حقوق الإنسان والعدالة المناخية

  فدوى الرجواني 

 

في ظل التحديات العالمية المتزايدة التي تواجه كوكبنا، برزت قضايا العدالة المناخية وحقوق الإنسان كمحاور رئيسية في النقاشات الدولية التي أضفت طابعا عالميا لقضايا تغير المناخ وتفاعله المعقد مع الحقوق الأساسية للأفراد، إذ تجزم كل تقارير الأمم المتحدة وقرارات مجلس حقوق الإنسان التابع لها بالإضافة إلى كل النشطاء البيئيين أن تزايد المظاهر المناخية القصوى والكوارث الطبيعية وارتفاع مستويات سطح البحر، والفيضانات، وموجات الحر، والجفاف، والتصحر، ونقص المياه، وانتشار الأمراض الاستوائية والأمراض المنقولة بالنواقل، تؤثر بصورة مباشرة وغير مباشرة على التمتع الكامل والفعلي للأشخاص بالعديد من الحقوق، بما في ذلك الحق في الحياة، والحق في الحصول على المياه النظيفة وخدمات الصرف الصحي، والحق في الغذاء، والحق في الصحة، والحق في السكن، والحق في التنقل، والحق في الثقافة، والحق في العمل، والحق في التنمية.
وأن من يتحمل بشكل غير متناسب الآثار السلبية لتغير المناخ هم الأشخاص والشعوب والمجتمعات التي تعتمد على الأراضي وما تجود به من موارد عيش والتي تعيش أصلاً في أوضاع سيئة بسبب الموقع الجغرافي أو الفقر أو نوع الجنس أو السن أو الإعاقة أو الخلفية الإثنية أو الثقافية، ولم تساهم على مر التاريخ إلا بأقل قدر في انبعاثات غازات ثاني أوكسيد الكاربون، وتتكبد اليوم العبء الأكبر لفقدان التنوع البيولوجي وتتعرض سبل عيشها ولغاتها وثقافاتها للخطر.
في ظل هذه السياقات اختتمت فعاليات مؤتمر الأطراف كوب 29 المنعقد هذه السنة بأذربيجان، الدولة التي تثير جدلاً واسعًا ليس فقط بسبب سجلها المقلق في مجال حقوق الإنسان واستمرار التضييق على حرية الرأي والتعبير وتكوين جمعيات أو الانضمام إليها ومنع الاحتجاج السلمي بما في ذلك الاحتجاجات التي تنظمها الجمعيات البيئية وغياب وسائل إعلام مستقلة إلى غير ذلك من مظاهر غياب أبسط الحقوق الأساسية، ولكن أيضا لكونها دولة منتجة للوقود الأحفوري إذ تشكل عائداته حوالي نصف الاقتصاد الأذربيجاني، والغالبية العظمى من عائدات صادراتها. وتشكل شركة النفط والغاز المملوكة للدولة، سوكار (SOCAR)، مصدرًا رئيسيًا للدخل ومع ذلك، وإذا كان هذا الأمر لا يعني حرمان أذربيجان من بذل الجهود لتحقيق التخلص التدريجي السريع والعادل من الوقود الأحفوري أو استضافتها لمؤتمر المناخ إلا أنه يسائل جديتها في ذلك وفي جدوى انعقاد مؤتمر يعول عليه العالم لتبني قرارات صديقة للبيئة لاسيما إذا علمنا أنه في وقت سابق من هذا العام، أعلن الرئيس علييف عن خطط لتوسيع إنتاج الغاز، ما يتعارض بشكل صارخ مع التزامات أذربيجان بموجب اتفاق باريس، مما يثير تساؤلات أيضا حول مدى التزام المجتمع الدولي بالمعايير الأخلاقية والإنسانية في معالجة القضايا المناخية والتناقضات بين سياسات الدولة
المضيفة وسجلها في حقوق الإنسان.
لقد أصبح من الضروري أن تتبنى الدول سياسات مناخية تتماشى مع التزاماتها بحقوق الإنسان، ومن المفيد أن يلعب المجتمع الدولي دورًا حاسمًا في هذا السياق، من خلال العديد من الإجراءات الجدية والتي قد تساهم في الدفع بالدول لمزيد من تكريس حقوق الإنسان وتبني سياسات مناخية تقاس فعليتها على أرض الواقع، نذكر منها على سبيل المثال لا الحصر، الضغط على أذربيجان وغيرها من الدول التي تنتهك حقوق الإنسان لتحسين سجلها في هذا المجال كجزء من التزاماتها الدولية، ربط المساعدات الدولية بشروط تتعلق بحقوق الإنسان والعدالة المناخية، لضمان أن الدول المستفيدة تلتزم بمعايير محددة في مجال حقوق الإنسان، تشجيع التعاون بين الدول والمؤسسات الدولية لضمان تحقيق تقدم فعلي في مجال العدالة المناخية وحماية حقوق الإنسان.
إن قضايا العدالة المناخية وحقوق الإنسان متشابكة وتتطلب التزامًا حقيقيًا من المجتمع الدولي لتحقيق تقدم فعلي. إن عقد مؤتمرات من حجم كوب 29 في دول مثل أذربيجان يجب أن يكون فرصة لمناقشة كيفية تحقيق التوازن بين السياسات المناخية وحقوق الإنسان، وأن يكون فرصة للحقوقيين للتعبير بحرية أكبر عن انشغالاتهم وتخوفاتهم دون أن يشكل ذلك خطرا عليهم لاحقا، ولكن يبدو أن الأمر لم يتحقق في أذربيجان إذ أنه عرف حضورا كبيرا لأشخاص تتعارض مواقفهم وأهدافهم بشكل قطعي مع العدالة المناخية، إذ حضر المؤتمر الآلاف من جماعات الضغط المعنية بالوقود الأحفوري، إلى جانب رؤساء شركات النفط العملاقة مثل شل (Shell) وبي بي (BP). هؤلاء المشاركون لا يمكن إلا أن يعززوا مصالحهم الخاصة، ومعارضة الجهود الأساسية للتخلص التدريجي من الوقود الأحفوري، والضغط من أجل حلول زائفة مثل  تعويض انبعاث الكربون، ليصبح مؤتمر الأطراف، والذي حددت له اتفاقية الأمم المتحدة أدوارا حاسمة في مواجهة التحديات العالمية المتعلقة بتغيّر المناخ، موضوع جدل ومساءلة بدل أن يكون فرصة متجددة لتشجيع الدول على تقديم وتحديث التزاماتها المناخية، من أجل مزيد من تحقيق أهداف اتفاق باريس.
إن تسريع التحول إلى الطاقة المتجددة والعمل على وضع استراتيجيات ومبادرات لزيادة استخدام الطاقة النظيفة والتقليل من الاعتماد على الوقود الأحفوري يقتضي ضمان توفير التمويل الكافي لدعم الدول النامية في جهودها للتكيف مع تغيّر المناخ وتخفيف آثاره وتشجيع تطوير ونشر التكنولوجيا النظيفة والمبتكرة، التي تساعد في تقليل الانبعاثات وتحسين كفاءة الطاقة مع التركيز على دعم الفئات الأكثر عرضة للتأثيرات السلبية لتغير المناخ، بما في ذلك المجتمعات الفقيرة والنساء والأطفال، وهو ربما ما جعل مؤتمر الأطراف بأذربيجان يتخذ شعار “تضامناً من أجل عالم أخضر”، والتوصل لاتفاق نعتبره تاريخي رغم كل المؤاخذات، يوفر تمويلاً سنوياً بقيمة 300 مليار دولار لصالح الدول النامية، التي كانت تطالب بمبالغ أكبر، وهو ما وصفه الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش ب” أساس يمكن البناء عليه”، كما  أشاد المفوض الأوروبي للمناخ فوبكه هوكسترا باتفاق باكو واصفاً إياه بـ “بداية حقبة جديدة” لتمويل المناخ، مؤكداً أهمية التعاون الدولي في هذا المجال.
في هذا الصدد أيضا طالبت الدول الغربية بتوسيع قائمة الدول المسؤولة عن تمويل المناخ حسب الأمم المتحدة “1992”، مشيرة إلى أن الصين وسنغافورة ودول الخليج أصبحت أكثر ثراء، لكن للأسف لم تتمكن ذلك حيث ظلت مساهمات هذه الدول المالية “طوعية”.

الكاتب :   فدوى الرجواني  - بتاريخ : 16/12/2024