل مواجهته؟»
أجابني الملك بأنه ليس لديه نفس تفكيري، وبأنه مقتنع بكونه على صواب، وبأن سياسته ستضمن المستقبل بشكل نهائي».
في الواقع يوما قبل المسيرة وصل المبعوث الأممي إلي الجزائر والتقى بالرئيس هواري بومدين ونقل إليه ما جري مع الحسن الثاني، حسب ما رواه هو. نفسه :«، استقبلت على الفور من طرف الرئيس بومدين الذي أنصت بإمعان للمعلومات التي قدمتها له حول لقاءاتي السالفة. وقد جعلني أكرر عدة مرات تفاصيل ما قاله لي الملك الحسن الثاني. بعدها، وعيناه تشعان أحيانا بشرارات مقلقة، رد بأن المسيرة الخضراء تشكل «أمرا واقعا» غير مقبول، وبأنه لا شيء سيجعل الجزائر تتراجع عن مبدأ تقرير المصير الأساسي. أما التحاق رئيس الجماعة الصحراوية بالأطروحة المغربية،(سعيد الجمالي يعني) فإنه ليس مطابقا للتأويل الذي أضفته عليه الرباط، ذلك أن هذه الهيئة التقليدية ليست تمثيلية بما فيه الكفاية للسكان. كما أن اتفاقا مباشرا بين الرباط ومدريد لن يحل المشكلة. مضيفا أن «القوات المحاربة في الميدان من أجل استقلال الصحراء الغربية والتي لم تستطع أبدا إسماع صوتها، ستواجه بكل تأكيد كل حل لا يرتكز على تقرير فعلي للمصير وستواصل عملياتها لاحقا، وأن الجزائر تتفهمها وستساندها في معركتها إذا اقتضت الضرورة ذلك. أما بالنسبة لتحويل المسيرة الخضراء إلى مسيرة «رمزية» قصد تفادي المواجهة الدموية مع الجيش الإسباني أو عناصر البوليساريو، فقد قال الرئيس بومدين إنه بإمكانه «الموافقة على هذه الفكرة التي تسمح للمغرب «بإنقاذ ماء الوجه» مؤكدا أنه يظل معارضا من الأساس لمبدأ المسيرة نفسه وللمعنى الذي أضفي عليها..» !. في حين تم تسريب شيء آخر.
ماقاله بومدين حرفيا
ليلة المسيرة، والجنود المسالمون على مشارف الأسلاك الوهمية، عممت وكالة فرانس بريس تصريحا للرئيس الراحل هواري بومدين (بوخروبة) يقول فيه للسيد لوين بشكل متعجرف وصاخب:« لن تستطيع المسيرة الدخول لمتر واحد بعد الحدود الإدارية». وقتها كان الدبلوماسي الفرنسي أندري لوين ( 1934 - 2012) هو الممثل الشخصي في قضية الصحراء للأمين العام الأسبق للأمم المتحدة كورت فالدهايم، بعد أن ظل يشغل مهمة الناطق باسمه منذ 1972.
وهي نفس العبارة حرفيا تقريبا التي سيقولها الحاكم العسكري الإسباني سالازار غوميز «أن الجيش مستعد للقيام بمهمته ولن تقطع المسيرة مترا واحدا من الحدود »!
والمفارقة أنه يحكي في الكتاب الجماعي الصادر باللغة الفرنسية تحت عنوان» المسيرة الخضراء ( منشورات بلون، 1990)، الذي كتب مقدمته الراحل الحسن الثاني. موقفا آخر لمن كان يحتل الصحراء الجنرال فرانكو. ينبئ بالعكس: « إذا لم يعد هؤلاء السكان يرغبون في بقاء إسبانيا، فمن الواضح أنه على إسبانيا الرحيل»، طالبا من الأمم المتحدة مساعدة بلاده في مسلسل الانسحاب هذا.. !
في الواقع، يبدو كما لو أن نداء مجلس الأمن ضاع وسط هتافات الحشود العالية والأناشيد وموج المتطوعين المتلاطم مع التكبير والتراتيل. ولم يستجب الملك، الذي كان قد أعلن عن المسيرة يوم صدور الرأي الاستشاري لمحكمة العدل بلاهاي، في 16 أكتوبر من نفس السنة. في خطاب للأمة نقله التلفزيون، أنه سيقود شخصيا وقريبا 350 ألف مدني مغربي في مسيرة خضراء سلمية وبدون سلاح إلى العيون، عاصمة المنطقة الواقعة في جنوبها، وأنه سيتم اجتياز الحدود يوم 28 أكتوبر، وظل المغرب وملكه ونخبه وشعبه يتفاعلون على ضوء ردود الفعل، لاسيما من دولة الاحتلال إسبانيا ودولة المنازعة الجزائر.. دولة موريتانيا حديثة النشأة وقتها.
وتم تسويق التفهم المغربي على أنه قوبل بالمسيرة الرمزية.
وفي هذا السياق تفاعلت الصحافة الوطنية مع الموضوع، وكانت المحرر تكتب بقلم الشهيد عمربنجلون. أما إسبانيا فقد اقترحت إلغاء المسيرة أو تحويلها إلى مظاهرة رمزية. على أن يتم استقبال المسيرة من طرف الحاكم العسكري الإسباني. وهنا« كان المطلوب من المغرب الانتقال بالمسيرة من تحرير الصحراء إلى تكريس الاحتلال..
فشلت المسيرة الرمزية، وفشلت الضغوط .. وانطلقت المسيرة.
في سياق الردود والتتابع المحموم للأحداث أجرت القناة التلفزيونية (ام بي سي) حوارا مع جلالة الملك نقلته الصحافة الوطنية كلها، في ما يشبه الرد الاستباقي الذي برع فيه الملك الراحل. حيث قال يوم 23أكتوبر جوابا عن سؤال القناة: «هل بوسع الأمم المتحدة أن تفعل ما من شأنه أن يوقف المسيرة ؟ بأن وحده التزام الأمم المتحدة التسليم بعودة الصحراء إلى المغرب يجعل إعادة متطوعي المسيرة ممكنة! » أما إذا كان الطلب هو توقيف المسيرة، فإن الأمر لم يعد يعنيني وحدي بل إنها أصحبت مسيرة الشعب برمته..!
من الأشياء التي تزامنت وقتها، والتي تهم الحاضر وتبعاته.
بورقيبة وعرفات.. البارحة واليوم
في اليوم الذي كانت المسيرة تقطع الحدود وتعبر الأرض المباركة، تداولت الصحافة حدثين مهمين، بالنظر إلى واقع الحال العربي اليوم.
أولهما، وصول مبعوث ياسر عرفات وممثل الثورة الفلسطينية أمين الهندي، الذي سلم الديوان الملكي رسالة من ياسر عرفات وصرح بأنه عبر عن موقف ثابت لا يتغير بدعم وحدة المغرب. وقد كان هو ثاني مسؤول بعثه عرفات بعد المدير المسؤول عن دائرة الإعلام الشهيد ماجد أبو شرار .. وقد صرح هندي بأن منظمة التحرير الفسلطينية تضع كل خبراتها الثورية والنضالية وإمكانياتها في خدمة قضية استرجاع الصحراء المغربية»..
أما الحبيب بورقيبة فقد صرح في اليوم ذاته لوكالة فرانس انتير « “لم تكن هناك أبدا دولة صحراوية، ولو لم تكن اسبانيا لضمت فرنسا هذه المنطقة كما فعلت مع الصحراء التونسية»”، وقال إن الصحراء جزء لا يتجزأ من التراب المغربي.. ووقف بورقيبة يومها على تناقضات الجزائر بالقول:« لا يجب أن يصل تقرير المصيرإلى تفكيك بلدان بكاملها والجزائر وقفت ضد استقلال الأكراد في العراق !
فهل قرأ قيس سعيد إرث بورقيبة؟