للاعتراف الفرنسي بمغربية الصحراء طعم خاص ودلالة قوية

محمد إنفي

 

 

 

 

 

 

 

 

تضافرت عدة عوامل لإعطاء هذا الاعتراف الفرنسي طعما خاصا ودلالة قوية بفعل أبعاده المتعددة؛ إذ يمكن مقاربتها (الدلالة) سياسيا وديبلوماسيا واقتصاديا واجتماعيا وثقافيا وحضاريا وتاريخيا…؛ الشيء الذي ميزه عما سبقه من الاعترافات، وبالأخص الأوروبية منها، وأساسا الاعتراف الإسباني والألماني؛ ذلك أن علاقة المغرب بهذه البلدان الأوروبية الثلاث مرت بأزمة ديبلوماسية بسبب موقفها من قضية الصحراء.
وتجدر الإشارة إلى أن الأزمة مع فرنسا اختلفت، شكلا ومضمونا، عن الأزمة مع إسبانيا وألمانيا. فبالنسبة لهاتين الدولتين، فإن الأزمة مع المغرب قد تمثلت في سحب هذا الأخير، رسميا، سفيرته من كل منهما. أما مع فرنسا، فقد كانت هناك أزمة صامتة دامت لأزيد من ثلاث سنوات. وكانت هذه الأزمة الصامتة تعبر عن نفسها تارة بأساليب ملتوية، وتارة بنوع من المباشرة والصدامية. وكان المغرب لا يخفي امتعاضه من بعض المواقف، ولا يتردد في نهج أسلوب المعاملة بالمثل.
على سبيل المثال، لما غادرت السفيرة الفرنسية الرباط في شتنبر 2022 بحجة أن مهمتها قد انتهت وأن قصر الإليزيه قد قرر تكليفها بمهمة في الاتحاد الأوروبي، انتظر المغرب إلى شهر يناير 2023 ليقوم بنفس الإجراء، حيث أنهى العاهل المغربي مهام سفيره في باريس وعينه مديرا لصندوق محمد السادس للاستثمار، ليبقى منصب السفير بباريس شاغرا لمدة سنة. وحتى لما عينت فرنسا سفيرا جديدا لها في المغرب كخطوة لإنهاء الأزمة، لم يتم استقباله رسميا، وظل الفتور الديبلوماسي سيد الموقف لشهور.
مع إسبانيا وألمانيا، الأمر اختلف. فقد كانت الأزمة مباشرة وتمثلت في سحب المغرب لسفيرتيه من هذين البلدين؛ مما فاجأ الكثير من المغاربة، وبدأت ردود الفعل تتناسل في أوساط المجتمع المغربي من خلال تعبيرات متباينة سواء على مستوى وسائل التواصل الاجتماعي أو على مستوى حديث المقاهي والجلسات الخاصة. إذ هناك من وصف الخطوة بالمغامرة، ومن تساءلوا عن قدرة المغرب على فتح أكثر من جبهة، وبالأخص مع دول من حجم ألمانيا وإسبانيا، إلخ؛ وهي ردود فعل كانت كلها تدل على أن أصحابها لم يكونوا قد أدركوا أن المغرب قد تغير.
وما ميز الأزمة مع هاتين الدولتين أنها لم تدم طويلا؛ فالأزمة مع إسبانيا (ونتذكر سبب حدوثها: استقبال «بن بطوش» -إبراهيم غالي، زعيم البوليساريو- بجواز سفر جزائري مزور للاستشفاء خلال فترة كورونا دون إخبار المغرب بالموضوع) دامت سنة، إن لم تخني الذاكرة؛ أما مع ألمانيا، فقد دامت أقل من ذلك. المهم أن المياه عادت إلى مجاريها بعد توضيح كل من البلدين لموقفه من الصحراء. وهكذا، عادت سفيرة المملكة المغربية، السيدة زهور العلوي، إلى برلين، وعادت السيدة كريمة بنيعيش إلى مدريد.
أما الأزمة مع فرنسا، فقد دامت أكثر من ثلاث سنوات كما أسلفنا، وتخللتها أنواع من الدسائس والمناورات تمثلت في اتهام المغرب بالتجسس على الرئيس الفرنسي باستعمال «بيغاسوس». وقد سخَّر الإعلام الفرنسي كل طاقاته للنيل من صورة المغرب لدى المواطن الفرنسي والأوروبي. كما أن فرنسا استعملت البرلمان الأوروبي كمنصة للتهجم على المغرب واتهامه بعدم احترام حقوق الإنسان وحرية الرأي والتعبير وحرية الصحافة والإعلام. وكان يقود هذه الهجمة الأمين العام لحزب رئيس الجمهورية الفرنسية، السيد ستيفان سيجورني، العضو في البرلمان الأوروبي باسم نفس الحزب. وهو ما أعطى للأزمة طابعا رسميا.
يضاف إلى كل هذا، الأخطاء البروتوكولية والديبلوماسية التي وقع فيها الرئيس الفرنسي ووزيرته في الخارجية، السيدة كاترين كولونا. فالسيد إيمانويل ماكرون سبق له أن أعلن، في الشارع العام، عن قرب زيارة له للمغرب؛ ووزيرته في الخارجية ارتكبت نفس الخطأ لما تحدثت للصحافة عن برمجة زيارة للرئيس الفرنسي إلى المغرب؛ مما حذا بالسيد ناصر بوريطة، وزير الخارجية المغربي، إلى إصدار بلاغ رسمي ينفي فيه ما جاء في تصريح الوزيرة. وارتكب الرئيس الفرنسي خطأ فادحا لما سمح لنفسه بمخاطبة الشعب المغربي مباشرة بعد رفض الدولة المغربية لمساعدة فرنسا خلال زلزال الحوز في شتنبر 2023. كل هذه الأخطاء وغيرها زادت من تعقيد الأزمة وإطالة أمدها.
وكان لافتًا أن يقرر الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون تسمية الأمين العام لحزبه وزيرا للشؤون الخارجية، خلفا للسيدة كاترين كولونا، في حكومة غابريال أتال الجديدة التي تم تشكيلها في يناير 2024.
وفي فبراير الموالي، طار ستيفان سيجورني إلى الرباط بتكليف من السيد إيمانويل ماكرون بحثًا عن إعادة الدفء للعلاقة بين البلدين. وخلال الندوة الصحفية المشتركة مع وزير الشؤون الخارجية المغربي، السيد ناصر بوريطة، في ختام مباحثاتهما، حرص الوزير الفرنسي على التأكيد بأن فرنسا كانت أول بلد يدعم مخطط الحكم الذاتي سنة 2007، ليضيف بأن الوقت قد حان لتحقيق تقدم احتراما للاستمرارية المنطقية لهذا الالتزام. وكانت هذه إشارة صريحة على عزم فرنسا على الخروج من المنطقة الرمادية.
وتحقق التقدم الذي بشر به السيد ستيفان سيجورني بمناسبة الذكرى الخامسة والعشرين لتربع جلالة الملك محمد السادس على العرش، حيث توصل برسالة من الرئيس الفرنسي تحمل، بالمناسبة، الاعتراف الفرنسي الصريح بالسيادة المغربية على أقاليمه الجنوبية. وسوف يُفصِّل الرئيس إيمانويل ماكرون في هذا الاعتراف أكثر في خطابه أمام البرلمان المغربي بغرفتيه خلال زيارة الدولة التي قام بها إلى المملكة المغربية بدعوة من العاهل المغربي.
خلاصة القول، الاعتراف الفرنسي بمغربية الصحراء له قيمة كبيرة باعتباره يتميز عن باقي الاعترافات، شكلا ومضمونا، بما في ذلك الاعتراف الأمريكي. وهو انتصار كبير للديبلوماسية الملكية الحكيمة والمتبصرة القائمة على بُعد النظر وطول النفَس والرؤية الاستراتيجية الثاقبة. فالعاهل المغربي وضع شرطا أساسيا للتعاون والشراكة، يرفض الضبابية والمنزلة بين المنزلتين. ففي ذكرى «ثورة الملك والشعب» (20 غشت 2022)، وجه العاهل المغربي رسالة واضحة لجميع شركاء المغرب، القدامى منهم والجدد، وبالأخص الذين يتبنون مواقف غير واضحة من مغربية الصحراء، مؤكدا للجميع أن: «ملف الصحراء هو النظارة التي ينظر بها المغرب إلى العالم، وهو المعيار الواضح والبسيط، الذي يقيس به صدق الصداقات، ونجاعة الشراكات».

الكاتب : محمد إنفي - بتاريخ : 20/11/2024