فريديريش هولدرلين (الذي هوى به الشعر في ليل الجنون)، شارل بودليرْ، ستيفان ملَارمي، أرثر رامبو، روني شارْـ رولان بارطْ، أدونيس، سعدي يوسف، محمود درويش، وكل الأدباء والشعراء والمفكرين والفنانين الحقيقيين الأفذاذ الذين يتهيبون أخذ القلم، والجلوس إلى الصفحة البيضاء العارية كما يجلسون للامتحان ( الذي يعز فيه الأمر أو يهان )، ويتهيبون الحضور الجماهيري الكثَّ الذي ينظر إليهم متطلعا، وينصت « خاشعا «، ويقرأهم متدبرا و»محتسبا». لقد عبَّرَ أكثر من شاعر وموسيقي ومفكر وفنان ومسرحي ومغَنٍّ، عن ذلك، وصوروا بتوقير وإحساس ورهبة وارتعاش، تلك اللحظة التي يقفون فيها على الركح أو المنصة، أو أمام منبر، أو خلف ميكروفون، أو جلوساً إلى مائدة مستديرة أو مستطيلة للقراءة أو الكتابة، أو الغناء. إنهم من دون شك يستشعرون هول الموقف، ويقدرون مسؤولية الكتابة حق قدرها، ويحسبون لها ألف حساب؛ وهو ما يكبح جماحهم، و»يفرمل» اندفاعهم أو تنطعهم، ذلك التنطع والتعالم الكاذب الذي يأتيه ويدَّعيه الكتَبَةُ الجُوفُ، الصغار والضعاف، قليلو الموهبة أو عديموها. يأتونه دونما وَجل أو تحوُّط أو خجل من تهافت كتاباتهم وإنشائيتها المدرسية المتعثرة، والغَرْف من حياض كتَّابٍ وأدباءَ راسخين، يجتهدون كل الاجتهاد في إخفاء سرقتهم، ومواراة سطوتهم وغارتهم، وهي ـ للمفارقة ـ بيّنةٌ ساطعة سطوع ليلة صيف.
جاء في العمدة لابن رشيق القيرواني: (عمل الشعر على الحاذق به أشذُّ من نقل الصخر. ويقال: إن الشعرَ كالبحر أهونُ ما يكون على الجاهل، أهولُ ما يكون على العالمِ.)
أما مجانسة الهون والهول لفظيا، وتباعدهما دلاليا، فإنه يفسر كل شيء. وقال الشاعر الفحل الخنذيذ أبو تمام في بيت شعري ذائع:
والشعر فرجٌ ليست خصيصته طول الليالي إلا لمفترعه.
وفي هذا، ما يشير بعمق استعاري، إلى مناجزة القصيد بالجهد الجهيد والعذاب اللذيذ مثلما عبَّرْتُ مُعَنْوِناً إحدى مقالاتي السابقة.
من جهة أخرى، كثيراً ما تعسر الكتابة وتتمنع عن الكبار وهم وجهٌ لوجهٍ مع الورقة. تَتَفَلَّتُ اللغة وتتَزَأبْقُ، وتُخْرِجُ لسانَها ساخرةً ماكرةً قائلةً كما في المحفوظ الطفولي القديم: ( هيّا.. هيّا.. اِجْرِ جَرْياً، غطِّ البَصرَ، وخُذِ الحَذَرَ. أنا في الصف.. أنا في الخلف. أنا يُمْناك.. أنا يُسراكَ. سارعْ.. سارعْ.. أنتَ البارعْ. أدْرِكْ نِدَّكْ تبلغْ قَصْدَكْ. ). أمّا القصد إياه فلا يبلغ وإذا بُلِغَ فبعد لأيٍ وجهد وعرق وكدٍّ وأرق. إن القلمَ لَيَحْرن، والورقةَ تتغبش وتنمحي، ويصاب الكاتب / المبدع، بعيٍّ طارئٍ، وبحُبْسةٍ فكرية وتعبيرية ولغوية لا عهد له بها. يصاب بالدوار، وبكآبة لا توصف. يصاب بلوثة مفاجئة وبفراغ مخيف، وعطالة دماغية طارئة قد تدوم. فالأمر أشبه ما يكون بضمور الإلهام، وهجر الوحي وانقطاعه كما حدث للرسل والأنبياء، وفي مقدمتهم رسولنا العظيم الذي مرت به، خلال نزول الوحي عليه مُنَجَّماً، أوقاتٌ وفتْراتٌ بل أشهرٌ وهو يترقب عودة الوحي الذي هجره، مُغْتَمّاً مكتئباً ويائساً، ومريضا.
لذلك، يقوم الفنانون والأدباء والشعراء بالبحث عن بدائل ممكنة، وسوانح متاحة بما يُنْسيهم عجزَهم، وتمنع الكتابة عنهم، وتأبّيها عن مطاوعتهم؛ كالمشي طويلا في الحقول تحت المطر، أو تسلق الجبال وتأمل الغيوم السابحة، والطيور الجانحة، أو الخلود إلى النوم، وأحلام اليقظة، أو القيام بالبستنة والتشذيب، وإحراق الأوراق، واللعب بالأقلام الملونة كما كان يفعل الناقد رولان بارطْ، وتدخين عشرات السجائر، وعَبّ القهوة المرة عَبّاً كما أخبرنا بواحدة من طقوسه الصباحية اليومية، العظيم محمود درويش. أو الوقوف تحت رشاش ماء بارد منعش ولذيذ، أو حَسْو إبريق شاي حسواً، أو شرب كاسات نبيذ وأوْساك، أو التحليق عاليا عاليابالماريخوانا وأنواع الحشيش الأخرى مثلما كان يفعل الشاعر الكبير شارل بودليرْ وأوسكارْ وايْلْدْ، وإدغار آلان بو، وبوريسْ فيون، وأرْطو، وجورج تراكلْ، تمثيلا.
تلك ـ إذاً ـ بعض البدائل الإلهائية الوقتية، والسوانح الرطبة المطلوبة، والتي لامناص منها، التي يقوم بها الشعراء والمبدعون والفنانون بحثاً عن نصوع الرؤية، وعمق التفكير، وتوثب اللغة، وقدحا لشرارة الخلق، وتليين عريكة الكلام، وشحذ القريحة، ووقْد الجمرة الهامدة، وإشعال الخيال والتحرش بالمحال حدَّ تعبير الشيخ الأكبر محيي الدين بن عربي. بل، إن كثيرين لا يعودون إلى ما كتبوا وصاغوا ودبَّجوا، لا عُجْباً وإعجابا بما أتوه واجترحوه، واطمئنانا بما نسجوه، وإنما خوفاً من أن يُسْقِطَ في أيديهم فيمحون مقاطعَ، ويعدمون فصولاً، ويمزقون صفحاتٍ، أَيْ: يهدمون بنيانهم الذي تعبوا وشَقُوا من أجل إقامته وتشييده، وعرضه على المنتظرين والمشترين، أًقصد: المتلقين والمستقبلين. ألمْ يكنْ غوستافْ فلوبيرْ، ومارسيل بروستْ يفعلان ذلك، مثلاً.؟
ثمَّ، أَلَمْ يكتب مارسيلْ بينابو كتاباً ذا عنوان مثير وساخر، يوحي فيه بتعذر إِنْ لم يكن باستحالة الكتابة العالية.. الكتابة المكتملة.: ( لماذا لم أكتبْ أيَّ كتابٍ من كتبي؟ ).
( فما أجملَ ما لم أقمْ بكتابته ) يقول عبد الفتاح كيليطو، في تَصادٍ نسبي مع « بينابو». وَرَدَ ذلك في كتابه: ( في جو من الندم الفكري ). ذلك أن المطلوب والمرغوب والمبتغى، دائم الهروب والانفلات، وإن ظل دائم المطاردة الملحاحة. مِثْلُ ذلك، قاله الشاعر محمود درويش، وقبله الشاعر ستيفان مالاَرْمي الأشهر الغامض. يقول محمود: ( إنني مسكونٌ بهاجسٍ هو عدم كتابتي حتى الآنَ ما أريد أن أكتبه. إن رحلتي هي إلى المجهول الشعري بحثاً عن قصيدة ذات قدرة على أن تخترق زمنها التاريخي، وتحقق شرط حياتها في زمن آخرَ. هذا ما أسعى إليه.) « الغريب يقع على نفسه: حوار عبده وازن «
فالمبدعون والفنانون الشاهقون هم دائمو الخوف والقلق من نضوب التجربة الإبداعية الفجائي، ومن لحظة الصمت والبياض التي قد تطول وتتأبدُ. وهكذا، وعلى الرغم مما بناه وشادَهُ الروائي الكبير مارسيل بروستْ، وحقق فيه العجيب المُبَنْيَن والمهيكل جماليا وفنيا وهندسيا ودلاليا كمثل كاتدرائية باروكية باذخة، فإنه ظل يشكو من نضوب الإبداع، وعسر الكتابة، وهجران الموهبة والإرادة، الشيء الذي جعل الكآبة النفسية والأنطولوجية تفترس عقله ووجدانه وجسمه، واليأس يسيطر عليه مخافة أن يفنى قبل أن يكرس رهانه وبغيته في أن يصبح كاتبا مختلفا متميزا ومتفردا في مجال بناء سرده ورواياته على ما كان يعتريه من آلام وأمراض وحالات رَبْوٍ فاقَمَتْها العزلةُ والمعاندة والانطواء، والمُنْتأى البيتي بعيدا عن الشمس، والضوضاء، والهرج والمرج.
ومن ثمة، عُدَّتِ الكتابة الرفيعة بمثابة ضرورة وجودية، ضرورة حياتية تعمل حثيثا على إبعاد شبح الموت بل على قهر الموت نفسه، منتصرة للفن والأدب بما هما عاملان من عوامل البقاء والخلود. وجعل الحياة ـ استتباعا ـ جديرةً بأن تعاشَ، وحقيقةً بنا كآدميين، كما نحن حقيقون بها.
لِنُنْصِتْ ـ تَخْتيماً ـ إلى محمود درويش يقول في مقطع من جداريته المنيفة:
( هزَمَتْكَ يا موتُ الفنونُ جميعُها.
هزمتكَ يا موتُ الأغاني في بلاد الرافدين،
مِسَلَّةُ المصريّ، مقبرة الفراعنة،
النقوشُ على حجارة معبدٍ، هزمتْكَ
وانتصرتْ، وأفْلَتَ، من كمائنِكَ، الخلودُ ).