بكل مظاهر الاعتزاز والإكبار، وفي غمرة أجواء الحماس الوطني الفياض والتعبئة المستمرة واليقظة الموصولة، تخلد أسرة المقاومة وجيش التحرير وساكنة إقليم خنيفـرة، يومه الأربعاء 13 نونبر 2024، الذكرى العاشرة بعد المائــة لمعركة لهري المجيدة، التي جسدت أروع صور الكفاح الوطني الذي خاضه المغاربة في مواجهة حملات تسرب الجيوش الأجنبية الغازية لبسط سيطرتها على منطقة الأطلس المتوسط سنة 1914، هذه المعركـة التي انتصبت معلمة وضاءة في تاريخ الكفاح الوطني وبرهنت بجلاء عن مدى صمود الشعب المغربي في مواجهة الوجود الأجنبي والتسلط الاستعماري على إثر فرض عقد الحماية في 30 مارس 1912.
فبعدما تم احتلال ما كان يسمى حسب «ليوطي» ب «المغرب النافع»، السهول والهضاب والمدن الرئيسية؛ وبعدما تمكن الجيش الفرنسي من ربط المغرب الشرقي بالجناح الغربي من الوطن عبر تازة في ماي 1914، توجهت أنظار الإدارة الاستعمارية نحو منطقة الأطلس المتوسط، وبالضبط صوب مدينة خنيفرة لتطويقها وكسر شوكة مقاومتها، في أفق فتح الطريق بين الشمال والجنوب عبر هذه القلعة الصامدة، التي شكلت إحدى المناطق التي اتخذها المقاومون ساحة للنزال والمواجهة مع المستعمر الأجنبي.
وقد تأكدت هذه الخطورة من خلال التصريح الذي أدلى به المقيم العام «ليوطي» حيث قال يوم 2 ماي 1914: «إن بلاد زيان تصلح كسند لكل العصاة بالمغرب الأوسط، وإن هذه المجموعة الهامة في منطقة احتلالنا وعلاقتها المستمرة مع القبائل الخاضعة، يشكل خطرا فعليا على وجودنا. فالعصاة المتمردون والقراصنة مطمئنون لوجود ملجإ وعتاد وموارد وقربها من الجيش ومناطق الاحتلال جعل منها تهديدا دائما لمواقعنا، فكان من الواجب أن يكون هدف سياستنا، هو إبعاد كل الزيانيين بالضفة اليمنى لأم الريع».
في حمأة هذه الظروف العصيبة، انطلقت أولى العمليات العسكرية، وأنيطت مهمة القيادة بالجنرال «هنريس» الذي اعتمد في سياسته على أسلوب الإغراء، حيث حاول التقرب من القائد المجاهد موحى وحمو الزياني، الذي كان يرد بالرفض والتعنت والتصعيد في مقاومته. حينئذ، تبين للفرنسيين أن مسألة زيان لا يمكن الحسم فيها إلا عن طريق استخدام القوة. وبالفعل، فقد بدأت سلسلة من الهجومات على المنطقة، وفوض «ليوطي» للجنرال «هنريس» كامل الصلاحية واختيار الوقت المناسب لتنفيذ هجوماته وعملياته العسكرية.
وتمكنت القوات الاستعمارية من احتلال مدينة خنيفرة، بعد مواجهات عنيفة. إلا أن التفوق العسكري الذي أظهرته لم يمكنها من احتواء موحى وحمو الزياني الذي عمد إلى تغيير استراتيجية مقاومته، وإخلاء المدينة المحتلة تفاديا للاستسلام والرضوخ للإرادة الاستعمارية، وسعيا للاعتصام بالجبال المحيطة بخنيفرة، وبالضبط بقرية لهري قرب نهر اشبوكة، وفي انتظار أن تتغير الظروف، خاصة وأن أجواء الحرب العالمية الأولى غدت تخيم على أوروبا.
وما أن ذاع خبر وصول موحى وحمو الزياني إلى قرية لهري حتى سارعت القيادة الاستعمارية إلى تدبير خطة الهجوم المباغت على المجاهدين، غير آبهة بالأبرياء من أطفال وشيوخ ونساء. وفي هذا الوقت، قرر الكولونيل» لافيردير « القيام بهجوم على معسكر المجاهدين، وكان ذلك ليلة 13 نونبر 1914.
لقد تم الإعداد لهذا الهجوم بكل الوسائل الحربية المتطورة، وبحشد عدد كبير من الجنود. وفي هذا السياق، يشير الأستاذ محمد المعزوزي إلى قيام المحتل الأجنبي بتنفيذ خطته يوم 12 نونبر 1914 حيث تحرك بأربع فرق تضم 1300 جنديا، معززة بالمدفعية، وتوجه إلى معسكر لهري حيث قام بهجوم مباغث على الدواوير ومناطق المجاهدين.
لقد كان الهجوم على معسكر القائد موحى وحمو الزياني عنيفا، حيث بدأ في الساعة الثالثة صباحا، وتم تطويق المعسكر من أربع جهات في آن واحد، ليبدأ القصف العنيف، حيث قذفت الخيام المنتصبة التي تضم الأبرياء، وقام الجنود بأمر من «لافيردير» بمهاجمة القبائل المحيطة بالقرية، فيما اغتنم البعض الآخر الفرصة للاستيلاء على قطعان من الأغنام والأبقار ولاختطاف النساء متوهما بذلك الانتصار على المجاهدين الأشاوس.
وانتشرت الآلية العسكرية للقوات الاستعمارية، وقامت باكتساح الجبل لتمشيطه من المقاومة، وبذلك تحولت منطقة لهري الى جحيم من النيران، وسمعت أصوات الانفجارات في كل المناطق المجاورة، وظن قائد الحملة العسكرية المنظمة على لهري أن النصر صار حليفه، وأنه وضع حدا لمقاومة موحى وحمو الزياني والمجاهدين من قبائل زيان والقبائل المجاورة.
غير أنه أصيب بخيبة أمل حينما فوجئ برد فعل عنيف من قبل المجاهدين، ليدرك أنه ألقى بنفسه وبقوته في مجزرة رهيبة وحلقة مغلقة لا سبيل للخروج منها.
وبالفعل، فقد كان رد المقاومة عنيفا وأشد بأسا حيث زاد عدد المقاومين بعد انضمام سائر القبائل الزيانية والمجـاورة لها وهـي قبائــل اشقيـرن، آيت اسحـاق، تسكـارت، أيت احند، ايت يحيى، آيت نوح، آيت بومـزوغ، آيت خويا، آيت شارط وآيت بويشي، وتم استخدام كل أساليب القتال من بنادق وخناجر وفؤوس، وقد تحمست كل هذه القبائل لمواجهة المحتل للثأر لنفسها ولزعيم المقاومة موحى وحمو الزياني، وأبانت عن روح قتالية عالية. ومما زاد من دهشة القيادة الاستعمارية، الحضور التلقائي والمكثف والسريع للقبائل رغم المسافات التي تفصل بينها.
لقد كانت أرض لهري من أكبر المقابر العارية لقوات الاحتلال، حيث قدرت خسائر القوات الاستعمارية ب: 33 قتيلا من الضباط، و580 قتيلا من الجنود، و176 جريحا، وغنم المقاومون 3 مدافع كبيرة، و10 مدافع رشاشة، وعددا كبيرا من البنادق، كما قام موحى وحمو الزياني في16 نونبر 1914، أي بعد مرور ثلاثة أيام على معركة الهري بتصديه بفرقة مكونة من 3000 مجاهد لزحف العقيد «دوكليسيس» الذي كان قادما من تادلة لنجدة وإغاثة ما تبقى من الجنود المقيمين بخنيفرة، فكبده المجاهدون خسائر فادحة في الأرواح والعتاد.
تخليد معركة لهري المجيدة في ذكراها العاشرة بعد المائة.. تجسيد لأروع صور الشهامة والتضحية دفاعا عن المقدسات الدينية والثوابت الوطنية
بتاريخ : 13/11/2024