أوجين دولاكروا: صورة المغرب العتيق

بين رحلة القنصل الفرنسي لويس شونيي (1767-1782) ورحلة أوجين دولاكروا 1 (1832) ، تستوطن مساحة فراغ طويلة في حلقة التأليف الفرنسي حول المغرب. نفهم ذلك حينما نستحضر تفصيلين: الرَّجة السياسية التي خلفتها الثورة الفرنسية ضد النظام البائد من جهة، وانتقال اهتمام الاستشراق الكلاسيكي نحو عوالم الشرق من جهة موازية.كان من الطبيعي أن تضم البعثات السفارية الموفدة إلى مغرب القرن التاسع عشر ، إلى جانب الصحفيين والمصورين والسينمائيين ورجال الأدب، فنانين ورسامين…كما هو الشأن للرسام أوجين دولاكروا الذي كان ضمن أعضاء سفارة م. دو مورناي إلى المغرب سنة 1832.
معلوم أن هذه البعثة السفارية جاءت في سياق خاص، ارتبط بتحول حاسم في طبيعة العلاقة بين أقطار الحوض الغربي للبحر الأبيض المتوسط، كانت أولى ضحاياه إيالة الجزائر العثمانية سنة 1830.لذلك كان هدف هذه البعثة السفارية واضحا منذ البداية: ضمان حصول حياد السلطان مولاي عبد الرحمان تجاه ردود الفعل الجزائرية، ومحاولة ثنيه عن نواياه التوسعية في إقليم تلمسان.2
قبل أن يُقرر دولاكروا التوجه إلى المغرب ضمن بعثة م. دو مورناي بدافع الفضول الفني لمعاينةسحر الجمال الإفريقي، ويتوقف عند أنواره وألوانه وشخوصه…كان قبل ذلك قد اكتسب شهرة واسعة في الوسط الفني الفرنسي برسمه للوحتي “قارب دانتي” و” ومذبحة سيو” إلى جانب لوحات أخرى. وقد مكنته رحلته المغربية من وضع عدد هائل من التخطيطات والرسوم، وكتابة مجموعة من الرسائل التي كان يبعث بها من المغرب إلى أصدقائه، إلى جانب أنه خلَّف دفتر سفر سينشر بعد ذلك ضمن مذكراته. لكن للأسف لم يُقدر لدولاكروا نشر رحلته المغربية مصحوبة برسوماته، عدا رسائله ودفاتر يومياته وألبومات تخطيطاته3التي ظهرت نهاية القرن التاسع عشر.
ما إن يلتقي بصر دولاكروا بجغرافية المغرب بعد رحلة بحرية انطلقت من تولون الفرنسية نحو طنجة في فاتح يناير من 1832م حتى يطلق العنان لمشاعر التلذذ والإعجاب بتذوق الجمال المغربي، ويُظهر تلهفه لاكتشاف أسرار حياة المغاربة المحتفظة بعظمة الأزمنة الغابرة. في شأن ذلك كتب إلى صديقه بييري رسالة يقول: “…لقد جُبت توَّا أطراف المدينة (طنجة)، وعدت وأنا دائخ مما رأيته…ينبغي أن يتوفر المرء على عشرين يد وثمان وأربعين ساعة في اليوم لكي يعطي فكرة عن كل ما يراه…إنني الآن أشبه ما أكون برجل يحلم ويرى أشياء يخشى أن تفلت منه4…”. بعد بضعة أيام يكتب من جديد: “…إن كل ما أستطيع إنجازه لن يكون سوى شيء قليل مقارنة بما يمكن القيام به هنا، في بعض الأحيان تتداعى ذراعاي من العمل، وأنا على يقين من أنني لن أعود من هنا سوى بالظلال…”.
وفي طريقه من طنجة إلى مكناس، ينقل إلينا دولاكروا مشاهد من وقائع السفر: مشاهد طبيعية متنوعة، أنهار سائلة5، ألعاب فروسية، وحفل استقبال السلطان6 وطائفة عيساوة7…لم يكتب لدولاكروا أن يكتب لكي ينشر، بل ليصور ويرسم. فقد كانت ملاحظاته عبارة عن وثائق لرسم لوحات وليس لتأليف كتب.8 علينا أن ننتبه إلى الطابع التصويري لهذه الملاحظات فقط، وأن نُركز على دقة ملاحظاتها ووضوح إشاراتها.
في سياق انكبابه على رسم مائي لإحدى العيون المائية في ريف طنجة الذي للأسف لم يكتب له الكمال، يسرد دولاكروا واقعة طريفة عن ما جرى:”…بينما كنت مستغرقا في رسم عين للمياه في ريف طنجة، كانت هناك فتاتان تغسلان الثياب، وبما أنهما كانتا وحيدتين فإنهما لم تحتجبا عن أعين الغريب، بل يبدو أن إحداهما زادت من جرأتها، وتطوعت للوقوف أمامي كاشفة عن شيء من محاسنها…وعلى حين غرة سمعت أصواتا غاضبة وظهرت جماعة من المغاربة مزبدين ومرعدين، ولم أسلم من هذا المأزق إلا بفضل خفة فرسي الذي كان قد بقي، لحسن الحظ، على مقربة مني…”.9
بالنهاية، يعمد دولاكروا إلى استدراج القارئ، عبر لوحاته، إلى استكشاف روح العتاقة في حياة المغاربة. يُظهر دفتر الرسم الذي تبقى من رحلته المغربية تعبيرات دالة على هذا المنحى من قبيل: “هذا شعب شديد العتاقة” ” إنها العتاقة التي ليس أجمل منها شيء”…وكلما زاد في إمعان النظر في حياة المغاربة، كلما زاد تأكيده على عتاقة هذا الشعب، وترسخ في ذهنه بتوالي المشاهد، وتعدد الأشخاص المغاربة الذين لاحظهم: “…إن مشاهد هذا البلد ستظل ماثلة بين عيني، وأناسه سيظلون يتحركون على الدوام في ذاكرتي. ذلك أنني عبرهم اكتشفت حقا العالم القديم…”.وعموما نقلت لوحات دولاكروا إشارات حول الأشياء والناس والألوان والحركات والإيماءات والألبسة والأثاث والمعمار والجياد والزفاف…بدقة فائقة جعلته ينقل أدق التفاصيل والجزئيات.

 

مراجع

لوبيل لوران، الرحالة الفرنسيون في بلاد المغرب، من القرن السادس عشر إلى ثلاثينيات القرن العشرين، باريس 1936، تعريب حسن بحراوي، دار الأمان، الرباط، 2017، ص 91.
– نشرت رسائل المغرب من طرف م. بورتي سنة 1888م ضمن مجلد كبير جمعت فيه مراسلات دولاكروا. بينما مذكرات السفر فقد أدمجت في كتاب نشره بول فلات سنة 1893م.
– لوبيل لوران، الرحالة الفرنسيون في بلاد المغرب، من القرن السادس عشر إلى ثلاثينيات القرن العشرين، باريس 1936، م س، ص 91.
نفسه، ص 92.
– لوحة نهر سبو سنة 1839.
– لوحة “حفل استقبال السلطان عبد الرحمان” التي عرضت سنة 1845م، توجد اليوم في متحف تولوز.
– لوحة عن طائفة عيساوة تحت عنوان ” مختلجو طنجة” سنة 1838.
– لوبيل لوران، الرحالة الفرنسيون في بلاد المغرب، من القرن السادس عشر إلى ثلاثينيات القرن العشرين، باريس 1936، م س، ص 97.
– نفسه، ص 100.
– لوحة ” صدام فرسان مغاربة” سنة 1834 التي تظهر معركة بين جوادين.
– لوحة زفاف “يهودي في المغرب” التي عرضت في متحف اللوفر سنة 1841.


الكاتب : عبد الحكيم الزاوي

  

بتاريخ : 15/11/2024