يكتسي المشروع الفكري للمناضلة النسوية وعالمة علم الاجتماع المغربية فاطمة المرنيسي راهنيته بسبب اشتغالها على حرية المرأة؛ المطلب المتجدد دائمة وأبدا لتحقيق مساواة بين الجنسين في أفق تحقيق عدالة اجتماعية– أطروحة راهنت فيها الراحلة باكرا على كتابة مضادة للهيمنة الذكورية، وبسبب ذلك بدت صدامية ومفجرة للمسكوت عنه بغاية تأسيس معرفة مضادة لخطاب الحريم وتعرية مزاعم خطاب الفحولة، حافرة عميقا في الطابوهات المحلية وذلك من خلال قراءة تجمع بين التراث والواقع.. وهنا يظهر دور الثقافة النسوية في تعزيز ثقافة المقاومة في مقابلة ثقافة الهيمنة.. وذلك من خلال نقد جذري للهيمنة الذكورية التي امتدت عند المرنيسي إلى المجتمع الغربي من خلال مرجعها «هل أنتم محصنون ضد الحريم؟»(1)
أما ما يخص نقدها للتراث العربي الإسلامي، فوقفت الباحثة عنده بكثير من الجدة والفرادة وذلك من خلال قراءة أحاديث معادية للنساء ومنها «لا يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة»، حديث الغاية منه استبعاد النساء من دفة التدبير السياسي حيث قالت:» إن راوي الحديث «أبي بكر» مطعون في شهادته. وتساءلت كيف استطاع أن يتذكر الحديث بعد ربع قرن من موت النبي(ص) اللهم إلا أن تكون له ذاكرة أسطورية.»(2) وذات المراجعة اتبعتها عندما تطرقت لحديث ثان حيث جاء فيه» «واطلعت في النار فرأيت أكثر أهلها النساء.». وترى المرنيسي مرة ثانية أن عبدالله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما منشئ هذا الحديث يطعن في النساء ويقذفهم به في النار.. حديث معاد للنساء بدوره. وذلك في كتابها المثير للجدل «الحريم السياسي :النبي والنساء» الذي افتتحته بسؤال إشكالي كبير «هل يمكن للمرأة أن تقود المسلمين.».. سؤال عريض تماما استدعى من فاطمة المرنيسي الحفر عميقا في مفهومي: الحريم والفحولة. سياق معرفي دقيق جعل من المرنيسي واحدة من الرائدات اللواتي فتحت بابا كان موصدا؛ باب المساءلة والطعن في صحة بعض الأحاديث والقراءات الفقهية المعادية للنساء، وبذلك شكلت منعطفا فكريا دقيقا في تاريخ الحركة الحقوقية المغربية.
1 – تمثلات الحريم في كتابات فاطمة المرنيسي:
يحيل الحريم كمفهوم على المكان المخصص للإماء المتفرغات لمتعة السيد الجنسية.. مفهوم يعود بنا رأسا إلى جسد المرأة المحترق، جسد مفارق بسبب حضوره الطاغي في غيابه.. جسد متصف «بقلة» العقل والدين، وهو موقف يكرس ضمنيا ثقافة القوامة عند الرجل بصفته تمظهرا سيوسيوثقافي للفحولة. إن مفهوم الحريم بهذا المعنى يلخص خضوع المرأة للرجل وطاعته.. إكراه يولد ردات فعل مقاومة منها أن أغلبية النساء ينظرن إلى الحريم باعتباره قيدا وخضوعا مذلا، وبسبب هذا الوعي الشقي وجدت بعض النساء ذواتهن في صراع مع مفهوم الفحولة.. مع وجوب التشديد على أن مفهوم الحريم هو امتداد لتاريخ طويل من القمع والإكراه الذي صاغ الذهنية العربية للرجل والمرأة؛ امرأة آمنت لفترة بأن الرجل هو المثل الشرعي والوحيد للقوامة والفحولة، امرأة وجدت نفسها مقسومة على نفسها بسبب أنها مرغوبة ومنبوذة في الآن نفسه. يتغزل الرجل بها وتكبت رغبتها في الوقت نفسه. وبقوة التكرار استبطنت المرأة هذا النسق القيمي، بل وأضحت شريحة من النساء تتهيب مفهوم الفحولة.. وشريحة ثانية تفكر في التمرد عليه. تقول فاطمة المرينسي على لسان عمتها حبيبة:» كل واحدة منا تملك في داخلها نوعا من السحر، ينغرس في أكثر أحلامها حميمية: حين تكونين سجينة دون حماية وراء الأسوار، ومحاصرة في حريم، تحلمين بالانفلات، يكفي أن تعبري عن ذلك العالم لكي ينفجر السحر وتختفي الحدود، بإمكان الأحلام أن تغير حياتك، كما أن بإمكانها أن تغير العالم في النهاية. التحرر يبدأ حين ترقص الصور في ذهنك الصغير وترغبين في ترجمتها إلى كلمات، والكلمات لا تكلف شيئا.»(3) في هذه القرينة النصية وغيرها كثير تتداخل اهتمامات الروائية فاطمة المرينيسي بالباحثة، ولاسيما في «نساء على أجنحة الحلم» و»طفولة في الحريم».
في مستوى ثان، ارتبط مفهوم الحريم بمفهوم الحدود الذي رسم للمرأة معالم المباح والمحرم إن على مستوى القيم والممارسات أو على مستوى هندسة المجال الاجتماعي.. حدود رسمت بدقة أدوار المرأة وحدود تحركها.. حدود تلخص الخضوع والطاعة وتصوغ ذهنية النساء من خلال تربية اجتماعية ودينية وثقافية لدرجة تحول الحريم إلى هاجس يسكن الذات الأنثوية ورقيب داخلي يلون معاناتها ويحرس أحلامها.. بالنتيجة الحريم في كتابات المرنيسي هو مرادف لشقاء المرأة.. وإن كان حريما في غاية الهشاشة وإلا كيف نفسر خيانة شهرزاد لشهريار في عقر حريمه مع أحد عبيده؟ !!
2 – تمثلات الفحولة في كتابات فاطمة المرنيسي:
يقترن الفحل ببنية الحريم التي صاغت رحابة تصرفه ووسمته بالقوة والتفوق. تقول المرنيسي:» إن وجود الحدود، أينما كانت، تعني بأن هناك نمطين من البشر على هذه الأرض التي خلقها الله: هناك الأقوياء في جانب، والضعفاء في الجانب الآخر.»(4) صحيح جدا أن مفهوم الفحولة لغويا يحيل فقط على الذكر من كل حيوان. لكنه اجتماعيا يحيل صراحة على السلطة والسيطرة.. أما جنسيا فتؤشر الفحولة على الرغبة الجنسية لدى الذكر، والقدرة على الانتصاب والإيلاج، وتحقيق اللذة..
مؤسساتيا ربطت الفحولة بالأسرة الأبوية المبنية على الهيمنة الذكورية والنظام الأبوي الذي لا يعني فقط سلطة الأب، بل هي مؤسسة تتداخل فيها وظيفة الأب بوظيفة صاحب السلطة، وتتداخل وظيفة الزوج بوظيفة صاحب السلطة.. فالنظام الذكوري يقوم على هيمنة الذكر، وإخضاع المرأة، وتنشئة الطفل الذكر على تبني قيم الذكور، وبالتالي يُكوِن الطفل هويته كرجل (فحل) بالاستناد إلى التمثلات النفسية- الاجتماعية الموجودة في المجتمع الذكوري. وخطورة مؤسسة العائلة الذكورية تكمن في جعل المرأة رهينة الرجل.. فإذا كانت البنت عذراء فهي ملك الأب الذي تحمل اسمه وشرفه، وبسبب عذريتها تحمل قيمة تبادلية ثمينة بين الرجال كونها بضاعة نظيفة مرغوب فيها. أما إذا كانت أما، فجسدها ملك للزوج وآلة للإنجاب، لكن بالمقابل فهي تفقد قيمتها بالطلاق (وجود عيب)، أو الترمل (عتبة نحس). هكذا يكبر الفحل في المجتمع الذكوري المعطوب وخوفه الأكبر من فقدان فحولته الجنسية التي تمنحه كل هذه الامتيازات.. وإذا حدث وفقدها فأصابع الاتهام توجه للمرأة مباشرة من خلال السحر(الثقاف)، فتبدأ متاهة الاستنجاد بالمشعوذين. والحال أن الفحولة طبيا هي نسبة محددة من هرمونات الذكورة(التستوستيرون) هرمونات إن نقصت يمكن تعويضها جراحيا.. لهذا تمثلت فاطمة المرنيسي الفحولة بنية مجتمعية يتربى عليها الذكر وهو يؤمن بشرعية استحواذه على السلطة والهيمنة.. بينما الرجولة هي صفات نفسية وأخلاقية وبدنية..
نخلص إلى أن أطروحة المرنيسي بنيت –في مستوى أول- على مفهوم الحريم كبنية تربت فيها المرأة على الخضوع وتلبية رغبة الرجل.. فإن هي أبدت تمردا ومقاومة، نعتت بالنشاز.. وإن هي انصاعت للرجل كرست موتها الرمزي إلى الأبد.. أمر يستدعيها لاسترجاع حريتها إن هي أرادت بناء علاقة صحية وسوية مع الرجل المعني بدوره بتصويب الخلل.. وهذا يعني أن الحريم هو جرح جماعي لا يستثني الرجل الذي عانى من مرارة الخيانة كما في» ألف ليلة وليلة»، دون القفز على تجارب واقعية. كما بنيت أطروحتها- في مستوى ثان- على مفهوم الفحولة حيث الذكر شب على وهم اعتقاده بأحقية تسيده بنية الأسرة الذكورية المعطوبة؛ الأمر الذي خلق صراعات مريرة على امتداد تاريخ تشكل مؤسسة الأسرة في تاريخ المجتمع البشري .. والحال أن المرأة والرجل مطالبان بالتدبير المشترك لأمور الأسرة، بعيدا عن التسلط والإكراه. والباحثة وهي تبني مشروعها على ثنائية الحريم والفحولة تشير صراحة لسبب العطل والعطب في الصلة العلائقية المختلة بين الرجل والمرأة.. أو لنقل بين «المركز» و«الهامش»، وبين القوة والضعف في الوقت التي انتصرت لحرية المرأة في ارتباطها بحرية المجتمع.
(*) ناقد أدبي
———————–
إحالات:
1 – فاطمة المرنيسي، هل أنتم محصنون ضد الحريم؟ ترجمة نهلة بيضون، نشر الفنك، المركز الثقافي العربي، ط/2-2004.
2 – فاطمة المرنيسي، الحريم السياسي، ترجمة: المحامي عبد الهادي عباس، دار الحصاد، دمشق،1987.ص68.
3 – فاطمة المرنيسي، نساء على أجنحة الحلم، تر: فاطمة الزهراء أزرويل، منشورات الفنك والمركز الثقافي العربي،2007،ص227.
4 – فاطمة المرنيسي، نساء على أجنحة الحلم، م/م،ص254.