يقوم ديوان «القلب وما يريد» للزجال المغربي محمد موتنا السباعي(1) على تصوير تجربة معرفية وجمالية مستمدة من الملفوظ التداولي، إلى جانب توظيف بنيات لغوية مُحمّلة بطاقة وجدانية ونفسية قادرة على خرق الوظيفة التواصلية المباشرة في سبيل بناء عوالم تعبيرية إيحائية ورمزية، مقتربة بهذا الخرق من اللغة الصوفية الهائمة في بحور الرمز والتلميح، ويستمر انزياح الملفوظ الزجلي عن قصديته التواصلية موازاة مع رحلة ذات الزجال بحثها عن وضعية التوهج والحلول في فضاء نوراني يتجاوز غياهب ظلام النفس وانغماسها في أوحال الظلام، وعبر هذا التناغم وارتحال الذات بين مراتب التدرج تتشكل ماهية اللغة وترتقي بدورها من مقام الإفهام والإبلاغ إلى مقام الرمز والإيحاء، وهو ما يمنحنا فرصة النظر إلى الملفوظ الزجلي باعتباره علامة سيميائية حمّالة أوجه تعبيرية.
يدشن الزجال رحلة العروج والترقي، منذ القصيدة الأولى من الديوان والمسطرة تحت عنوان « لْحوالْ اللّي بي»، حيث تنتفض الذات وتتمرد معلنة عن ماهيتها وهويتها الحقيقية عبر عرض صفاتها وخصائصها التي تميزها عن طقوس وممارسات كثيرة، وإن كانت تصدر عنها إلا أنها ليست من صميم ماهيتها يقول الزجال:
تْحمْدشتْ وما أنا حمدوشي
تْحمْدشتْ أنا بلا هوايَ
……………………
وما ناشي عيساوي
وما ناشي جيلالي
……………………..
وما ناشْ كَناوي
(ص 13/14)
إن أول ملاحظة تثير متلقي القصيدة أعلاه، تكرار صيغ النفي الدالة عن الرغبة في تبرئة الذات من كل من كل ممارسة تدخل ضمن سياق الاعتقاد الغيبي في ملوك الجن وما يستدعيه من طقوس الجذْبة وموائد الشوك والدم وغيرها. في مقابل صيغ النفي تتوالى صيغ الإثبات والتأكيد لتلك الهوية الثاوية ما رواء الأشباه والنظائر من الممارسات العرضية، حيث تنبعث الهوية الجديدة كما ينبعث طائر الفينيق من رماده، يقول الزجال:
شاعر أنا
مخلطة فيا الدعاوي
يقلبْ فْ ناسُه على معنى
ويكره اللّغطْ الخاوي
لي فْ الرّوحْ رْبابْ
على لبلاد مساوي
جدبان بلا مْلوكْ
أنا على الضو نْقلّبْ
مزروب ومدرك
نكره الظلمة حتى صرتْ مملوكْ
أسبابي الحرف الضاوي
(ص 14 ـ 15)
غير بعيد عن القصيدة الأولى، تأتي قصيدة « العنْوان»، الثانية من الديوان، حيث استوت صورة الذات وتم الإعلان عن هوية الذات، بعد تجاوزها لما عاشته من غربة وضياع بين طقوس كثيرة، إنها الذات /الشاعرة المرهفة الإحساس والحاملة لوعيها الشقي وتسلك سبل البحث نورانية الحرف وجمال المعنى؛ والرغبة الجارفة في التحرر والتحول من وضعية الظلام إلى وضعية الضوء،عندها يتحقق التماهي والتناغم ويكون بإمكان الذات الحلول والإتحاد يقول:
هاداكْ أنا وهاديكْ صورتي
وهاداك صوتي
وهاديك تمرتي
وهاداك عنواني
ما خافيشايْ
إلا كنت عليَ بصح تقلّبْ لابد تلْقاني
(ص16)
………………….
حيث لمكانْ ماشي حيوطْ
لمكان ماشي سواري
ماشي قفولا ماشي بيبان
…………………
لمكان كْنانْ فْ كيانْ
وأنا فيا ساكن عنواني
(ص17)
لقد عمد الزجال على تطهير تلك الوحدة بالمكان من كل الصفات والنعوت المادية، ونقله من دائرة المحسوس إلى دائرة المجرد. الملاحظ أيضا، أن ذلك الاتحاد والحلول لم يكن سالكا أمام الذات/الشاعرة بل تم بعد طول معاناة مكابدة، إذ كان عليه أن يسلك مسلك العارفين وأن يجتهد اجتهاد المريدين وأن تبنى مبدأ الفداء والتضحية ليتمكن من التدرج إلى مقام «المحبة» ثم مقام «العشق»، ذلك العشق لم يكن عارضا بل فطريا، لا تُزحزحه تقلبات الدهر ولا تُغيره العوارض كما يتجلى ذلك في قصيدة «الحبْ كله» (ص 20ـ 21)، يقول الزجال واصفا ذلك العشق الأصيل:
ثابتْ فْ عشْقي والعشْقْ ليه زكاة
عْشُورْ مْخَرْجَة من روحي وبْداني
ثابتْ فْ عشقي
هاكداك العشق فيَ خْلوقْ
هاكداك المحبه فْ ديني وإيماني
تتبدل الوجوه وتتباعْ!
ماشي شغلي
(ص16)
لم تكن وضعية الارتقاء مانعا أمام الارتباط بالأصل ولا علة للتحلل من الواقع وتحصن الذات داخل عوالمها المتعالية، بل ظلت شديدة التعلق بواقعها متشبثة بجذور انتمائها كما أعلن عن ذلك في قصيدة «هنا ولهيهْ» يقول: خليكْ من هنا، لا تكونش من لهيهْ، راك أنت من هنا، ما انتاشي من لهيهْ. (ص 18).
لم يكن التحول والارتقاء إذن، إلا عاملا قاد الذات إلى بلوغ مرحلة الكشف واكتشاف الحقيقة، حقيقة الزيف والتحول الذي طال الواقع بجميع مكوناته الطبيعية،قصيدة: البركة في روسكم (ص22)، والفضاءات: قصيدة كازا (ص46)، وطال منظومة القيم الإنسانية. لقد كان «الحلم» مسلكا لعروج الذات وارتقائها لكن الحلم تحول إلى كابوس يقض مضجع الذات وسببا في عذابها كما جاء في قصيدة أسبابْ لْعْذابْ (ص62)، تبعا لذلك ستدخل الذات مرحلة الانتكاس والارتداد وسط واقع موبوء منحط، لم يكن أمام تلك الذات بعدها إلا الاحتماء بالماضي وبالذكريات، ولم يكن أمامها إلا التمني والحرص على جمالية الحلم يقول:
ما كاين باسْ…
واخَ دارتْ الناسْ
واخَ جَارت الناسْ
واخَ كَفْرتْ الناسْ
وصارتْ الناسْ مواسْ..
باقي أنا عساسْ
كيما ديما ع الحلمة عاسْ..
(ص 51ـ 52)