الانتقام بين بيكيت وكياروستامي!
ليس فيلم «أحد تلك الأيام التي مات فيها هيمي» فيلما عن الانتقام، كما تحيل إلى ذلك مسارات القصة التي يقدمها إلينا المخرج مراد فرات أوغلو على نحو يكشف الصورة المعقدة لحالة إنسانية تواجه الصعوبة: الديون وانسداد الأفق.
لا يمكن لهذا الجميل والجليل الذي نشاهده في الفيلم أن يجعلنا نختزل تلك الحالة في إحساس واحد، أو في انجراف نفسي واحد، أو في تيار فكري متماسك. إنها حالة نفسية في أشد درجات هشاشتها.
قصة قاسية ولكن آسرة عن الانتقام والعواقب التي قد تترتب على كلا جانبي الفعل العنيف. إذ لا تكون الإجابات على الأسئلة العالقة دائما واضحة، أو مقنعة، أو يمكن هضمها على وجه الاحتمال. ومع ذلك، فإن تدرجات الحكاية ومساراتها المتعرجة تكاد تبيع لنا سرها منذ البداية، انطلاقا من السؤال التالي: ما هو المنطقي في «الانتقام»؟ على من يقع اللوم؟ على الظروف الاجتماعية القاسية؟ على الوعي بها؟ على هيمي؟ على النظام العام؟
لا نفاجأ إطلاقا بالنهاية التي أخذت «مسارها التحسيني». لا يقع فعل الانتقام. فهل كنا ننتظر أن يقع، ليحدث شيء ما. الرجة الدرامية ! لا شيء وقع أو سيقع. هذا هو ما قدمه لنا الفيلم خارج المتوقع، فبدا الأمر محبطًا إلى حد ما. فالبداية القوية، من حيث السرد والأسلوب، لم تستمر، ودخلنا في مزيج غير فعال وغير تصاعدي من التأملات الوجودية والتدخلات الباهتة لمنع تحقق الانتقام. هل هذا ما كان يريده فرات أوغلو: القصة مجرد ذريعة للحديث عن أشياء أخرى تخترق المجتمع التركي؟ ليس مهما ما يقع في الخارج، وليس مهما تماسك الحبكة الفيلمية. المهم هو ما يقع داخل الشخصية. المهم ما يقع عليها من أثقال اجتماعية وسياسية تجعلها رهينة للصعوبة.
حين تشاهد فيلم «أحد تلك الأيام التي مات فيها هيمي» لا يمكنك أن تتجاهل الحضور الطاغي لصموئيل بيكيت وعباس كياروستامي. وهذا ما شكل القوة الإخراجية لهذا الفيلم الذي يمكن النظر إليه بوصفه مزيجًا مثاليًا بين الغرابة والكآبة. إذ هناك العديد من الخيوط السردية والموضوعاتية الرائعة التي تجعل هذا الفيلم، رغم افتضاح مساراته، أعمق بكثير مما نتوقعه بناءً على نظرة سريعة على المقدمة.
ظاهريًا، هذا فيلم عن الانتقام ضد رئيس العمال الذي اختار إساءة استخدام سلطته، وعليه الآن مواجهة العواقب غير المتوقعة. فالشتيمة لا تقتل، لكن المسدس قد يقتل، وقد يضاعف الصعوبة، ويجعلها مغلقة على وجه الإطلاق.
إن فيلم «أحد تلك الأيام التي يموت فيها هيمي» عبارة عن قصة تراجيدية عن عامل في حقل صناعي لتجفيف الطماطم في تركيا. هذا العامل يقرر الانتقام من رئيس العمال بقتله رميا بالرصاص، وهذا ما يجعل من الفيلم حاملا لثقل هائل من المسارات بكل محتواها الموضوعي وأسسها الاجتماعية والثقافية، خاصة أنها تجعلنا أمام موقف درامي خارج عن المألوف. لا شيء مهم يقتضي كل هذا الغل.. لا شيء يقتضي القتل.. لا شيء يبرر الانتقام بعنف.
تدور كل أحداث الفيلم تقريبًا في العالم القروي مع بعض الوقفات القصيرة في المدينة الصغيرة المحلية، ويستخدم الفيلم «الدراجة النارية»، أي الطريق كنطاق محدود لاستكشاف الطبيعة، وأيضا الروتين اليومي للشخصيات التي تكاد لا تفعل أي شيء، وذلك من خلال شخصية العامل صعب المراس، مما يجعلنا نقف عند بعض الخطابات الرائعة حول البنية الطبقية والاجتماعية لتركيا، فضلا عن محنة العمال ذوي الياقات الزرقاء الذين يُنظر إليهم على أنهم عمالة مستهلكة تستغل، حتى دون أن تتقاضى أجرها في الوقت المناسب، وهي لهذا السبب تزدري السلطة (رئيس العمال) وترغب في الانقضاض عليه.
يصوغ المخرج، بإيقاع بطيء، فيلمًا يقع في نقطة تقاطع بين الحكاية الكلاسيكية التي تحمل مغزى مهمًا، وحكاية انتقام مسرحية إلى حد ما، وهما في الأساس وجهان لعملة موضوعية واحدة، لا سيما في كيفية سعيهما لاستكشاف المصير والعواقب. كما تتشابك في السرد المركزي حوارات حول الثقافة، لا سيما الحياة في تركيا المعاصرة للطبقة العاملة، وأحوال الشيخوخة في القرية، وحياة الناس القرويين. وبالنظر إلى أن هذا الفيلم هو أولى تجاربه الإخراجية، فإن هناك العديد من التفاصيل المثيرة للإعجاب من حيث السرد والتنفيذ، والتي تشير إلى قدرة فرات أوغلو على أن يكون صوتًا مثيرًا في السينما الجديدة، كما أن أسلوبه الجريء في سرد القصص يساعد في التغلب على بعض العيوب الطفيفة التي يتضمنها الفيلم، وهذا يدعو إلى وقفة حقيقية لتطوير الكتابة، والمغامرة إلى أقصى حد في اتجاهات مختلفة من حيث النبرة والتنفيذ العام.
فرغم الإيقاع البطيء للفيلم، فإنه يتطور تدريجيا إلى ملحمة وجودية تأملية نتابع فيها الشخصية الرئيسية وهي تخطط للانتقام، بأسلوب مكشوف وغير مؤثث في الغالب، حيث تضع الكاميرا المشاهد على مسافة من هذه الشخصية، مما يخلق إحساسًا بأننا نختلس النظر إلى حياتهم بدلًا من المشاركة الفعالة في الرحلة إلى جانب البطل. ولهذا نستطيع أن نقول إن فرات أوغلو نجح في صنع التلقي المتلصص، إذ نتلصص على الروتين اليومي للشخصيات خلال اليوم الذي تدور فيه الأحداث.
قد يرى البعض أن هذه المقاربة السينمائية باردة وسريرية، ويمكن أن تفتقر إلى المضمون الذي يحترم المكونات المعقدة للسرد وتعرجاته وصيغه، لكن من الواضح أن المخرج يمتلك الثقة اللازمة بالنفس لاستخدام هذه المسافة المتعمدة كأداة سردية قوية.
إنه بالفعل عمل جذري واعد سيمكن هذا المخرج، في أفلامه القادمة، من الكشف عن نفسه بطريقة ثابتة وتدريجية، حيث يختار أن يتناول موضوعاته على نحو بطيء وليس على نحو متفجر.