قد نحسن النية ونقول إن قضية الصحراء المغربية طالت، حتى إن العديدين، ومنهم مغاربة والباحثين والمعلقين السياسيين، نسوا بداياتها وإرهاصات اندلاعها الإرادي والمقصود، حتى إنه بتنا نرى ونسمع أن هناك فقدان ذاكرة كبير وعميق، يكاد يلخص القضية في مشاحنات ديبلوماسية وتغيب فيها، في الغالب، الأسس التاريخية لما يتم النقاش حوله.
ولعل السيد عزيز غالي دخل بين شقوق هذا النسيان، بل لعله أراد أن يقيم فرقا بين وجهة نظر القانونيين والحقوقيين منهم ووجهة نظر السياسة والتاريخ اللذين كان وراء وضع القضية من أصله.
1- في أصل الأشياء ووضع المقدمات..
ولعله أغفل، لهذا السبب أو ذاك، عمدا أو عفوا، أن جزءا من الاستراتيجية الجزائرية انبنت على إنكار التاريخ، مقابل ادعاء اعتماد القانون الدولي، بما يعني ذلك النظام الدولي الجديد الذي تفرع عن نهاية الاستعمار….
ولعل الاستماع إلى رئيس الجمعية المغربية لحقوق الإنسان، يفيد تصريحا أو تلميحا أن المشكلة تتلخص في «وجود شعب»(لم يذكره بالواضح المقصود)، محروم من حقه في «تقرير المصير» يطالب الأمم المتحدة بتنظيم هذا الحق.
وفي مضمر الكلام كذلك أن هذا الحق كان سينظم بالاستفتاء ولكن تم التراجع عنه بعد استحالة تطبيقه وبقي تقرير المصير.. معلقا كمبدأ، إلى أن فتح المغرب بابا للخروج من النفق بتقديم مقترح الحكم الذاتي….
ـ لعلنا لن نبالغ أو نظلم كل من يذهب إلى اعتناق هاته التصريحات، إذا قلنا إن في مضمرها وجود هذا« الشعب» (الذي لم يثبت وجوده يوما)، كان «على وشك أن يحقق حلم الاستفتاء الذي عرضته القوة الاستعمارية وقوة الاحتلال الإسبانية أيام فرانكو ( بالضبط سنة 1966) على غرار فرنسا مع الجزائر، وهي المرجعية المضمرة في دفاع الجزائريين، ودفاع المنتمين إلى البوليساريو أو من تبقى منهم وكذا الدفاع الذي تضمره تصريحات رئيس الجمعية المغربية لحقوق الإنسان.
وهو تسويغ بعدي لما تقدمت به إسبانيا الفرانكوية قبل الجميع..
كانت القوى اليسارية والتقدمية تدرك أن مجهودا جبارا ينتظرها في تحديد معنى تقرير المصير وحقيقته. وكانت تدرك، وما زالت، أن بعضا من القوى الفاعلة من اليسار العالمي تعتقد في الفكرة ببساطة، بطريقة شبه لاإرادية بما هي إرث تقدمي .
لهذا بذلت مجهودات جبارة في حرب إصلاح المفاهيم أو لنقل «تحرير العقليات، مع تحرير التراب»، وفي السياق الذي ذكرناه تأتي العودة إلى مرافعة الفقيد الكبير عبد الرحمان اليوسفي ، في 1975، أمام التقدميين من 70 قطرا!
2- أول صدام بين التقدميين المغاربة ومملثي نظام بومدين في محفل دولي حول تقرير المصير.
في الفترة ما بين 17 و19 شتنبر 1975 ، التقى التقدميون المغاربة والتقدميون في العالم في منظمة تضامن الشعوب الأفرو أسيوية بموسكو، أيام الاتحاد السوفياتي، وقد حضرت المؤتمر 70 دولة إضافة إلى لجنة تصفية الاستعمار التابعة للأمم المتحدة والمنظمات الدولية المهتمة بتصفية الاستعمار والمجلس العالمي للسلام. وكانت ضمن جدول الأعمال قضيتان أثارتا الجدل والنقاش الحادين، هما قضية مصر التي كانت ترتب لما بعد حرب أكتوبر 73، وقضية الصحراء.. وكانت تلك أول مرة يقع الاصطدام العلني بين التقدميين المغاربة، ممثلين وقتها بالفقيد الكبير عبد الرحمان اليوسفي والشهيد عمر بنجلون والفقيد مالك الجداوي عن الاتحاد الاشتراكي والفقيد عبد السلام بورقية (والد المخرجة المغربية فريدة بورقية) عن التقدم والاشتراكية.. وبين ممثلين عن الحاكمين الجزائريين، وكان على رأسهم الشريف مساعدية، المسؤول الأول عن جبهة التحرير الوطني الحزب الحاكم وقتها وعمار نتومي نقيب المحامين الجزائريين. وهو أول اصطدام يقع داخل تجمع دولي خصوصا وأنه تجمع للحركات التقدمية في العالم الثالث..
في المرافعة القوية التي كانت بلسان الحزبين، طور اليوسفي الذي تلا الكلمة تحليلا وشرحا قويا حول «تقرير المصير» كما دافعت عنه القوى التقدمية في النقاشات العامة وفي الفضاءات الدولية ومنها الأمم المتحدة .
ونستخلص من هاته الورقة
- أن شعب الفيتنام الذي كان وقتها قدوة في معركة تحرير البلاد هو من قدم أهم مساهمة في تطوير القانون الدولي المعاصر. من خلال اتفاقية جنيف 1954، ثم القرار الصادر في 1960.عن الأمم المتحدة بهذا الخصوص .
وكانت الولايات المتحدة قد صوتت ضد القرار وما ورد فيه لاسيما الفقرتين الـ2 والـ6 ، وكلتاهما ذات علاقة وطيدة بمفهوم تقرير المصير .
تنص الفقرة الثانية على أنه « من حق الشعوب أن تقرر مصيرها وأن تقرر بحرية وضعها السياسي لتحقق تطورها الاقتصادي والاجتماعي والثقافي.»
وتقول الفقرة السادسة« إن كل محاولة تستهدف التقويض الجزئي أو الكلي للوحدة الوطنية وسلامة أراضي أي بلد محاولة لا تتماشى مع أهداف ومواثيق الأمم المتحدة»..
وفي السياق ذاته يستشهد اليوسفي باسم الآخرين بمجهود التأصيل القانوني على يد الأستاذ نجوين نجوك هو، الذي يقول ” إن حق تقرير المصير لا يمكن أن يتعارض مع حق الاستقلال وحق السيادة، ولا يمكن أن يسيء إلى الوحدة الوطنية التي تعد من بين الحقوق الأكثر أساسية».
إن الأستاذ الفيتنامي البارز يدرك بحكم التجربة الملموسة إلى أي حد يمكن أن تنخدع القوى القديمة بأساليب تسخير وتحريف هذا المبدأ، لذلك نراه يضيف : أن خبرة فيتنام توضح أن المسألة الوطنية في عصرنا هي في جوهرها مساندة النضال ضد الاستعمار الجديد .
ومن غريب النكاية الجزائرية أن هذا القرار صدر أيام نضال حركة التحرير الجزائرية الأصلية العظيمة .
ومما قاله الوفد المغربي على لسان الفقيد اليوسفي في مرافعاته« أن فرنسا كانت تقصر ( تحصر ) الكيان الجزائري على الأقاليم الشمالية وترفض أي مناقشة لمسألة الصحراء (الجزائرية هنا)» .
ولما توقفت المفاوضات في لوجرين ( الفرنسية واحدة من أفضل الأماكن التي يمكن زيارتها في فرنسا، حيث تتميز بجمالها الطبيعي وموقعها الاستراتيجي على ضفاف بحيرة جنيف) ، بين فرنسا وجبهة التحرير، أصدرت الجمعية العامة القرار 1724 بمثابة ندا«ء باستئناف المفاوضات من أجل إقرار حق الشعب الجزائري في تقرير مصيره بحرية واستقلال في مراعاة وحدة الأراضي الجزائرية وسلامتها».
وفي خضم هاته المعارك القانونية والسياسية ذات الصلة بتحرير الشعوب والدول ، كان المنطق الذي دافعت عنه حركات التحرير في دول إفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية ونخبها الحاكمة، هو أن الفقرة 6 «تحتفظ للدول التي قسمها الاستعمار بحق إعادة توحيد أراضيها الوطنية ». وهو ما يصدق جملة وتفصيلا على المغرب أكثر من غيره نظرا للاستعمار الموزع الذي تعرض له!..
وقد اعتبر التقدميون المغاربة أن الشعب الفيتنامي هو صانع هذا الإنجاز، الذي يعتبره أغلب الخبراء والمتابعين حجر الزاوية في القانون الدولي المعاصر . وذلك لأن الشعب الفيتنامي خاض معارك ضارية من أجل استقلاله ووحده أراضيه.
ولم تكن الإحالة على الفيتنام محض إعجاب واعتراف وتقدير بل كانت تحيل على أن »الشعب الفيتنامي صقلته المعارك من أجل الوجود، تماما كما المغرب، ومن ذلك يقول الوفد المغربي، إن المغرب خاض معارك عمرها أربعة قرون من أجل وحدة أراضيه منذ الاستعمار البرتغالي الأول ثم الإسباني ثم الاستعمارين الإسباني والفرنسي،.. وهي «معارك واجهها الشعب خارج أو ضد السلطات الرسمية التي انحنت أحيانا للقوى الاستعمارية وقبلت شروطها»…!
وكان من صميم المرافعة أن تحدث الأخوة الرفاق عن الاستعمالات الخبيثة التي يلجأ إليها الاستعمار وقتها، حيث قال عبد الرحمان اليوسفي إن« الاستعمار الجديد يستعمل، بمنتهى الخبث، مبدأ تقرير المصير، «وهكذا فقد أصبح مبدأ تقرير المصير هنا ذريعة ومهربا تستخدمه الفاشية الإسبانية ذاتها، ونعتقد أن علينا أن نعود إلى المعنى الذي تضفيه الشعوب المناضلة على هذا المبدأ .
جيش التحرير يقرر المصير بالسلاح!
وفي نضال الشعب المغربي المسلح من أجل تحرير الصحراء يورد اليوسفي أمرين أساسيين:
ـ النقطة البارزة الأولى: هو قرار المجلس الوطني للمقاومة، والذي انعقد في غشت 1956 في الرباط، واتخذ قراره بالعمل على تحرير الصحراء بالرغم من الترددات الرسمية!
ـ النقطة البارزة الثانية هي تشكيلة جيش التحرير. وقد استشهد المتحدث بما نقلته صاحبة كتاب مناهض للمغرب وحقوقه الإنسانية.. وهي السيدة كريستين جارنييه في كتابها (( الصحراء الخصبة .. موريتانيا دولة جديدة
” D?sert fertile: la Mauritanie un nouvel ?tat “، وهو كتاب لم يكن يناصر الموقف والمطالب المغربية حيث تقول :« وحول مندوبي الاستقلال يتجمع رجال جاءوا من كل القبائل المغربية، رجال صبغهم(طبعهم) العمل السري، ولا يمكن ـ رغم الاعتراف باستقلال المغرب كدولة - دفعهم إلى ترك سلاحهم .. وفي جوليمين ..( كليمين ) يوجد جبليون من منطقة الريف ، وبربر من جبال الأطلس المتوسط وتافيلات ، وجزائريون من جبهة التحرير الوطنية .. وأخيراً سكان الصحراء والركيبات . ومن مثل هذه العناصر يتشكل جيش التحرير … ) (ص 197) . ويختم اليوسفي بالقول «: هكذا فإن أمامنا هنا - حتى في رأى كاتبة معادية، المغرب كفاحا يجمع كل عناصر شعبنا من أقصى الشمال إلى أقصى جنوب الصحراء »…
ونجح جيش التحرير في تحرير الصحراء في 1957 و 1958 وانسحبت الفرق العسكرية الإسبانية نحو الشاطئ، بعيدا عن التراب الصحراوي.. ولولا عملية إيكوفيون الشهيرة، على إثر تحالف إسبانيا وفرنسا، لما كانت هناك قضية الصحراء أصلا..
وإذا كانت إسبانيا قد اضطرت في النهاية إلى التخلي عن إيفنى في عام 1969، فإنها لم تنفذ قرارات الجمعية العامة بشأن الصحراء، بل إنها رفضت ابتداء من عام 1969 التصويت عليها ، لأن الفرانكوية بالتعاون مع الاحتكارات الإمبريالية كانت تعد لاستغلال مناجم الفوسفات التي اكتشفت في بوكراع، وتطلب الأمر انهيار النظام الفاشي في البرتغال وانطلاق عملية تصفية الاستعمار في إفريقيا لكي تتبنى الفاشية الاستعمارية الإسبانية لحسابها شعار تقرير المصير والاستفتاء إلخ … وأمام هذه المناورة الاستعمارية الجديدة التي تسيء إلى الحقوق الأساسية للمغرب وإلى حق سكان الصحراء في تقرير المصير الحقيقي«…
وأمام الأوضاع والمواقف التي أمكن للفرانكوية أن تستند إليها لكي تبدو كمدافع عن تقرير مصير الشعوب، اختار المتحدث التذكير بحقيقتين بديهيتين :
أولاهما أن الاستراتيجية الاستعمارية. تبقى استعمارية حتى ولو كانت تختفي خلف شعار تقرير المصير وحتى لو تبناه أولئك الذين يرفقون به شعارات أخرى تبدو معادية للاستعمار ومناهضة للإمبريالية.
+ ليست قرارات الإدارات الاستعمارية أو الدوائر التي تخلقها هذه الإدارات هي التي تخلق الشعوب والأمم وإنما الذي يخلقها هو نضال الشعوب ضد الاستعمار والعدوان الأجنبي …
كيف انتهى الاجتماع الأفرو أسيوي يا ترى؟
لقد صادر بيانا واضحا نقرأ فيه بالواضح« أن المجلس الثاني عشر لمنظمة تضامن الشعوب الأسيوية الإفريقية المنعقد بموسكو من 17 إلى 19 شتنبر 1975 يؤيد نضال الشعب العربي في المغرب من أجل تحرير الصحراء والمدن المغربية التي ما زالت تحت الاستعمار الإسباني». وهي الفقرة التي عرفت مواجهة حادة بين كل من الشهيد عمر بنجلون والمرحوم مالك الجداوي، اللذين أرسلهما الوفد لمواجهة مؤامرة الجزائر في لجنة الشؤون الإفريقية، وهي المؤامرة التي سعت إلى إسقاط كلمة« المغرب من الديباجة» ولكي تصبح الفقرة تتحدث عن الشعب العربي، في مطلقه وتبرر هدف «الدول المعنية ومنها الجزائر!
خلاصات بعيدة قريبا، قريبة بعيدا:
1ـ قد يختار. الواحد منا أن يسقط من تفكيره مرجعيات جيش التحرير الذي وصل إلى أن حرر مجموع التراب في الإقليم الصحراوي في 1958 ، ومرجعية المقاومة ومرجعية الحركة الوطنية. برمتها بتأليف إيديولوجي قانوني ( نوع من اللينينية الحقوقية l?galisme l?ninisme) ..، ويصبح غريبا لأزيد من نصف قرن عن مرجعيات الحرية في وطنه، ولكن المعروف أن الأمم المتحدة لا تملك سوى أماكن لغوث اللاجئين وضحايا الهجرات و….المشردين الإيديولوجيين، !
2ـ تقرير المصير، وبتجربة الأمم المتحدة نفسها، له أكثر من طريق، ومن هاته الطرق ما يقترحه بلدنا المغرب وما تقترحه جهات أخرى . وفي هذا يمكن أن يكون الإنسان حرا في أن يصنع أممية لنفسه، لكن الأممية لن تصنع له وطنا!
وعلى هامش هذا، يعتقد المغاربة أن من الصعب أن تكون أنت وعدوك على صواب في قضية خلافية، ومن هنا هذا المبدأ النبيل في شكلياته، يصبح عقيما في جوهره، بفعل التاريخ وتطور الإشكال وتغير الحاملين لمشروعه: كما هو نظام عسكري ضاغط غير سوي سياسيا ولا إيديولوجيا،لا يغامر بتقرير مصير شعبه ديموقراطيا.
3ـ في التخوين والاختلاف والديموقراطية
أنت لست في حاجة إلى تخوين … مَنْ خوَّن نفسه!
إن الديموقراطية لا تحتاج من لا يؤمن بالوطن لكي تقوم.. لأنه لا وجود لديموقراطية إلا فوق أرض الوطن.!وليس ضروريا أن يكون هناك من يتنكر لوطنه لكي تقوم الديموقراطية، فتعلمنا أن هذا الصنف لا يقتنع بأية ديموقراطية يريدها الوطن، بل لعلها تكون فقط مصطبة ومنصة لما يعاكس الوطن أصلا لا لكي يكون هناك مردود على الاستثمار الديموقراطي في الإنسان!
وأمامنا نصف قرن من التجربة التعددية حتى لا نقول الديموقراطية، هل كانت هناك أدنى مساهمة في تقوية النسيج الديموقراطي، بدءا من الداخل نفسه..!
ـ يمكن للدستور أن ينزع عنك ما منحتك إياه الديموقراطية، وفي هذا يحسن بنا تأمل قضية الكاتالونيين في إسبانيا، بين ممارسة التعبير الانفصالي والحق فيه، والتنظير له ومنع الاستفتاء وتنظيمه الصادر بسلطة القانون التي يمنحها الدستور.
إن المساءلة الوطنية هنا لا تعني الاستنجاد بالسلطة ولا بالعنف المشروع ولا بقوة القانون. أبدا، ولا يجب أن تكون كذلك، ولا يجب أن تكون عقيدة السلطة لحل إشكال فكري عجز المجتمع عن حله…
5 ـ تقرير المصير اللينيني …تم استخدامه في السبعينيات بما يجعل لينين خادما عند فرانكو، وهناك من يريد للينين أن يكون خادما عند … شنقريحة!