من محاسن الصحافة في المغرب أنها أهدت لنا جيلا من المهنيين الذين يستوطنون قارات الشعر والرواية والقصة، الأدب بشكل عام.
والزميل الأستاذ عبد الحميد جماهري واحد منهم، اجتمع فيه المبدع الشاعر والصحافي المهني والسياسي اليساري المناضل.
هو أحد الأصوات الشعرية المغربية من جيل الثمانينيات، من دواوينه “جاؤوا لنقص في السماء” و”مهن الوهم”، و”بنصف المعنى فقط”، ولعل عناوين هذه المجاميع تحيل على تميز صوته الشعري، وغوصه في تفاصيل قد لا ينتبه لها غيره.
مهنيا، هو مدير تحرير ونشر صحيفة من أعمدة المشهد الإعلامي المغربي الورقي، وهي صحيفة “الاتحاد الاشتراكي” التي كانت قبل اجتياح الرقمي لعوالم الورقي، أكثر الصحف انتشارا في صفوف القراء بنسبة مبيعات كانت قياسية حينها.
سياسيا، هو أحد المناضلين المشهود لهم في صفوف حزب الاتحاد الاشتراكي، حزب أنجب أسماء نستنير بإرثها إلى يومنا هذا.
لماذا هذا التجوال في “هويات” الرجل إن صح التعبير، وأضع كلمة “هويات” بين قوسين حتى لا يساء الظن بها..
لأن، التماهي بين الشاعر والصحافي والسياسي حاضر بقوة الكلمة والذاكرة والموقف في كتابه الذي بين أيدينا اليوم، في هذا اللقاء الذي نجتمع فيه تحت سقف بيت الشعر، الكتاب من عنوانه عبارة عن إعلان انتماء “أنا وفلسطين: المسافة الصفر”، كما حضرت عبارة “المسافة الصفر” التي كثر تداولها في بعض الصحافة وخاصة الفضائيات العاشقة لفرجة الحرب، طيلة فترة الإبادة في غزة، لكنها بالنسبة لجماهري فهي تحيل على التماهي مع القضية والتوحد معها أيضا، على الصعيد الشخصي من خلال استرجاع ما مضى من مواقف وأحداث وقصص، وعلى المستوى الجماعي كطلاب كبرنا على القضية الفلسطينية وتنفسنا أغاني العاشقين وأشعار درويش وطبعا مارسيل خليفة، وعلى الصعيد الشعبي، حيث يعتبر المغاربة القضية الفلسطينية قضية وطنية.
عبد الحميد جماهري مثل جيلنا بأكمله خاصة من زاوجوا بين الإبداع والمهنة، استطاع أن يفصل بين الشاعر والصحافي والسياسي، لكل مقام مقال ولكل كائن فيه “جبر خاطر” وليس كسره كما هو عموده الشهير والبليغ.
لكنه في كتاب “أنا وفلسطين المسافة الصفر”، حشد جماهري كل جيوشه، الإبداعية والمهنية والسياسية، وشحذ كل ذاكرته وعواطفه ومواقفه بين دفتي هذا المؤلف واستهله بما يشبه بيان حقيقة بحديثه عن “توجعنا الأرض”، وأضاف تلك التفاصيل التي يتميز بها وهي “يسارا قليلا جهة الكبد”، والإحالة هنا واضحة على “الكبدة الزغبية” كما كانت تقول أمهاتنا، “الكبدة” مغربيا تعبير عن الحب الذي لا مناص منه. ويواصل جماهري عنوانه المثير والبليغ بـ “يمينا قليلا جهة القلب”، ولعل هذا المقطع لا يحتاج إلى كلام حوله رغم أن النبض يأتي من اليسار إلا أن اليمين من يمن المحبة الدفينة.
هذا محض اجتهاد شخصي فلست ناقدا، إنما عاشق لمثل هذه الكتابات التي تمتع رغم الألم، والحقيقة أنه من الصعب جدا على شاعر أن يعيش ويترجم بالكلمات الوجع، وأن يتجرع هذه الكمية الكبيرة من مشروب حنظلي والعهدة على حنظلة ناجي العلي، وأن يخوض في موضوع محفوف بالوجع..
باختصار وحتى لا أطنب في الكلام، يفتح الزميل الأستاذ عبد الحميد جماهري قلبه وذكرياته على مصراعيها، أمام القارئ، لأن المقام يستحق وهو مقام القضية الفلسطينية التي “طالما غنى المغرب عقودا طويلة” لها، و”سيظل ما شاءت حقيقة التاريخ ذلك، يغني للقدس” عن “حب وطواعية، سرا وعلانية”، كما يسمح لنا بالتجول في دروب يوميات عبرت وأحداث ترسخت في نبضه ولحظات وثقها بعقله وقلبه، ويقتسم معنا مواقفه السياسية بخصوص أكثر القضايا عدالة في التاريخ الحديث… ويبتهج بتلك اللحظة “عندما غنت فلسطين كلها: عاش المغرب عاش عاش”..
(قدمت هذه الشهادة من طرف الصحفي عبد العزيز بنعبو في اللقاء الذي نظمه بيت الشعر في المغرب أول أمس الأحد 1 دجنبر خلال فعاليات المعرض الجهوي للكتاب بتمارة )