«توأمة انفصالية» الريف والصحراء: الحديث عن الحرب بين المغرب والجزائر؟
عبد الحميد جماهري
الصورة التيعممها التلفزيون المنسوب إلى «الجمهورية الصحراوية» الموجود مقرها فوق التراب الجزائري، باستضافة ما يسمى بـ«الحزب الوطنيالريفي» الذي يدعو إلى انفصال شمال المغرب عن باقي التراب الوطني، وصورة تنظيم الدورة الأولى من «يوم الريف» فيالعاصمة الجزائرية واحتضانه من طرف التلفزيون العمومي، تعكسان سلوكا مفكرا فيه، عن وجود «توأمة» انفصالية بين شمال المغرب وجنوبه، كما لا يمكن فصلهما عن أجواء التصعيد الحربي التي تسود المنطقة. لاسيما باستحضار ما قاله وزير الخارجية المغربي ناصر بوريطة أمام البرلمان في الأسبوع الثاني من نونبر الماضي!
وقد كان واضحا أن مثول وزير الخارجية المغربي أمام البرلمان لم يكن عادياً حيث صرح، بواضح العبارات، «أن الجزائر تخطط لمواجهة عسكرية مع المغرب»، وهي في اعتقاد كاتب هاته السطور «جملة لا شك أنها ستدخل التاريخ، لا تاريخ البرلمان وحده، ولا تاريخ التصريحات الديبلوماسية فقط بل تاريخ البلاد برمتها»…
كانت العبارة صدى لعبارات سابقة عليها عن الحرب. أولها ما قاله عبد المجيد تبون قبل إعادة انتخابه حيث ورد على لسانه فيمقابلة مع صحيفة «لوفيغارو» الفرنسية، نشرتها يوم الجمعة 30 دجنبر2022 أن «قطع العلاقات مع المغرب كان بديلا للحرب معه، والوساطة غير ممكنة بيننا». فيتبرير بعدي لقرار قطع العلاقات مع المغرب فيغشت2021. وهوما يعيد طرح السؤال: هل تحرر رئيس النظام من إكراهات سنة2021؟
وعبارة الحرب صدى لما كتبه المؤرخ والمتابع السياسي البعيد النظر عبدالله العروي فيكتابه الأخير «دفاتر كوفيد» من كون« الحرب بالنسبة للجزائر جارية. وسيكون من السخافة الاعتقاد أن سياسة الجزائر الحالية لا عقلانية، أو أنها من فعل سياسيين جهلاء أو عسكريين يخرِّفون، وأن حكاما أقل سنا قد يديرون وجوههم عنها… هذا وهم خطير..»!
صورة الاحتضان المتبادل بين الانفصاليين ( المهمشين واقعيا) فيالريف والانفصاليين في البوليساريو، لمدة نصف قرن فيالجنوب،لا تجد تبريرها في التصعيد الديبلوماسيالذيعرفته الآونة الأخيرة بين البلدين المغاربيين، ولا في فشل اليد الممدودة من طرف العاهل المغربي،بل هي تعود إلى ما هو أبعد في نظر العديد من المتابعين والمهتمين بمآلات المغرب الكبير والمتوجسين من شبح الحرب..
وإذا كان المغرب الرسمي لم يتعاط مع هذا التحرك الأخير، بأي نوع من الهجومية، فإن ذلك لم يمنع وزير خارجية المغرب من أن يطرح احتمالية الحرب بين المغرب والجزائر، كما اتضح أن المغرب الشعبي والسياسي،لايستبعد هذا الاحتمال، من خلال الهجومية التي يرفعها إلى مرتبة العدوانية في التعامل مع قضايا وحدته الترابية(الدعوات إلىالتمرد علىالملكية وإسقاطها، الدعوات إلى الهجمات من داخل التراب المغربي، طرد ما تبقى من المغاربة، …)
ـ هناك من ربط في التحليل بين تصريحات عمر هلال وناصر بوريطة فيالمحافل الدولية، وخصوصا بمناسبة مناقشات قضية الصحراء أمام مجلس الأمن الأممي، فيأكتوبر وأبريل من كل سنة، وأمام اللجنة الرابعة، تصريحات حول منطقة القبائل فيالجزائروالدعوة إلى تقريرالمصير لصالحها، وهو موضوع له تبعاته ولا شك، وطرحه مثلا المؤرخ عبد لله العروي فيكتابه المشار إليه أعلاه، وله في ذلك نظرية متكاملة (الصفحة131من الكتاب) تقوم على أساس القول إنه فيالحالة الانفصالية:« إذا كان المغرب قد قرر، بعد تردد طويل،أن يساند فعليا القبائل والجزائر ردت بدعم الانفصاليين الريفيين، وهو ما يرد عليه المغرب لاحقا بدعم انفصالية «الطوارق» جنوبا، وهكذا دواليك، سنرى أن نظام المخزن المغربي الذيتأسس، من البداية علىمبدأ البيعة والانضمام الحر للمجموعات المستقلة، يمكنه أن يدبر الوضعية بشكل أفضل من النظام العسكري الجزائرياليعقوبي القوي في مركزيته..» إلى أن يقول إن «البيعة هيالإطار الذي تم من خلاله طرح الحكم الذاتي» ويختم بأن «حكما ذاتيا فيالريف أو في سوس طرح وارد حدوثه،على المدى البعيد في الإطار الدستوريالحالي».
وفيالحقيقة، فإن هاته المتوالية الانفصالية هي مسلسل حربي بامتياز قد ينتقل إلى المواجهات الدامية فيلحظة من اللحظات، قبل أن تسعى القوى الداعمة للمواجهة إلى محاولة الترويج لوضع اجتماعي وهوياتيـ تاريخي خصبلاستنبات الفكرة الانفصالية.
غير أن المسألة تعود إلى ماقبل الملاسنات الأممية وأبعد من الشروط الاجتماعية التي تعرفها المنطقة ونزعتها القوية في إظهارطاقتها النضالية وقوتها فيصناعة الحركات الاحتجاجية، المختومة بوعيها الوحدوي. حيث لا يغيب عن الأذهان أن «التوأمة الانفصالية »،ظلت حاضرة فيأجندة الصراع السياسي منذ مايزيد عن49سنة. وقد قيض لكاتب هاته السطور العودة إلى وثيقة يعود تاريخها إلى سنة1975، بموازاة مع قرارات محكمة العدل الدولية وقرار المغرب بتنظيم المسيرة الخضراء إلى إقليمه الجنوبي، وثيقة كشفتها مجموعة من جماعة البوليساريو كانوا يسمون «مجموعة لكويرة» سلموها إلىالأمين العام للأمم المتحدة فيسبعينيات القرن الماضي كورت فالدهايم،عن تنسيق بين جزائر الهواري بومدين، وإسبانيا الجنرال فرانكو، بخصوص تنسيق مشترك تتولى فيه العسكرتارية الجزائرية التي أعلنت معارضتها لاسترجاع المغرب لترابه الصحراوي،«القيام بكل الإعمال الإلهائية» فيالشمال في حال وجدت القوات الإسبانية نفسها فيحرج في الجنوب أي الصحراء. وهو ما دفع العديدين إلى اعتبار «التوأمة الجديدة» في2024إحياء لهاته الاتفاقية، فيسياق سياسي مغاير للغاية، طابعه الأساسيهو مساندة إسبانيا الحالية للمغرب فيترابه الصحراوي وخروجهابموقف لجانبه يجعل الوضع فيالصحراء محسوما أكثر لفائدة المغاربة.
ومن هنا شرعية السؤال التالي : هل التوأمة الراهنة محاولة أخيرة لإعادة الوضع إلى ما كان عليه مع الإبقاءعلى نفس درجة التوتر شمالا وجنوبا أم هيعملية استبْدالية يُعوِّض فيه التحركُ شمالا انحسار أطروحة البوليساريو في الانفصال جنوبا ؟
استهداف الريف،هو فيجانب من جوانبه،يمس عملية تأهيل تاريخية واقتصادية عرفتها المنطقة، بكل جراحات الماضي.
وإذا كانت إرادة تنشيط التوتر بين الريف والدولة لم تستقطب أيا من المثقفين والسياسيين وعموم الريفيين الجديين والوازنين من المنطقة، فإنالإرادة في دق إسفين بين القرار السياسي وبين المنطقة ليستغريبة ولا بعيدة، بعد كل الذي حصل،وملخصها هو التالي:
حرص العهد الجديد فيالمغرب أن يجعل من الريف (شمال المغرب)،النموذج المجالي للمصالحة التيقادها الملك محمد السادس، مع التاريخ واللغة والبؤر الانفجارية فيالمجتمع. بل يمكن القول مع العديد من الكتابات الرزينة والتاريخية إنه ارتقى به إلى «تراب مفضل»، «واصطفاه،» ليكون وضعه الاعتباري الجديد عنوانا لتصالح كبير بين الدولة،وفاعلها المركزي وعموم الكيان المغربي مجتمعا وثقافات وذاكرة سياسية.
بدون العودة إلى تلكم التفاصيل التي صارت نموذجا في تدبير الانتقالات نحو الديموقراطية والعدالة والانتقالات المتعددة. يمكن القول إن مسار الانتقاء المرتبط بالريف،تجسد كثيرا فيجعله المكان الأكثر رمزية فيإبراز هذا الطابع الانتقائي. من حيث أن الملك الجديد جعله فضاء لحفل«البيعة»،المرتبطة بجوهر الوجود الشرعيللملكية، والنظام السياسي برمته،علاوة على أنها الحزام الرمزي والديني للحدود الترابية. فالحفل الذي يتم كل متم يوليوز من كل سنة، شهد أكبر عدد من فصوله، أكبر منغيره من مدن ومناطق المغرب (2012و2002، 2003ثم سنوات2016، 2017، 2024… ) كما أن المراحل الحرجة نفسها التيعاشها المغرب،في2011مع الربيع العربيثم داخليا مع حراك الريف2017، لم تمنع الملك الجديد من اختيار الريف، من خلال تطوان وطنجة، ومن الحفاظ على هذه الأفضلية الإرادية الانتقائية عنوانا من عناوين الدولة ـ الأمة الجديدة. ولعل الكثيرين ( أبرز مثال على هذا هو كتاب محمد الطوزي مخيال الدولة فيالعهد النيوليبرالي .. ) رأوا في ذلك إعادة الاعتبار لمنطقة ظلت محط عنف أو تهميش من طرف نظام الملك الراحل. ورأوا فيالتنقلات الملكية وحفل البيعة قربا جسديا مع منطقة بهذا التاريخ المثقل، منذ حرب الريف أيام أنوال1921ووصولا إلى تمرد بداية استقلال1958الذي تعرض لعنف كبير.
والريف كجغرافيا متوسطية، له مكانته فيالتراب الوطني،كما له الرمزيات التاريخية التيتتقاطع مع ضرورته الجيوسياسية والجيواقتصادية حاليا، والتيدفعت باتجاه هاته المصالحة العَمْدية من طرف الملك محمد السادس. وفيهذه المقاربة المعتمدة لا يكون الريف بنية ترابية «ما تحت وطنية» بقدر ما هوفرصة للتاريخ والسوسيولوجيا والسياسة لبناء لحـظة عالية الدلالة.
والريف بمعنى من المعاني هو المكان المفضل للمشاريع التي ترمز إلى العهد الجديد، من خلال احتضان ميناء طنجة المتوسط،بما هو مشروع بدأ في تزامن دال مع مسلسل المصالحة وطي صفحة الماضي (2002)، اكتسىدلالة كذلكم من خلالعاصمته طنجة الدولية والمرجع الآمن للوطنية المغربية والمنبر الجغرافي لمحمد الخامس لخطاب المطالبة بالاستقلال والوحدة الوطنية على وجه الخصوص. ومن خلال ميناء طنجة المتوسط صارت الحسيمة،عاصمة الريف الدائمة، جزءا من التراب الجهوي للشمال الموسع،علاوة على كون الريف بهذا التعريف الترابي الإداريهو بوابة المغرب الشمالية!
لعل الاستهداف يطال كل هاته الرمزيات وهاته المرتكزات، تماما كما كان استهداف الصحراء بسبب مركزيتها فيصناعة الدولة ( ببعديها: الإمبراطوري الذاهب نحو العمق الإفريقي وبعد الدولة الأمة،المستقلة تاريخيا)،على أساس أن المغرب «دولة صحراوية»،ومن جنوب المغرب انبثقت الكثير من الدول التي تعاقبت على حكم البلاد مما حدا بالكثيرمن نخب المعارضة والحكم إلى اعتبار أن «الإنصاف التاريخي كان يقتضي أن يلتحق المغرب بالصحراء » وليس عودتها إلى حضن الوحدة الوطنية. فقط .( وهي قناعة اجتمع حولها مناضل وقيادي يساري شرس وشهيد هو عمر بنجلون، والملك الراحل الحسن الثاني…)،وهيحكمة تطل دوما لتفسر جزءا من هاته الوطنية المتشددة فيوحدة التراب، وتفسر كذلك قوة التضاد مع الجيران .
ومن كل ما سبق يبدو أن توفير شروط المواجهات المسلحة ليس تمرينا إعلاميا أو ترتيبا بروتوكوليا، يقتضيه تنفيس التوتر، بل هو تراكم حقائق يتجمع مثل السحب في المنطقة…
نشر في «العربي الجديد»
يوم الثلاثاء 2024/12/03
الكاتب : عبد الحميد جماهري - بتاريخ : 04/12/2024