قصة قصيرة : مكتبة وذاكرة

كنت الثاني أو الثالث الذي ركب سيارة الأجرة، انتظرنا قليلا ليكتمل النصاب..
بعد أداء المقابل، انطلق السائق بسيارته، كلنا متوجّهون إلى مدينة “الأنوار” في عِـزّ صيْف قائظ!
لم يكن لي غرض محدد من الرحلة، سوى التسكّع قليلا ببعض الشوارع، وربما قد أقتني شيئا أكون بحاجة ماسة إليه، ولا أستثني أبدا زيارة مكتبة أو أكثر في مثل هذه المناسبة، أتملى بطلعة الكتب المعروضة على الرفوف، وأراقب كيف يتصرف ويتفاعل بعض زوار المكتبة القلائل مع المكان وذخائره النفيسة، وغالبا في مثل هذه المناسبة أقتني أكثر من كتاب يروقني ويدخل في مجال قراءاتي..
وسيارة الأجرة تقطع بنا الكيلومترات، شابٌّ بجانبي وآخرُ أمامي على يمين السائق، كل منهما أَخرجَ هاتفه وشرع يستعمله.. مَن بجانبي يقرأ شيئا على الشاشة، ثم يكتب، أظنه يجيب شخصا يتحاور معه، أو منغمر في نقاش. ثم يرى أشرطة قصيرة، تَـمُرّ الصور بسرعة!..
الشاب الثاني مُنهمك في تدوين شيء ما بإبهاميْهِ على هاتفه المشدود بين راحتيْهِ، كأنه رفع أكفَّ الضراعة، ووقعت الاستجابة له فوْرا بهذه الآلة ذات الشاشة الفضية! قبل ذلك كان قد وضع صاحب هذا الهاتف سمّاعتين منفصلتين داخل أذنيه وهما في حجم حبتيّ فاصوليا.. وحده فقط مَن يسمع!
خلفي سيدة أربعينية بجلباب فضفاض بني اللون، وعلى رأسها شال أبيض جعلت منه ما يشبه العمامة مع تغطية عنقها وأذنيها، وكأنها تنتظر عاصفة رملية.. احتفظت ذاكرتي بشكلها قبل صعودها، وكانت قد ركزت نظرها على المقعد الأمامي، ربما ترجّت في نفسها تخلّي الراكب عن مقعده لها، لكنه لم يفعل.. في الطريق انطلق مِن هاتفها صوت أذان صلاة العصر.. تركَتْهُ مسموعا حتى نهايته.. ثم شرعتْ تُمتم بدعاء..
حينها نطق شيخ مهيب بلحية بيضاء مشذبة قاده الحظ ليجلس بجانبها، وهو ورائي مباشرة..
ـ إيه يا زمان!
صمتٌ مطبق! لم يُعلّق أحد أو يتكلم.. فأضاف الشيخ بحسرة.. أيام زمان كنا نتحدث، ونتعارف أثناء ركوبنا، كم مِن صداقة نسجتُ، وكم مِن مسافر أصبح صديقا، وكم من معلومات تقاسمنا، وكم من أخبار تشاركناها..
رأيت أن أتحدث، هكذا دون مبرر واضح؛ قلت للرجل، وطبعا، حتى الآخرون ربما يستمعون.. إن الزمان اختلف.. والمكان اتسع.. مَن تراه يستعمل هاتفه، قد يكون مستغرقا في الحديث عن بُعد مع آخرين في نفس اللحظة. ولكن، أضفتُ بصوت أكثر ارتفاعا، معك حق، فالحديث المباشر مع الناس المحيطين بك مباشرة يكون ذا فائدة، تتوَشّج الروابط بعفوية، مع ما يُرافق ذلك من أحاسيس متبادلة مِن تجليّاتها الكلام وتوابعه مِن حركة الوجه والتنفس والنظرة…
وافقني الرجل المسن، وانتقل إلى ملاحظة أخرى، وهي حسب نظره قلة الاهتمام بقراءة الكتب في هذا الزمن.. الجميع مشتغل بهاتفه كما ذَكر.
لم يكترث بحديثه أحد.. تحسّست بأصابعي هاتفي الراقد بجيبي..
أمَلْتُ رأسي قليلا، وأدرتُ وجهي جهة اليمين حتى لامستُ الزجاج بأنفي، رمقت الرجل بنصف عين، وطمْأَنته بقولي، إنني من الذين ما زالوا يقرؤون الكتب..
ربت على كتفي، وأظنه انشرح..
كنا قد وصلنا.. انتهى الكلام..
لما نزلنا لَحِق بي الشيخ، وطلب مني التوقف هنيهة حيث سيعرض عليّ أمرا كما قال..
توجّستُ. ماذا سيعرض عليّ؟
لم أكد أنطق بتساؤلي، حتى انطلق مُفسّرا:
لقد راقني موقفك مِن قراءة الكتب، وهذا ألهمني بفكرة، أقترحُها عليك لو ترغب..
ازدادت حيرتي، نظرتُ إلى عينيه، لا شيء يفصح عن مكروه، ملامح الرجل تستبطن طيبوبة.
أضاف وعيناه مثبتتان على وجهي:
ـ عندي في منزلي مكتبة، أنا في أرذل العمر كما ترى، وحتى أولادي لا يرغبون في الكتب، أصغرهم في مثل سنك. لو تتفضل، تعال معي واختر منها ما تشاء..
ما هذا؟ أغرب دعوة أتلقاها! وأغرب كرم يُعرض عليّ! شككت في مصداقية الرجل.. لكنه أخذ بيدي وجرّني، وسرنا معا في الشارع.. من شارع إلى آخر، ومن زنقة إلى أخرى.. قال لي في الطريق، إنه يفضل المشي، وداره ليست بعيدة!..
أخيرا وقفنا أمام بناية قديمة، لها باب مقوّس من خشب رفيع وعليه مِقرَعَةٌ مِثل قَـبضة اليد.. لكن الرجل استعمل زرا كهربائيا منغرزا على الحائط..
بعد هنيهة حلّتِ البابَ فتاةٌ بإشراقة مُبهرة.. قدّمها لي باعتبارها حفيدته صوفيا.. حيّتني بلباقة، وفسحت لنا الممر.. وجدت نفسي معهما داخل صحن دار عتيقة على الطراز الأندلسي بسواري تحيط بالمكان، وفسحة في السقف تجعل ضوء الشمس المنعكس على جدار عُـلوي أبيض يُنير كل الجوانب.. أرضية بزليج ملون به رسومات وأشكال هندسية متناسقة.. على الحيطان فسيفساء بِعدّة ألوان..
دعاني الرجل للجلوس على فراش مرتفع قليلا عن الأرض، تحفّهُ وسائد مزركشة من جهة جهتين.. جلستُ قبالة نافورة مصقولة تحتل مركز الدائرة التي تطل على السماء، لكنها بدون ماء..
ثم استأذن الرجلُ كي يُبدّل ملابسه كما قال..
بعدما توارى خلف بابٍ جانبيٍّ.. تقدمتْ نحوي صوفيا، ثم همست بكلام أفزعني:
ـ يبدو أن جدي جاء بك ليُطلعك على مكتبته! صراحة لم تبق في الدار أية مكتبة، في أحد الأيام لما كان جدي غائبا، أخرج أبناؤه جميع الكتب، لا أدري ماذا فعلوا بها، دائما كنتُ أسمع تذمرهم مِن ملئها جناحا كاملا من هذه الدار! لما عاد جدي، وقعت له صدمة نفسية، ومن ذلك الوقت يعتقد أن مكتبته لا تزال قائمة، وكم من مرة يجلب معه شخصا كما وقع معك.. مَرْحبا بك.. أعِدُّ لكما الشاي. سيعود جدي للحديث إليك، وينسى تماما المكتبة ولِما رافقتَهُ..
ما أن تحركتِ الفتاة، حتى جمعتُ شتاتي وغادرت المكان.


الكاتب : مصطفى لمودن

  

بتاريخ : 29/11/2024