قصة قصيرة .. رقص فوق راحة يد أرسطو

 

رقصوا كلهم. كلهم رقصوا بدون استثناء. الذين رقصوا في البداية تعبوا. الذين رقصوا في النهاية، ظنوا أنهم لن يحظوا بفرصة أخيرة لتحويل أجسادهم إلى أحبال تتلوى كثعابين، وفجأة تُطْبِق بأفواهها على الهواء السائب، والذي كان نحيلا إلى درجة أن الكثيرين ظنوا أنه سينقرض لا محالة. لذلك خروا مغشيا عليهم جميعا؛
الذين رقصوا لأنهم كانوا قد ارتدوا ملابسهم الفاقعة الألوان، ولم تكن أمامهم أي فرص أخرى لإظهارها، إذا تركوا هاته الفرصة تفلت من بين أياديهم. الذين رقصوا فقط، لأن الظرف الاستثنائي يستدعي ذلك، ولكنهم في قرارة أنفسهم كانوا لا يريدون أن يبدوا مثل ديكة غبية تستعرض فحولتها أمام دجاجات التفقيس المستعجل في درجات حرارية عالية. الذين رقصوا لأن أجسادهم لا تحتمل المكوث الطويل فوق صهوات كراسي غير مريحة وشبيهة بأقفال قديمة، كانت تختم بها أبواب الأديار والكنائس في تخوم جبال إيطاليا. الذين رقصوا مثل من أصيب بلوثة، بحيث حركوا الأجزاء السفلى من أجسادهم بشكل سريع لا يمكن لك التحديق فيه لوقت طويل، وإلا ستصاب بالعمى، أو على الأقل بالحَوَل في إحدى عينيك، أو هما معا. الذين رقصوا بعد أن تمت المناداة عليهم. فبعد أن سمعوا أسماءهم، وهي تخرج من أفواه مكبرات الصوت مشوبة بذبذبة لذيذة، قفزوا من أماكنهم دون أن يرتدوا جاكيتات بذلاتهم المكوية بعناية منقطعة النظير، والتي تركت وحيدة مثل فزاعات في حقل أندلسي. الذين رقصوا لأنهم لم يسمعوا أسماءهم تخرج من فوهات هاته المكبرات الصوتية، ولكنهم قاموا من أماكنهم رغم ذلك بتثاقل كبير، وهم يروضون إحساسا بالندم، والرغبة في الانتقام، أو على الأقل في تكسير شيء ما، لذلك رفسوا أرضية حلبة الرقص بشكل وحشي، حتى اعتقدت أنهم لا محالة سينتهي بهم الأمر في مخفر الشرطة، أو على الأقل سيكونون قد كسروا الإسفلت، أو أدموا أخمص أقدامهم نتيجة الضرب بقوة كمن يرغب في قتل إحدى الزواحف المؤذية دون جدوى، لأنها كانت تفلت منهم بشكل لا يمكن السيطرة عليه أبدا. الذين رقصوا بعد أن أصيبوا برهاب شبيه برهاب الأماكن المغلقة، وهو رهاب معدٍ جعل الجميع في الختام يهتز أو يحرك يديه، أو ينخرط في تصفيق هستيري شبيه بذلك الذي كان يتخلل خطب قُوَّاد فاشيين مُفَوَّهين. الذين رقصوا لأن أمهاتهم كُنَّ هناك، و أرادوا أن يرسموا بسمات على شفاههن، وإن كانت ابتسامات شبيهة بانفراج أبواب كانت موصدة منذ زمن طويل، والتي يرافق انفتاحها ذلك الصرير المؤذي للقلب، والذي يتماهى مع ذلك الحزن الكثيف الملقى بحزم شديد على أعينهم كأردية المحاربين القدامى، والذين لم يكن لهم بَدٌّ من ارتداء تلك الأقمصة الشبيهة برسومات أطفال جادِّين في رسم مضلعات صغيرة جنبا إلى جنب، بحيث لا يتوقفون عن تدبيجها إلا بعد نفاذ البياض في الأوراق الموضوعة أمام أعينهم. الذين رقصوا بعد عودة الإنارة من جديد بعد انقطاعها لأكثر من نصف ساعة مغتنمين الفرصة، وخائفين من انقطاع الكهرباء مرة أخرى، فلا يحضون بأي فرصة في الرقص. الذين رقصوا ناظرين إلى نجوم السماء في أعالي خيالاتهم، كما لو كانوا يمنون أنفسهم بواحدة منها، أو كانوا يريدون اللحاق بالغيوم التي كانت هي الأخرى ترقص فوق رؤوسهم في طقس احتفالي تترأسه الغيوم المسنة، و الشبيهة بأحذية ذات أعناق طويلة كآلات كونترباص مستعدة للرحيل إلى أمكنة نائية من السماء. الذين رقصوا وهم ينظرون إلى أسفل، كأنهم كانوا يخافون أن تخسف بهم الأرض من تحت أقدامهم، نتيجة الخطايا والكبائر التي ارتكبوها، لذلك حاولوا، قدر الإمكان، أن يرقصوا بهدوء محركين أقدامهم بشكل سلس في مشهد كان يبدو، من حين لآخر، بليدا، وبدون معنى، بحيث ظلوا على تلك الحال لمدة طويلة قبل أن تنطلق أقدامهم كأنها بَرِئت من مرض خبيث كان يقيد حركاتها، بحيث تحولوا إلى خيول جامحة تجري في حقول مليئة بالسواقي والمروج الصغيرة التي كانت تجعل رشاشات المياه تتقاذف إلى أعلى مالئة أجسادهم بالوحل، و بقايا العشب المطحون، لذلك كان هؤلاء الراقصون، من حين لآخر، يستعملون أياديهم لنفض بقايا الوحل، أو ما يمكن أن يكون كذلك، إذا كنا سنعتبر رقصهم بمثابة استعداد لحروب مفصلية في تاريخ قبائلهم غير المجيد، بحيث كان يمكن بسهولة تمييز مشاعر الندم واليأس التي ارتسمت على وجوههم. كما أنهم في أحايين أخرى كانوا يضعون راحات أياديهم تحت أذقانهم في حركات مثيرة للشفقة، ومنهم من مسد على شعره ببطء شديد، كأنه كان يخفف وطأة عارٍ لحق به، أو لعنة أصابته. الذين رقصوا، كأن هاوية كانت تقترب منهم، بحيث كانوا يشرئبون بأعناقهم من حين لآخر، وهم يطلون على الفراغ الذي يحيط بهم، رغم أنهم كانوا يرقصون داخل حلبة رقص عصرية مجهزة بكاميرات رقمية ذات جودة عالية، لكن لا أحد أخبرهم بذلك، لذلك استمروا في حركات الإشرئباب قبل أن يُدْعوا إلى حصة شاي جعلتهم ينقذون أنفسهم من شر حتمي عائدين إلى مجالسهم، وهم لا يصدقون أنهم لم يصابوا بأي أذى، بل منهم من تحسس جسده مليا بعد أن أخذ مستقره، بحيث مرر يده اليسرى على يده اليمنى، ثم انتقل إلى تمرير يده اليمنى على ظهره للتأكد من خلو جسده من أي كسور أو جروح، وبقي على تلك الحال لمدة ليست بالقصيرة، قبل أن يتم حشو راحة يده الشبيهة بجحر فأر بكأس شاي، كان سينفلت منه، لولا أن أحدهم قد ضربه على ظهره ضربات خفيفة، تحولت إلى ضربات قوية لإخراجه من هاته النوبة التي لم يعرف أحد كنهها. الذين رقصوا محاولين تذكر رقصاتهم في الطفولة، والتي كانت تتم في حفلات نهاية المواسم الدراسية بعد أن يلبس الذكور منهم أقمصتهم البيضاء المقلمة الأكمام، والإناث فساتينهن المطعمة بالدانتيل، وبالعقيق الأبيض الشبيه بأزهار اللوز، لذلك كان رقصهم محتشما كما لو كانوا يرقصون من جديد أمام معلميهم القدامى متوجسين من ملاحظاتهم القاسية، أو من عقوباتهم التي سيتم تأجيلها إلى حين عودتهم إلى فصولهم الدراسية، كما حافظوا على ابتسامات صغيرة التصقت بشفاههم متحولة مع الوقت إلى أزرار تسد الثغرة التي نتجت عن انفراج أسنانهم التي لم تعد مستوية أو متراصة كما في الماضي، بل نقصت منها أكثر من واحدة، بل منهم من تخلى عنها كلها قاطفا إياها بيديه بعد تحولها إلى براعم ذابلة، أو تخلص منها باستعمال كلاب تقليدي، أو فقط استعان بخبرة طبيب أسنان حسن التكوين الطبي، بحيث أصبحوا كأبطال الرسوم المتحركة بعد أن غزت أفواههم جيوش من الأطقم الإصطناعية التي لم تعد تسمح لهم بالإدعاء بأن ابتساماتهم هاته كانت أصيلة، ما داموا قد استعانوا بحيل مكشوفة لإخفاء خيانات الوقت، وذلك باستثمار عطايا الحداثة، وما بعدها، الموضوعة بسخاء رهن إشارة الإنسان المعاصر.
الذين رقصوا كما لو كانوا يحملون أكياسا ثقيلة على ظهورهم يريدون إيصالها إلى مكان ما، لذلك ظلوا طيلة الوقت مقوسي الظهر مثل مانيكانات في متاجر راقية، بحيث بدت حركاتهم، وكأنها تنم عن ألم خرافي يفتك بظهورهم، بل كانوا فعلا من حين لآخر يصدرون أنينا خفيفا كذلك الذي كان يصدره أيضا سيزيف محاولا حمل صخرته إلى أعلى بينما تتدحرج منه إلى أسفل في آخر لحظة قبل الوصول. كما حملت وجوههم مسحة من التعب مشوبة باصفرار لا يمكن إغفاله، بحيث يعتقد المرء بأنهم سيتقيأون في أي لحظة، لكنهم لم يفعلوا ذلك، بل اكتفوا فقط بإخراج ألسنتهم مثلما يفعل المتسابقون في منافسات العدو الريفي بعد أن يهزمهم التعب، ويحولهم إلى خرق بلاستيكية تركض بشكل مضحك على الطرقات المتربة التي رُسِمت فيما مضى بصعوبة من طرف فلاحين مسنين داخل حقول ذرة لم تكن أبدا جيدة الحصيلة. لذلك بدت تلك الطرقات كسواقي تخلت عنها المياه، لتحولها إلى سيقان سراويل ما بعد حداثية من الطراز الضيق جدا “slim”، بحيث يصبح المرور فيها شبيها باختراق إبرة لثوب ثخين يحتاج إلى فأس كي تستطيع أن تسوي طريقا سليمة وآمنة لعبور إِبَر خياطين هواة بدون كشتبان، تاركين أصابعهم تدمى بشكل مثير للشفقة، بما أنهم لم يجروا أي تداريب لدى خياطين محترفين قبل امتهان الحياة، بحيث لا مهنة لديهم سوى هاته الحياة التي أصبحت مبتسرة مثل نداءات المذيعين في الأسواق الممتازة، والتي لا يمكن فهمها، أو فهم المغزى منها، أو على الأقل لماذا يتم إطلاقها بشكل سريع في فترات الذروة، مما يحولها إلى ألغاز وطلاسم لا يمكن فك شفرتها من طرف متسوقين يريدون فقط الظفر بالسلع المعلن عنها في صفحة التخفيضات داخل الكُتَيِّب الفاقع الألوان الذي وجدوه مقرفصا بدون اهتمام عند أبواب عماراتهم بعد تسريح العسس، أو فقط بعد أن تخلوا عن مهنهم، بحيث استسلموا للتيه داخل مفازات الشيخوخة، متخلين عن رواتبهم الهزيلة، أو بعد أن أصبحوا يخجلون من مهنهم، بعد أن كبر أبناؤهم وحصلوا على مهن مشرفة جعلتهم يضيقون ذرعا بمهن آبائهم التي لا تُدِرّ أي دخل تقريبا؟!
الذين رقصوا قبيل غروب الشمس بقليل، فلم يحظوا بمشاهدة غروبها مثلما يفعلون كل يوم، لذلك فوتوا ذلك المشهد الذي تصبح فيه الشمس مجرد برتقالة بقيت لمدة طويلة داخل ثلاجة دون أن يعيرها أحد أي اهتمام، بحيث بقيت دائما خارج خارطة الرغبة وشِعَابِها. الذين رقصوا بعد أن غربت الشمس مباشرة دون أن يهتموا بأن رقصهم ذاك كان يتم في لحظة تصاب فيها الشمس باليأس، فتلقي بأسلحتها مثلما يفعل المحاربون بعد المعارك الطاحنة، لتحتجب خلف الأفق الذي يكون قد تحول إلى خيمة كبيرة منصوبة في حضن السماء مستعدة لاستقبالها، وهي تعود مساء من الحقول مجهدة ومحبطة أحيانا، بعد أن لم تستطع تلويح كل سيقان السنابل في الكون، معولة على العودة غدا إلى عملها دون أن تطالب بإجازة سنوية أو رخصة مرضية. فالشمس لا تمرض أبدا، كما أنها لا تأخذ أي عُطَل شبيهة بالعطل المدرسية مثلا أو بتلك التي يأخذها موظفو الأبناك أو الوكالات البريدية، بل هي لا تستمتع حتى بعطلة نهاية الأسبوع، لذلك يعتبر يوم الأحد يوم عمل بالنسبة إليها. فحينما نعتقد بأنها قد غَفَت قليلا أو أخذت قيلولتها تكون قد ذهبت لإضاءة سماوات أخرى، ولإنضاج فواكه التين وعناقيد العنب وأكواز الذرة َفي حقول بعيدة من الكرة الأرضية في تقسيم عادل لأشعتها بين سكان المعمورة، دون أن يكون لأحد الحق في التذمر من طريقة عملها، لأن الجميع يدرك مدى عدالتها، ومدى تحليها بالصبر وبالتفاني في العمل دون كلل أو ملل إلا إذا أثنتها الغيوم من حين لآخر عن تقديم خدماتها، بحيث تحتجب قليلا لتعاود الظهور من جديد؛
الذين رقصوا، وهم أكثر ثقة، لأن أحذيتهم التي حرصوا على اشترائها من محلات الشوارع الرئيسية في مدنهم كانت ملمعة بشكل جيد، وكانت إمضاءات الدور التي صنعتها بادية للعيان، ولكنهم رغم ذلك بذلوا ما في وسعهم حتى يعلم الجميع بأنها أحذية راقية أو على الأقل غير عادية، لا تصلح سوى لأقدامهم، بحيث أن كل من ستسول له نفسه ارتداءها سوف تتحول أقدامه إلى رؤوس فؤوس مُسْتَعِرَّة الحرارة كما لو كانت حُمِّيَت تحت درجة حرارة عالية في محل حداد تقليدي، لذلك فلا أحد يمكن أن يجرؤ على ارتدائها غيرهم، وهذا ما كان يجدر بالجميع أن يعرفوه، وإلا فهم مستعدون للتطويح بالجميع بعد ركلهم ركلات قوية كعقاب على جسامة الإثم الذي أقدموا عليه. الذين رقصوا، وهم أقل ثقة، لأن أقدامهم كانت محشوة في أحذية مزيفة مشتراة من متاجر افتراضية عن طريق خدمة التوصيل إلى المنزل، لذلك لم ينقطعوا عن التحديق فيها، وأعينهم تمتلئ بالندم والحسرة، لأنهم كانوا قد علموا تمام العلم بأنهم قد خُدِعوا، لأن جلد هاته الأحذية لم يكن حقيقيا، مثلما أن منظرها لم يكن مقنعا حتى بالنسبة إليهم، فبالأحرى بالنسبة للراقصين الآخرين الذين حرصوا على انتقاء أحذيتهم من متاجر حصلت على حصص إشهارية تليفزيونية تبث في فترة الذروة، بحيث لا يمكن لأحد أن يعترض على جودتها، بما أن الجمل التي كانت تخرج من أفواه المشهرين كانت موضبة بشكل جيد، بحيث بدت، وكأنها أبيات في قصيدة ليانيس ريتسوس، والتي روفقت بخلفية موسيقية مبهرة مقتطفة من مقطوعة موسيقية لهانز زيمر، لذلك فكروا في ركنها في الأركان القصية من خزاناتهم دون رحمة أو شفقة، ودون ذرة إحساس بتأنيب الضمير، لأن هذا ما يجدر بهم فعله، وإلا فإن تجربة الحسرة ستتكرر لديهم، ولن يعذرهم أحد حينئذ؛
الذين رقصوا لأن زوجاتهم البضَّات، والمتسلطات، وسليطات اللسان، والمتبجحات، واللئيمات، والسطحيات، والفارهات كسيارات مرسيديس من الطراز القديم، والجسورات دوما كدجاجات في قرية نائية، والنَمّاماَت مثل عصافير بغيضة من صنف الزرازير، والراغبات في الحديث في كل المواضيع دون أن يكن قادرات على احتمال اعتراضات أحد، بحيث قد يلوحن في وجهه بأي شيء يجدنه أمامهن، والفاترات مثل حصص امتحانات الباكلوريا، والمتنمرات مثل مطر صيفي أفسد أمسية بحرية، والشرهات مثل لبؤات قَلَّ صيد أُسُودِها منذ مدة طويلة، والواقفات مثل سكارى في منتصف عربداتهم قد توفين، ليرحن ويسترحن. قلت الذين رقصوا بعد أن توفيت زوجاتهم اللواتي من هاته الأصناف المذكورة، والتي لا يمكن لأحد أن يعترض على أن غيابهن سيجعل رقص أزواجهن أكثر سلاسة، وأكثر رومانسية، كما أنهم سيطلقون العنان لخيالاتهم ولأحلام يقظتهم التي تتخللها لحظات الظفر المجيد بزوجات أخريات أكثر رقة، و أكثر طيبة، أو على الأقل أقل لؤما ولا يحشرن أنوفهن في كل صغيرة وكبيرة، وأقل بحثا في كنزات أزواجهن عن بقايا آثار نساء أخريات، وأقل تطلعا إلى حيوات أزواج آخرين ميسورين ومحظوظين في مهنهم التي تدر عليهم مداخيل خرافية لا يمكن لهن أن يحلمن بها. اللواتي رقصن بعد اختفاء أزواجهن البخلاء مثل أشجار يابسة وبدون ظل، والماكرين مثل ثعالب، والفاتكين بكل لحظات السكينة مثل ذئاب شرسة، والراغبين في إفساد أمسيات نهاية الأسبوع بسكرهم الفادح وسط أبهاء منازلهم دون ذرة حياء مثل كلاب متوثبة في مهرجانات الصخب الموسمية التي تسمح لهم بها طبيعتهم الحيوانية، والمقصرين في مسؤولياتهم المنزلية وغير المنزلية، والمكتئبين مثل حدائق مهجورة، والساخطين على كل شيء كأيام صيفية تتحول فيها الغرف والمقاهي والطرقات إلى مشاوي عملاقة تلتهم كل أخضر ويابس، واليائسين تماما مثل صباحات خريفية تركب فيها الرياح صهوات خيول غير مروضة وسريعة العدو مثل أنهار سريعة الجريان، والعابسين مثل مضاربين في بورصة بعد نزول قيمة أسهمهم، والمتسرعين دوما مثل أطفال في يومهم الأول بالمدرسة، بحيث ترتجف أياديهم ويخرج العرق مدرارا من مسامهم مثل صيادي سمك تهرب أسماكهم التي اصطادوها بعد لأي من السلال التي وضعوها بجانبهم، بعد أن يكونوا قد خلدوا لغفوات فجائية منتظرين الذبذبات اللذيذة التي ستصدرها صناراتهم، حينما ستعلق بشصوصها سمكات حمقاوات أخريات؛
الذين رقصوا مفكرين في أرباحهم في الحياة فوجدوا أنهم بدون أرباح تذكر. فليست لديهم سوى الخسارات، إذ خسروا كل شيء بما في ذلك كراماتهم وذممهم وتربية أبنائهم وسكينتهم وماضيهم ومستقبلهم. الذين رقصوا مفكرين بخساراتهم، فوجدوا أنهم لم يخسروا أي شيء تقريبا. فعلى الأقل لديهم زوجات قنوعات، وهاته الأجساد النظرة، وهاته القلوب النظيفة؛
الذين رقصوا فوجدوا أن أجسادهم تساعدهم جيدا على الحركة، لكنها نحيلة أكثر مما يجب إلى درجة جعلتهم لا يختلفون عن ضفادع سائبة تنق بدون توقف في ليالي دامسة الظلام. ففكروا أنهم سيلجأون إلى مكملات غذائية ووجبات إضافية، بحيث سيصرفون بسرعة كل ما ادخروه تقتيرا و بخلا. الذين رقصوا فوجدوا أن لهم أجسادا سمينة لا تساعدهم على الحركة بحيث أصبحوا لا يختلفون عن أشجار ملتوية الأغصان عاجزة عن الحركة مهما كانت سرعة الرياح، لذلك فكروا بإجراء عمليات شفط لحوم مستعجلة عند طبيب تركي حينما سيذهبون في رحلات منظمة إلى إسطنبول، أو على الأقل فكروا في اللجوء إلى حميات غذائية صارمة؛
كل هؤلاء كانوا يرقصون فوق راحة يد أرسطو، والذي كان ينظر إليهم لا كراقصين، وإنما كمَشَّائين يمشون في أراضي جرداء ونائية، باحثين عن كائنات حية صغيرة مثلما أمرهم بذلك الإسكندر المقدوني.


الكاتب : مصطفى النفيسي

  

بتاريخ : 15/11/2024