العاطفة في سياق الثورات العربية: بين الأبعاد الفردية والجماعية
الحسين خاوتي
منذ اندلاع الثورات العربية في مطلع العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين، اتخذت العاطفة مكانة محورية في تشكيل مسارات الأحداث وتوجيه مجريات التغيير. الثورات بالإضافة لكونها فعل سياسي أو اجتماعي؛ فهي مرآة تعكس تجارب إنسانية عميقة ترتبط بالكرامة، الظلم، والتحرر. في السياق العربي، تغلب العاطفة على العقل في كثير من الأحيان، نتيجة عوامل تاريخية ودينية واجتماعية تعمق هذا النمط السلوكي.
العاطفة جزء أصيل من تكوين الإنسان العربي، تتجلى في موروثه الثقافي من شعر وأدب وفنون. فمنذ الجاهلية، كان الشعر العربي تعبيرًا عن حالات وجدانية تتراوح بين الفخر والحزن والحب والحنين. لقد كان العربي شاعرًا بالفطرة، وتجلت مشاعره في كل شيء من وصف الطبيعة إلى الغزل والرثاء.
هذه الطبيعة العاطفية استمرت عبر العصور، وازداد تأثيرها مع ظهور الإسلام، الذي أضفى بُعدًا روحيًا وأخلاقيًا على المشاعر الإنسانية. لكن في الوقت ذاته، أدت التحولات الاجتماعية والسياسية التي شهدتها المنطقة العربية، من الاستعمار إلى الاحتلال والأنظمة الاستبدادية، إلى تراكم حالة من الغضب المكبوت الذي أصبح قابلًا للانفجار في أي لحظة.
في هذا السياق، يمكن فهم الثورات العربية كصرخة إنسانية تستجيب لمظالم متراكمة تجاوزت قدرة الأفراد والجماعات على الاحتمال.
في سياق الثورات، تأخذ العاطفة بُعدًا جماعيًا يتحول إلى قوة دافعة للتغيير. حين اندلعت شرارة الثورات العربية في تونس عام 2010، ثم انتشرت كالنار في الهشيم إلى دول أخرى، كان المحرك الأساسي لها هو الشعور بالظلم والرغبة في التحرر.
كان للشعارات التي رفعتها الثورات دور كبير في تعبئة الجماهير. شعارات لامست وجدان الناس وأثارت مشاعرهم المشتركة، مما جعلها تُردد في الميادين بشكل موحد. هذه الشعارات كانت تختزل طموحات وآمال الملايين.
من أبرز سمات الثورات العربية هو تأثير “عدوى العاطفة”. عندما تجتمع الجماهير في الساحات والميادين، تنشأ حالة من التفاعل العاطفي المشترك الذي يُذيب الفوارق الفردية ويخلق شعورًا بالوحدة والانتماء. هذا الشعور العاطفي كان أحد أهم عوامل الاستمرار في المظاهرات رغم التحديات والمخاطر.
رغم أن العاطفة كانت القوة الدافعة للثورات إلا أنها كانت أيضًا مصدرًا للتحديات والمشكلات .
على الجانب الإيجابي، ساهمت العاطفة في تحقيق تماسك غير مسبوق بين فئات اجتماعية متباينة. ففي مصر وتونس، خرج الناس من خلفيات اقتصادية ودينية وسياسية مختلفة ليطالبوا بالتغيير. كان هذا التوحد العاطفي عاملًا رئيسيًا في نجاح المراحل الأولى من الثورات.
لكن على الجانب الآخر، أدت غلبة العاطفة على العقلانية إلى تعثر المشاريع الثورية. ففي ليبيا وسوريا، تحول الغضب الجماعي إلى صراعات أهلية دامية عندما لم تستطع القوى الثورية ترجمة مشاعرها إلى خطط عملية لبناء دولة جديدة.
لا يمكن إغفال دور الدين والتاريخ في تعميق البُعد العاطفي للثورات العربية. الدين بالنسبة للعربي هو مكون أساسي للهوية الثقافية والنفسية. في الثورات العربية، استُخدمت الرموز الدينية لتعزيز شرعية الحراك. من خطب الجمعة إلى التكبير في الميادين، كان الدين حاضرًا كقوة معنوية توحد الجماهير.
أما التاريخ، فقد لعب دورًا مزدوجًا. من جهة، كان مصدرًا للإلهام عندما استُحضرت رمزية المقاومة ضد الاستعمار والطغيان. ومن جهة أخرى، كان مصدرًا للغضب عندما تذكّر الناس عصور الاستبداد والهيمنة.
الثورات العربية كشفت عن عمق التداخل بين الإرث الثقافي والسياسة في العالم العربي. فالإرث الشعري والخطابي الذي يمجد البطولة والكرامة أسهم في صياغة مفردات الثورات، لكن هذا الإرث أيضًا جعل من الصعب الانتقال إلى التفكير العقلاني والبراغماتي بعد سقوط الأنظمة.
على المستوى الفردي، أثّرت الثورات على الحالة النفسية والعاطفية للمشاركين فيها بطرق متباينة.
في البداية، شعر الكثيرون بالانتماء لموجة التغيير، حيث كانت المشاركة في المظاهرات تعبيرًا عن رفض القهر واستعادة الكرامة.
لكن مع تعثر المشاريع الثورية، تحولت مشاعر الفخر إلى خيبة أمل. فالأحلام التي بدا تحقيقها وشيكًا في عام 2011، تحطمت أمام عقبات الواقع السياسي والاجتماعي.
نجاح أي حركة ثورية يعتمد على تحقيق التوازن بين العاطفة، كقوة دافعة، والعقلانية، كقوة منظمة. الثورات العربية أظهرت بوضوح الحاجة إلى رؤية استراتيجية تأخذ في الاعتبار تعقيدات الواقع.
لتجاوز الحلقة العاطفية، تحتاج المجتمعات العربية إلى نظام تعليمي يعزز التفكير النقدي ويقلل من التبعية العاطفية. كما أن الثقافة، من خلال الفنون والآداب، يمكن أن تلعب دورًا محوريًا في توجيه العاطفة نحو البناء بدلًا من الهدم.
الثورات العربية، رغم تعثرها، تبقى واحدة من أبرز التحولات التاريخية في المنطقة. إنها شهادة على قوة العاطفة كمحرك للتغيير، لكنها أيضًا دليل على المخاطر التي تنشأ عندما تغيب العقلانية. إذا أرادت المجتمعات العربية تحقيق أحلامها في الحرية والكرامة، فعليها أن تتعلم من تجارب الماضي وتعمل على تحقيق توازن حقيقي بين العاطفة والعقل.
هذه الرحلة، رغم صعوبتها، تظل ممكنة طالما وُجدت الإرادة واستمر الإيمان بالمستقبل.
الكاتب : الحسين خاوتي - بتاريخ : 10/12/2024