لا يتناول فيلم «تحت البركان» للمخرج البولوني داميان كوكور الحرب في أوكرانيا من زاوية سياسية أو عسكرية بقدر ما يتناول الأدوار الاجتماعية في قلب الحرب، وما يرتبط بها من تضارب في الواجبات: العودة إلى كييف أوممارسة السياحة في « تينيريفي « وما يرتبط بها من استمتاع.
يروي كوكور قصة عائلة أوكرانية تقضي عطلتها في تينيريفي: «رومان» البالغ من العمر أربعين عامًا (رومان لوتسكيي)، وزوجته ناستيا (أناستازيا كاربينكو)، والمراهقة صوفيا (صوفيا بيريزوفسكا) والصغير فيدير (فيدير بوجاتشوف)، الذين أنهوا للتو عطلتهم. غير أنهم، وهم على أرضية المطار للعودة إلى كييف، تندلع الحرب. فيضطرون إلى البقاء، مما يفرض عليهم الإقامة في فندق، وهناك أمام الانتظارية القاتلة التي يجدون أنفسهم فيها، وبسبب انقطاع أخبار الأهل، والقلق من الدمار الذي قد يلحق ببلادهم جراء القصف الروسي المتلاحق على عدة مدن أوكرانية، يقحمنا الفيلم في مسارات وتوترات تعيد تعريف العلاقات التي تربط بين رومان وناستيا، وبين رومان وابنيه، وبين ناستيا وصوفيا، وبين صوفيا وصديقتها في أوكرانيا، وبين صوفيا وأليكس، وبين ناستيا وفيدير. الكل يواجه أسئلة العودة، وإلى أين يعودون، وما إذا كان واجب رومان هو الدفاع عن وطنه، أو الدفاع عن أسرته، ولهذا حين قرر الزوج العودة إلى كييف من دون أسرته، أجابته زوجته بسخرية لاذعة: «يا لشهامتك! يا لبطولتك!». ففي لحظة ما تبدأ كاميرا كوكور في تسجيل الهزات التي تحدث داخل أسرة، منذ اندلاع الحرب الذي يغيّر ديناميكيات العلاقة بينهم حتى وهم في عطلة اضطرارية، ويخلق توترات جديدة تتجسد في انفجارات لاحقة، تنتهي بالصراخ أو البكاء أو الانعزال، حتى أن صوفيا تعبر لصديقتها صراحة عن عدم رغبتها في نشر صورها على الانستغرام لأنه من غير المنطقي أن تنشر صورا للاستجمام وبلادها تتعرض للقصف.
بناء التوترات النفسية ولحظات الاصطدام بين أفراد الأسرة ساهم في منح الفيلم دينامية سردية درامية جعلت المخرج ينجح باقتدار في تفادي الرتابة. فهو فيلم عن الحرب، لكنه لا يصور الحرب. لكنه بالمقابل يوظف كاميرا ذكية في تأزيم الزمن النفسي وفي خلق صدام درامي، وأيضا في بناء استعارات مذهلة تحيل إلى الحرب دون أن تفشي ذلك مباشرة.
حبكة هذا الفيلم تحيل بوضوح تام إلى فيلم «السائح» للمخرج السويدي روبن أوستلوند، الذي حوّل قصة رحلة إلى جبال الألب إلى دراما نفسية عن الأسرة والأدوار الاجتماعية والذكورة وحق الجبن والأنانية؛ وهي الأسئلة تقريبا التي تخترق قصة فيلم «تحت البركان» .
يسجل كوكور، الذي سبق أن أثبت في فيلم «خبز وملح» أنه بارع في بناء جو من الخطر غير المرئي، ولادة الحرب التي لم تكن مرئية قبل مغادرة بلاده. ويتجلى ذلك، على سبيل المثال، في لحظات تبدو عابرة، مثلما حين تدفع ناستيا صوفيا الخائفة من القفز إلى الماء، أو عندما يصور كوكور السيارات المتصادمة في مدينة الملاهي، أو عندما يتشابك رومان مع سائق متعصب يرفض أن يفسح له الطريق، أو عندما تقرر صوفيا ملاحقة فتاة كانت تسبح في مسبح الفندق. ويظهر هذا المنحى بصورة أوضح وأكبر في مشاهد النزلاء الروس المقيمين مع الأسرة في الفندق نفسه!
على الرغم من جاذبية رومان ورجولته الشديدة، إلا أنه ينهار أمام أعيننا في الكثير من المشاهد (الضياع في الجبل، النحيب في دورة المياه، الصراخ في وجه زوجته، الصراخ في وجه صوفيا التي أخذت فيدير إلى حديقة الألعاب..إلخ). فالتماسك يتصدع من الداخل، وهو يواجه خيارًا مستحيلًا: إما أن يترك عائلته ويذهب إلى كييف لحمل السلاح أو أن ينسى وطنه ويعيش حياة مريحة في الغرب المتضامن مع الأوكرانيين ضد جيش بوتين. هو ممزق بين واجبين، الواجب الوطني والواجب الأسري. واجب المواطن الذي عليه أن يحارب مع أوكرانيا، وواجب الأب الذي ينبغي أن يرعى أسرته ويحميها من مهالك الحرب. ولهذا، فإن الفيلم جاء مفعما بالمشاعر الحقيقية والألم الحقيقي، وخاصة في المشاهد التي تصور المراهقة صوفيا، ولعل أقواها على الإطلاق هو ذلك الاستدعاء القوي للألعاب النارية وعلاقتها مع القصف الذي تتعرض له المدن الأوكرانية، في المشهد ما قبل النهائي، إذ ليس هناك أي مسافة آمنة بين ما تعيشه أوكرانيا، وما يعيشه الأوكرانيون، حتى الذين يقيمون في البلدان الأخرى. فالألم واحد، والتمزق واحد، ويكاد كل اللاجئين مهما اختلفت جنسياتهم يشتركون في ذلك، ولعل هذا ما يحمله لنا المشهد الختامي الذي يصور اللاجئ الإفريقي أليكس وهو يغني أغنية ألفها لأمه، أغنية مليئة بالحزن والحنين.
ومن المشاهد القوية والدافئة في فيلم «تحت البركان»، التي ينبغي أن نشير إليها، تلك المحادثة الرائعة بين رومان وابنته صوفيا وهما جالسان على مقعد في حديقة عامة يتناولان مشروبا ويتحدثان عن الحب. أداء هادئ دون نبرة زائفة، وحديث تغلب عليه الوقفات الصامتة لكنه لا يخلو من الحرارة الإنسانية التي تجعلنا نؤمن بصدق هذه القصة الرقيقة والأنيقة للغاية.
عن هذا الفيلم قال داميان كوكور»الأفلام الجيدة تحكي قصصًا عن لحظة معينة في التاريخ والزمن، ويمكن «قراءتها» بمعزل عن ذلك الحدث المحدد. ففي نهاية المطاف، الحرب تحدث دائمًا في مكان ما في العالم، لكننا استيقظنا فجأة لأنها في الجزء الأبيض من أوروبا وليس في بلد ما في إفريقيا».
وأضاف: «أنا لا أعرض الحرب في هذا الفيلم. ففي البداية، كنت خائفًا من ردود فعل الأوكرانيين، إذ كيف لمخرج من بولونيا أن يصنع فيلمًا عن حربهم. لكنهم أدركوا أن هذا الفيلم يجمع بين تجاربهم ومنظور أوروبا الغربية للحرب في بلدهم. وفي النهاية، أعرب لي أصدقائي الأوكرانيون عن امتنانهم، وهذا أشعرني بأن ما قمت به هو الشيء الصحيح الذي يجب القيام به».
وتابع: «إذا كان الشيء أصيلًا، بغض النظر عن موضوعه، فسيجد مستمعًا ومشاهدًا، إذ تحدث لنا الأشياء نفسها طوال الوقت، ولكن ليس لدينا جميعًا الوقت والقدرة على وصفها في السينما أو الأدب».
وقال: «في فيلمي «تحت البركان»، هناك الكثير من أوجه التشابه في طريقة عملي، لكن طريقة سرد القصة مختلفة. فالكاميرا أقل دقة، والفيلم أقل رسمية وأقل إكلينيكية من فيلمي السابق «خبز وملح»».
فيلم «تحت البركان» للمخرج البولوني داميان كوكور ..لا لون للجوء في زمن الحرب!
الكاتب : سعيد منتسب
بتاريخ : 06/12/2024