أمكنة جديدة للمجاز والمتخيل

جمال أمّاش في ديوانه «ليس في مكان»

 

 

لا تمنحك القصيدة في ديوان «ليس في مكان» للشاعر جمال أمّاش(1) ميثاق قراءة، معلنا وصريحا. ومرد ذلك إلى اعتبارين: الأول كون المعنى الشعري لا يتمظهر كتمثل موضوعي لواقع نسقي، والثاني لجوء الشاعر إلى لغة شعرية موغلة في التشظي وإضمارات حدوس المجاز، وإرباكات افتقاد ذلك التماسك الجوهري، حيث انسجام العالم تطوح به فوضى الإدراك.
تلك أيضا، هي الدلالة الجوهرية للعنوان (ليس في مكان): ال»ليس» كافتقاد وسلب لصوت الكينونة وموقعها. وهي دلالة تتناسل في سيرورة العناوين الفرعية: (اختراع العزلة، خرائب، بصمة الغائب، كلمات تضيع مني منذ أن ولدت، الحياة توجد في مكان آخر، مطاردة الفراغ). كما أنها تطبع الديوان ب»مناخ جنائزي» لصوت الموت، وحلول الرمزية المكانية في المماثلة الاستعارية لصورة «المقبرة».
يمكن اقتفاء تضاريس هذا المناخ الجنائزي في قصيدة «نبيذ الجذور»، نقتبس منها:
(تركتني أبحث عن وجهي في المرآة
والزجاج الذي تكسر
في غفلة منا
لم يعد كما كان..
(..)
قبور شاحبة تضحك من فراغها
قبور نائمة بدون أسماء
ولا تنتظر أحدا
(..)
كلنا في الطريق نمضي بعيدا
إلى لا أحد
وأنت هنا وحيدا
مع الجميع
تترك جسدا للتراب
(..)
نمضي كما جئنا لا أحد يعرف أحدا
مشردين ككلمات غريبة لا رابط بينها
كأننا نمضي إلى عدم بلا أجساد
كأننا نركب قطارا ونعبر في نفق طويل
ولا يعرف أحدنا أحدا.) «ص55 /57 «
هي مرثية لوضع الكينونة في قلب العدم، تذكرنا بالأهوال القيامية للعالم الشعري لمحمد السرغيني في ديوانه «تحت الأنقاض فوق الأنقاض»(2)، والمناخات الجنائزية في شعر عبدالله زريقة(3)، حيث يتسيد الفراغ كفضاء لتصدعات الأكوان المنفصمة. يشحب وجه الكينونة في أفول المعنى كما في الاستعارات التراجيدية لديوان «شذرات نائية من كتاب الغربان» لمبارك الراجي(4)، أو إبدالات نسوخ المرايا في ديوان «حلم أعلى الوسادة» لمحمد بشكار(5). وهي كلها إيرادات تعمدنا الإحالة عليها لموضعة التجربة الشعرية لجمال أمّاش في سياق خرائطية الإبداعية الشعرية المغربية التي يعصف بها سؤال «قلق الكينونة» في مسار واقع يعيد تدوين وترتيب أسمائه وأنسابه بلغة(ما بعد الهاوية).
قياساً بديوانيه «سأم المسافات» و»ملح الفجوات»(6) حيث سؤال الكينونة الشعرية يتساوق بشكل مواز مع تبطينات الأوتوبيوغرافيا الشعرية، فإن هذه البصمة الدالة سابقا تنحجب وتتوارى مندسة خلف محاجب كتابة شعرية(مشهدية) لرسم أوضاع تغرق في(تعبيرية سوريالية)، تزخم بوقع المفارقات، وتصادم الغيريات والأضداد، ومن خلال إبدالات وعي تراجيدي يجرد الواقع من هالته الملحمية، ومن استعاراته المؤسطرة المؤمثلة.
مقابل ذلك يسود واقع اغترابي تتشيد صوره من لغة كمون جوانية التشخيص الرمزي، ومن إيقاعات نثرية/إنشادية (آهلة بالعزف النوستالجي) الذي يضع الذات في مسافة انفصامية مع الواقع، الذي ينكتب من خلال معنى الفقدان المطلق:
(ربما لأن لي إرادة في السفر، أو ربما لي
رغبة في القبض على غربة الكلمات، جلست
أنتظر شعاعا يقفز من تحت غيوم الخريف،
طيفا يدلني على هويتي.
(..)
لا أصدق المرآة، لأنها لا تعرفني.
(..)
شاعر خانته القافية في بيته، وطرد إلى
حانات النثر،
الكأس في يده ولا أحد
يفهم ما يقول
يتسكع من نص لآخر
ومن سرير لآخر
منْ أخذ القلبَ وتركَ له الخيال!؟) «ص106 /107 «

لم تعد مرآة الواقع صافية لانعكاس هوية الذات. كما اللغة استحالتْ(غيمة مجاز) لخريف يتأبّد في عقم المعنى، والحياة قطار يقايض المحطات بالأقنعة، والطريق إلى الذات خطو على هاوية الخسارات، كما تشير إلى ذلك قصيدة «أراض تنقصها الأخوة»:
(أنا سليل الخسارات، أخسر الرهان في الوصول
وأربح حصانا في نهر أو كرسيا على كونتوار
في حانة الكلب.
كان «نيتشه» رفيقا تخونه اللقاءات.
أسلك شعابا لا تعرفها النجوم
وأبدأ كل مرة من جديد
بعد كأس أو جريمة على رصيف الحياة.
نختلف في معنى العدم ونتفق قليلا في سأم اللانهائي
بين مسافتين.) «ص113 «
تسود في كل أنحاء الديوان(استعارة المُنفصل)، باعتبارها الجذر الدال على هوية المتفكك كما في الرمزية الشذرية لدى إدموند جابيس، أو لدى موريس بلانشو(7). ترفض الكتابة (عودة الشبيه) لذا تذهب نحو (هوية المُفارق) وتستبطن «رحم النسيان» بتعبير برنارد نويل (حيث المنسي في تفكك أشياء العالم يعود كما هو في ذاته، لكن ككلام لكل ما تم فقدانه)(8).
استعارة المنفصل بقدر ما هي تشخيص للتفكك، وافتقاد اللحمة الإنسانية، وبما هي تعبير عن انقطاعات وجودية، ترفض بلاغة الامتلاء، فهي أيضا تؤسس لبلاغة مضادة، تجرد مبنى الاستعارة الكلاسيكية من طمأنينة الوعي المتماثل، أي من ترميزات المجاز الذي ينبني على المؤتلف، ومطابقات الشبيه، وتكريس «الاستعارات الميتة».
لذا يلتجئ الشاعر إلى الحدوسات الداخلية للغة، التي من لا منطق الحلم والاستيهام، ومن المجرى الحر لالتقاء الصدفة باللعب، وانشطار الوعي والذاكرة في زمن لا منتظم. ومن خبل وارتباك المحسوسات تنشأ «استعارات جديدة» تفضي إلى الجوهر المعبر عن صوت الكينونة.
يمكن تلمس أثر هذه السيمياء البلاغية في جعل الشاعر الاستعارة كشفاً من المخزون الثاوي في مباطن اللاوعي، بالاستناد إلى تحرير اللغة من إسقاطات إرثها المعجمي وكثافة الذاكرة الجاهزة، وباستحداث أمكنة جديدة للمجاز والمتخيل، وجعل هوية الأنا الشعري تتشكل خارج دائرة الانعكاس المرآوي المباشر. ذلك الانعكاس الذي يجعل من التكرار إسقاطا، بدل أن يكون فعلا جوهريا لانبناء الأثر المختلف.
يمكننا أن نورد استدلالات شعرية كثيرة لهذه الدينامية التخييلية، لكننا سنستأذن القارئ في إيراد نص شعري دالٍّ بعنوان «الوصول إلى الحد الأقصى»:
(على الطريق الطويلة
ماء غابة وأضواء لا كهرباء فيها
سأذهب إلى الحد الأقصى،
(..)
الكلمات لا تقول كل شيء، ليست متساوية
وتحمل في روحها وحش الشياطين،
الأشجار خيالات مترحلة تتسلق
الريح،
الكون مزحة دائرية
امرأة تبحث عن عشبة الخلد
ثم تغادر قمة ثلج أذابه النسيان.
(..)
تركتُ الماء يختار رافده الأسطوري
وعدتُ إلى نهر لا ينحدر مع العاطفة.
قد تكون الوحدة يقينا إلى شك يؤمن بالضوء
في لمعان الدمع
ولكني اخترتُ اللايقين كإدمانٍ أعاشره في عش بارد.
(..)
كأني أفيق من حلم الأجنحة
الشجرة التي رويتها بعرقي ابتعدتْ كثيرا،
لستُ متعودا على الوصول
مثل عداء وجيد في هذا الفراغ الطويل).»ص98 /99 «

الاستعارة النووية في النص السابق هي(الاستعارة الجلجامشية)، لكن الشاعر ينزع عنها (أثواب الأسطورة)، ولا يتخذها مِسنداً لمماثلة استعارية، الشاعر لا يشبه جلجامش، بل مشاء متحرر من القدرية الإلهية التي تحدد معالم البدايات والنهايات.
الكتابة «خيالات مترحلة» في وجود ينبذ فكرة أن «الكون مزحة دائرية». ومن تصدعات جدار القصيدة الملحمية تنشق أخاديد المسار العبثي حيث تنبت زهرة الشك واللايقين:
(تركت الماء يختار رافده الأسطوري
وعدت إلى نهر لا ينحدر مع العاطفة).
لا إيكاروس في «حلم أجنحة القصيدة»، ولا شجرة تدل على الخطيئة، كل استعارات النص تتشكل من أثر الفراغ والنسيان والصمت والعزلة. الألم الميتافزيقي يسكن أوهام المسافة، بعيداً عن أسطرات النهاية البداية والنهاية.
في نفس السياق، يمكن اقتفاء منحى بلاغي آخر، هو ناتج عن ذهاب الشاعر نحو المجاورة بين الإنشاد الغنائي والتركيبات الشذرية. في هذا المنحى البلاغي الشذري على الخصوص احتفاء كبير ب(وهج المجاز الكنائي). ومرد ذلك إلى كون الصوغ الشذري القائم على كثافة الإيجاز يتحرر من تقابلات التشبيه البليغ، وذلك مقابل فسح المجال للسبك الكنائي الذي يتحقق في مجاورات اللفظ وتداعي الإيحاء التلميحي، والإسنادات الإنزياحية التي لها وقع المفاجأة واللامتوقع، وأثر الدهشة محمولة على مساند اللامحتمل. من أمثلة ذلك، السياقات الشعرية الآتية:
(أنا لا أعتذر أبدا
أتعثر بالصمت
(..)
أنا لا أحد سواي
(..)
أحيانا تخونني اللغة مع «جورج باطاي»
ولا ألتجئ إلى حانة الاستعارة إلا مكرها
لأملأ ثقبا في ناي صدري.
(..)
أنا لا أعتذر أبداً
أُطيع آية القصيدة وأتبع خطاي.) «ص41 /43 «
تنطوي الجملة الكنائية دائما على «أبنية سردية صغرى» تصوغ تخييلها الشعري من إيقاع التجاور وتضميناته المجازية. تملأ الكناية الثقوب والفجوات اللامرئية في جسد اللغة، كما يوضح ذلك الشاعر من خلال الإحالة الرمزية على «جورج باطاي». في الكناية لا يحتاج الشاعر إلى الرمز لكي يعتذر عن (أخطاء النص) التي هي الأثر الموازي ل (أخطاء الكينونة). الاستعارة تضمد الجرح لكن الكناية تعري على النزيف. إنها أشد صراحة في التعبير عن الألم. ذلك الألم الذي يبلغ أقاصيه في ثلاثة نصوص جارحة وهي «لماذا أحب القطارات؟» ص106 ،»الشارع لا تحرسه الملائكة» ص109 ،و»أراض تنقصها الأخوة» ص111 . وهي نصوص شبيهة بمسامير في حلق الكلام يتحشرج فيها صوت مردد:
(لا ثقة في التاريخ
لا ثقة في المرآة). «ص108 «
هوامش الدراسة:
(1) جمال أمّاش: «ليس في مكان»، منشورات بيت الشعر في المغرب،2024 ؛
(2)محمد السرغيني: «تحت الأنقاض، فوق الأنقاض»، منشورات نادي الكتاب في المغرب. 2012 ؛
(3 )عبد الله زريقة: «فراشات سوداء»، دار توبقال،1988 ؛
(4 ) مبارك الراجي: «شذرات نائية من كتاب الغربان»، منشورات الفنك، 2018 ؛
(5 ) محمد بشكار: «حلم أعلى الوسادة»، منشورات بيت الشعر في المغرب،2022 ؛
(6 ) جمال أمّاش: «ملح الفجوات»، إديسيون بلوس،2017 ؛/ «سأم المسافات»، مقاربات، 2021 ؛
(7 )محمد بكاي: «في إزاحة التخوم/فصوص في جماليات التفكيك»، فصل: «الإرجاء وأوديسا البحث عن الكتابة الأصلية. دار الرافدين. 2022 ؛
(8 )برنارد نويل: «كتاب النسيان» ترجمة محمد بنيس، دار توبقال،2013،ص51 .


الكاتب : محمد علوط

  

بتاريخ : 15/11/2024