كتابات في تاريخ منطقة الشمال: «تصور النخبة المثقفة بمنطقة الحماية الإسبانية لمشروع «النهضة الوطنية»

شكلت مدينة تطوان مركزا حضاريا متقدما في مواجهة المشروع الكولونيالي الذي ضرب بلادنا منذ منتصف القرن 19، وتعزز -فعليا- بعد فرض نظام الحماية منذ سنة 1912. لقد واجهت تطوان، ومعها مجموع منطقة الشمال، جحافل الغزو الاستعماري، لمدة لا بأس بها، قبل أن ينكسر الطموح الجهادي لمغاربة المرحلة، عقب سلسلة الهزائم، سواء على أبواب مدينة سبتة، أم على أبواب مدينة مليلية. وبغض النظر عن تفاصيل فورة الحماس المرتبط بالحوافز الجهادية التي ظلت تُحرك التكتلات القبلية التقليدية في مواجهة التوسع الإسباني بالمنطقة مثلما وقع مع قبيلة أنجرة في حصارها لمدينة سبتة وقبيلة قلعية في حصارها لمدينة مليلية، فإن هذا الصمود الوطني الأصيل انكسر أمام قوة الآلة الاستعمارية. وازداد الأمر إصرارا لدى الإسبان مع ازدياد شعورهم المزمن بخطورة فقدانهم لآخر مستعمراتهم بعالم ما وراء البحار، وعلى رأسها كوبا والفلبين. وفي المقابل، اقتنعت قطاعات واسعة من نخب مدينة تطوان والشمال، أن المواجهة العسكرية في ظل الاختلال الكبير في موازين القوى، عسكريا وسياسيا واقتصاديا، أضحت تفرض حتمية هزيمة المغاربة أمام الآلة الاستعمارية الإسبانية الكاسحة. فقيم البطولة والإقدام والشجاعة والجهاد، لا تفيد كثيرا عند مواجهة خصم أكثر تقدما وأحسن تسليحا وتأطيرا وتنظيما. وقبل ذلك، ازدادت القناعة المغربية ترسخا بأن المواجهة تتجاوز مستواها العسكري الضيق، إلى المستوى الحضاري الواسع. فلا يمكن قهر قوى الاستعمار إلا ونحن أقوياء اقتصاديا وعلميا وسياسيا واجتماعيا وثقافيا. وعلى أساس هذا الموقف، ترسخت قناعة مرجعية لدى نخب مدينة تطوان، مضمونها توسيع مفهوم العطاء الجهادي لكي لا ينحصر في مجال العمل العسكري المباشر، ليشمل كل مظاهر الحياة العامة في أفق تحديث دواليب الدولة والمجتمع وتحقيق الانتقال الحضاري المنشود.
لقد تحول عمل أنوية العمل الوطني إلى مبادرات مؤسسة، يعود لها الفضل في تمهيد الأرضية الضرورية للاشتغال بالنسبة لكل تنظيمات الحركة الوطنية خلال مرحلة ما بعد سنة 1930. وازداد الأمر ترسخا، بانخراط المجتمع في مشاريع الحداثة التي أثمرت أعمالا تأسيسية رائدة في مجالات كانت تهم المعيش اليومي للناس، مثل الاقتصاد والتعليم والصحة والآداب والفنون، بل وانخرطت في جهود إنشاء التنظيمات الأولى لإطارات المجتمع المدني المشتغلة في القضايا ذات الأبعاد النقابية والثقافية والحقوقية ثم السياسية. ونظرا لأهمية عطاء هذه التجربة التأسيسية، أضحى البحث في تفاصيلها مثار اهتمام مؤرخي المغرب المعاصر المتخصصين في قضايا النضال الوطني بشمال المغرب، مثلما هو الحال مع الأعمال المرجعية لمحمد داود، وعبد الخالق الطريس، والتهامي الوزاني، ثم محمد ابن عزوز حكيم، وحسناء داود، وعبد العزيز السعود، وعبد المجيد بن جلون، وبوبكر بوهادي،… وتوسع مجال التنقيب بإفراج البعض من منحدري رموز الفعل الحداثي بالمجتمع التطواني خلال العقود الأولى لمرحلة الاستعمار عن ذخائرهم الوثائقية، وخاصة العمل الكبير الذي أنجزه المرحوم أبو بكر بنونة عندما وضع أرشيف العائلة، وخاصة وثائق الحاج عبد السلام بنونة، رهن إشارة الباحثين والمهتمين، مما فتح آفاقا واسعة أمام أجيال مؤرخي منطقة الشمال لاقتحام خبايا الموضوع ولتوسيع دوائر البحث والتنقيب والاستثمار.
في إطار هذا التوجه العلمي، يندرج صدور كتاب “تصور النخبة المثقفة بمنطقة الحماية الإسبانية لمشروع النهضة الوطنية 1913-1936م”، للأستاذ عاهد ازحيمي، سنة 2020، في ما مجموعه 550 من الصفحات ذات الحجم الكبير. ويوضح المؤلف الإطار العام للبحث في كلمته التقديمية قائلا: “انطلقنا في هذا العمل من إشكالية رئيسية، تتمحور حول البحث عن الأسباب والظروف التي ساهمت في نشأة وتكوين الجيل الأول للحركة الوطنية المغربية، الذي استطاع في وقت وجيز قيادة حركة وطنية ثقافية واجتماعية وسياسية، وذات أبعاد كونية، بالرغم من التخلف الحضري (كذا في الأصل) والجهل الذي كان يعيشه المجتمع المغربي، والسياج الذي ضربته عليه الحماية لحصر كل حركة وطنية مناوئة لمصالح الاستعمار والمستعمر بالمغرب. وذلك ما دفعنا للتساؤل عن كيف ساهمت صدمة الاستعمار في تشكل الوعي بالذات وبروز النخبة المثقفة بمنطقة الحماية الإسبانية؟ وما المرجعية الفكرية التي تأثرت بها هذه النخبة؟ وما تصور النخبة المثقفة لإصلاح المجتمع المغربي؟ وما المشروع النهضوي الذي تبنته؟ وكيف ساهمت النخبة المثقفة في تكوين جيل جديد من الشباب الوطني الواعي بمسؤوليته؟ وما أبرز المبادرات والمشاريع التي أنجزتها لتحقيق ذلك؟ وما أهم النتائج التي حققتها في مشروعها النهضوي على المستويات الفكرية والثقافية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية؟ وأخيرا، ما هي القيمة المضافة لدراسة تصور النخبة المثقفة لمشروع النهضة الوطنية في زمننا الحاضر…” (ص ص.12-13).
وللاستجابة لأفق هذه الأسئلة المهيكلة للبحث، حرص المؤلف على توزيع مضامين بحثه بين ثلاثة أبواب متكاملة، احترمت شروط استثمار المادة الخام الضرورية لتغطية مجمل عناصر الإشكالات والتساؤلات المطروحة أعلاه. ففي الباب الأول، اهتم المؤلف برصد سياقات تكون النخبة المثقفة بمنطقة الحماية الإسبانية، بالتركيز على وقع “صدمة الاستعمار” التي ألهمت “الذات” في سعيها نحو الانفتاح على “الآخر” وبداية الأخذ من مدنيته ورقيه وحضارته. في هذا الإطار، أبرز الأستاذ ازحيمي عناصر تميز النخبة المثقفة بالشمال على مستوى المرجعية السلفية المُقتدية بالنهضة المشرقية، ثم على مستوى المشاريع الإصلاحية الأولى التي اشتغلت على تعميم التمدرس والارتقاء بالتعليم ومحاربة كل ضروب الجهل والتخلف والبدع والتقاليد البالية. وفي الباب الثاني، انتقل المؤلف للتعريف بمجهودات النخبة المثقفة بشمال المغرب لتحقيق مشروعها النهضوي، وفق منطلق ثابت في التعايش مع الإدارة الاستعمارية وتبني الإصلاح من الداخل، الأمر الذي أثمر العديد من المبادرات الرائدة وخاصة في المجالات الثقافية والاجتماعية والاقتصادية، على الرغم من تلكؤ الإدارة الاستعمارية، وعلى الرغم من محدودية الإمكانيات الذاتية لتنفيذ هذه المشاريع وخاصة بالأقاصي بعيدا عن المركز بتطوان. وفي الباب الثالث والأخير، توقف المؤلف طويلا عند نتائج هذه النهضة الوطنية وتجلياتها على المستويات الفكرية والثقافية والاجتماعية والسياسية والتنظيمية، مما كان له دور كبير في بروز التنظيمات الحزبية الأولى بالمنطقة الخليفية، وعلى رأسها حزب الإصلاح الوطني بزعامة عبد الخالق الطريس وحزب الوحدة المغربية بزعامة محمد المكي الناصري، وما ارتبط بالحزبين من تنظيمات ومؤسسات وهيآت موازية، مثل “المعهد الحر”، و”معهد مولاي المهدي”، و”جمعية الطالب المغربية”، و”تنظيم الفتيان”،… وقبل ذلك، إشراف الحاج عبد السلام بنونة على العديد من المبادرات غير المسبوقة مثل إنشاء أول جمعية للدفاع عن حقوق الإنسان بالمغرب، وإرسال بعثات طلابية للمشرق، وإنشاء الصحافة الوطنية الأولى، وإنشاء شركات اقتصادية مغربية،…
يقدم الكتاب موضوع هذا التقديم غزارة استثنائية على مستوى المعطيات والتفاصيل ذات الصلة بالموضوع، على الرغم من الاعتماد -بشكل مركزي- على وثائق المركز بمدينة تطوان. وهذا أمر له ما يبرره، بالنظر للمكانة التي اضطلعت بها تطوان داخل عموم المنطقة الخليفية باعتبارها مركزا وعاصمة للوجود الإسباني بالمغرب خلال عهد الاستعمار. ولا شك أن توسيع دوائر البحث بالأقاصي المترامية بربوع منطقتي الريف وجبالة، سيساهم في توسيع آفاق البحث للكشف عن معالم عطاء الذوات التي اشتغلت في الظل بالتأسيس لتجاربها المخصوصة على مستوى آليات تحديث ذهنيات المغاربة من جهة، وعلى مستوى مواجهة مخططات الغزو والتدجين الاستعماريين من جهة ثانية.


الكاتب : أسامة الزكاري

  

بتاريخ : 26/11/2024